الدكاترة في البرلمان !! (موقع البحث العلمي في التنمية)

الدكاترة في البرلمان !! (موقع البحث العلمي في التنمية)

- ‎فيرأي
187
6

 

الدكتور بن لحمام بوجمعة
إن أيا من أمم الدنيا لم تبن حضارتها ومجدها على غير أكتاف البحاثة والعلماء من بنيها ، في كافة فروع المعرفة العلمية والأدبية. فهؤلاء هم قاطرة كل نهضة شهدتها حياة أمة من هذه الأمم ، قديمها وحديثها ؛ وهم من يقف وراء أي من وجوه التقدم والتنمية التي تتحقق في الإنسان والإدارة ، وفي الإنتاج الصناعي والفلاحي ، وفي كافة مرافق الحياة الأخرى. ولذلك كان إيلاء العناية بهم ، من جهة ، واستثمار طاقاتهم ومواهبهم ومعرفتهم ، من جهة ثانية ، مما تحرص عليه هذه الأمم أشد الحرص ، وتجعله ضمن أولوياتها الثابتة.
وبلدنا المغرب لن يكون بدعا من بلاد الدنيا وأممها فلا تشمله هذه المقولة في بناء الحضارات ، وفي تقدمها وتخلفها. بيد أن سياساتنا -وهذا مثار أسف شديد – تقطع بأننا ما نزال بعيدين ، كل البعد ، عن تمثل ما تنطوي عليه أسس المقولة من أبعاد خطيرة وحاسمة ، وعن وعي الحكمة العميقة في ذلك ، والتي تحضنا دون غوائل الخطإ في التخطيط ، ودون القرارات غير الرشيدة. ولعل أقرب مثل مبين هو هذه القرارات السياسية التي قضت أن الدكاترة ، وهم الفئة المخولة ، أكثر من غيرها قطعا ، لمهام البحث العلمي ، ولتحدياته المختلفة في التنسيق والتحويل إلى مختلف دوائر التصنيع والإدارة والنقل المعرفي… إلخ ، يجري إهدار العدد الأكبر منهم – وهو بالآلاف بالمعنى الحرفي للرقم، ومن مختلف التخصصات بما في ذلك العلمية الدقيقة كالفيزياء النووية وغيرها – في وظائف لا صلة لها من قريب أو بعيد بالأدوار البحثية التي تأهلت لها هذه الفئة عبر دراستها وتكوينها. ويعجب المرء أنه لطالما جرى التنبيه ، وعبر حكومات مختلفة ، إلى هذا المشكل الخطير ، دون أن يتحرك أحد من المسؤولين تحركا جادا ، أو تعمل إحدى هذه الحكومات على تصحيح الوضع ، الذي كان يحتاج فقط إلى التخطيط ؛ مجرد التخطيط والتنظيم فحسب !! وليس إلى أية تكاليف مادية ، كانت على الدوام هاجس مسؤولينا ، والخط الأحمر الحساس الذي لا يجوز تجاوزه !! بل إننا على الحقيقة ، وبحكم هذه السياسات العمياء ، ضيقة الأفق ، قد فوتنا على البلد فرصا تاريخية ، ومناسبات سانحة ، لتطوير اقتصادنا ، وتحقيق التنمية المنشودة التي من شأنها أن تعود على خزائن الدولة بعائدات ومداخيل، تفوق حتما ما تراهن عليه من سياسات لا تجعل المعرفة ، إنتاجا واستثمارا وتسويقا حتى ، ضمن أولوياتها !!
* * *
واليوم ، ونحن نثير هذا الموضوع ، لا نفعل ذلك لنقلب شجونه القديمة ، ولا لنذكر بحقائقه وأبعاده ذات الخطورة على وضع بلدنا بين بلاد العالم ، والتي لم يعد أحد ، كبيرا أو صغيرا ، يجهلها، بل لنتحدث عن تطور مخصوص يعرفه هذا الملف ، يمكن – إذا توفرت الإرادة السياسية ، وكانت الحكومة الراهنة بمستوى الحدث– أن يكون فاتحة لعهد رشيد في هذه القضية الوطنية ، يضع بلدنا على أولى محطات الحل الصحيح الذي يتيح شروط إصلاح حقيقي لمجمل الأوضاع المختلة ، التي ترتبط بها ، وتنتج عن تداعياتها السلبية. وإنه ، في واقع الأمر ، لرهان وطني استثنائي ، وورش إصلاحي تاريخي ، لم يعد أمام البلد ، قطعا ، من مجال أو مسوغ لتأخيره واستمرار إهماله ، أكثر مما تأخر وأهمل…
والأمر يتعلق بمقترح قانون بإحداث النظام الأساسي الخاص بهيئة الدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، والذي كان تقدم به ثلة من السيدات والسادة النواب عن فريق الاتحاد الدستوري. ولعل هذا المشروع أن يكون معروفا لدى المتتبعين للشأن البرلماني لأنه كان طرح قبل فترة ، وهو الآن قيد الدرس والمناقشة ، ولربما يدرج ضمن المشاريع المصادق عليها في الميزانية المقبلة ، إذا تم التصويت عليه في الأيام القليلة القادمة . أما عموم الدكاترة ، من غير المناضلين طبعا ، والذين دفنوا أحلامهم وطموحاتهم بين ركام الأوراق والملفات على مكاتبهم المنزوية في دواليب الوزارات المختلفة ، وما عادوا يتذكرون ، في رتابة حياتهم وظروفهم ، ما أهلوا له من دور في البحث العلمي ، ومستواهم العلمي وخبراتهم البحثية… فلعلهم لم يسمعوا بمشروع القرار ، ولم يعرفوا عن تطور ملف يهمهم أي شيء !! ولعلها أن تكون مناسبة لهؤلاء ، بل ولكل الدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة (ومنهم دكاترة التربية الوطنية بعددهم الأكبر) كي ينفضوا عن أنفسهم غبار الخنوع والاستسلام والأنانية ، ويهبوا للدفاع عن حقوقهم وعن كرامتهم في وجه فئة من المسؤولين الذين لا تهمهم مطلقا مصلحة الوطن ، أو أن تهدر أعظم مقدراته وموارده وطاقاته بلا معنى … وليعلم الدكاترة أنهم سيكونون شركاء في هذه الخطيئة في حق الوطن إلى جانب هؤلاء سواء ، إذا ما ظلوا مؤثرين خيار الخضوع للأمر الواقع ، والاستسلام لسياسة الإقصاء والحيف والتهميش التي تستهدفهم. إن الحق يغلب الباطل دائما إذا ما وجد له مناصرين مؤمنين به ، بل ويغلبه على كل حال . ويتبين ، بالمقابل ، من كانوا يركنون إلى الباطل والظلم والعماء أن الحالة الجديدة أفضل لهم هم أيضا. فلذلك ليس ثمة من حل خيرا للجميع من أن تسود العدالة ، وينال الناس حقوقهم ، وتقدم المصلحة العامة ، ومصلحة الوطن في القرارات المختلفة ، الجماعية والفردية كذلك. إن إيمان الدكاترة بحقهم ، ودفاعهم عنه بكل وسيلة ممكنة ، ودون هوادة أو تنازل ، هو بمثابة المعادل الموضوعي لقرار سياسي سديد تتجاوز معه البلد تحديات هذه القضية الوطنية المصيرية..
إن سياق حديثنا ، في هذا الجزء من الموضوع ، يقتضي أن نتقدم بتحية إجلال وتقدير للإخوة في النقابة الوطنية المستقلة لدكاترة المغرب على هذه الحالة النضالية المثالية ، التي مكنت من أن يصل الملف إلى ما وصل إليه. وسيظل عموم الدكاترة ، إذا ما انتهى المسار الحالي إلى الطي النهائي للملف ، مدينين لجهود هؤلاء الإخوة ونضالهم الصادق من أجل قضية الدكاترة. ولابد أن يسجل التاريخ أن ملف الدكاترة في مرحلة من مراحله ، عندما ساد الاعتقاد بأنه أقبر لمرة أخيرة وغادره أهله ، سيبعث إلى الواجهة في عمل نضالي خلاق ، من طرف هؤلاء الدكاترة النقابيين. كذلك يمكن التأكيد أن عموم الدكاترة سيجدون مبادرة فريق الاتحاد الدستوري بتبنى مشروع القرار ، جديرة بكل تقدير وكل احترام. ولعل هؤلاء الإخوة والأخوات النواب – استكمالا لمبادرتهم ومضيا بها إلى نهايتها – ألا يقفوا عند حد تقديم المقترح ، بل يعملوا ، بكل وسيلة ممكنة ، على أن تؤيده كل الأطراف البرلمانية المعنية بتمريره والمصادقة عليه. وإن هذا المشروع ، لو كتب له أن يرى النور ، ويجد الطريق إلى التنفيذ ، فسيكون بمثابة منعطف كبير – يجب هنا استحضار أعداد الدكاترة في المستقبل ، ومراكز البحث المدنية والخاصة ، والتي ستنخرط جميعها في خطة التنمية الوطنية – ينتقل معه المغرب من وضع البلد النامي إلى وضع ، مفاصل تماما ، تدخل معه البلاد في مصاف الدول المتقدمة ، والتي ما سميت كذلك إلا برهانها الحاسم على البحث العلمي والمعرفة. وستسجل هذه المأثرة كواحدة من الإنجازات التاريخية لهذا الفريق ولحزبه العتيد.
ومهما بدا أننا ضيقنا النقاش حول هذه القضية الكبيرة ، بحشرها ضمن أطر تعيينية خلافية ، فإننا لسنا نتنازل، ولو قيد أنملة، عن الطابع التجريدي الكلي الذي يفترض أن تعالج ضمنه كقضية وطنية تسمو فوق كل الاعتبارات السياسوية والفئوية ؛ فلا يتردد بشأنها ، أو يخضعها للحسابات الضيقة ، إلا كل خائن للوطن ، ساع إلى إبقائه ضمن دائرة التخلف والتبعية ، وضياع المقدرات.
واليوم ، ومع الاعتقاد بأن الشروط قد توافرت ، فإنه لم يعد من مسوغ لأحد في تسويف أسباب الإقلاع التنموي الحقيقي والفعلي. ويتوجب عدم التسامح مع كل من تسول له نفسه العبث بالوطن ، وعرقلة مساره التنموي. ويكفي هؤلاء الذين أوصلوا المنظومة التعليمية إلى الوضعية الكارثية الراهنة، والتي أشار إليها جلالة الملك في أحد خطاباته الأخيرة.. أقول يكفيهم عارا وإهانة أن يصنف تعليمنا كواحد من أفشل النماذج التعليمية في العالم ضمن التقارير الدولية ، وآخرها كان قبل أشهر معدودة ، على صعيد جميع مستوياته ، من التعليم الأولي إلى التعليم الجامعي..
* * *
في مكونات المقترح
يتكون مقترح القانون من جزءين : جزء يضم تقديما، وجزء ثان يشمل نص المقترح. في التقديم يجد القارئ بسطا لمجمل الاعتبارات الداعية لسن هذا القانون وتنزيله ، والتي يظهر من خلالها – باعتبارها توصيفات موضوعية لأشكال من الاختلال – أن قضية التحديث المعرفي من جهة ، وملف الدكاترة من جهة ثانية ، يمكن حلهما بصفة نهائية ، اعتمادا على ما يقدمه نص المقترح من معطيات نظرية وصيغ إجرائية دقيقة ، من مثل فكرة الأفقية ، ومعطى الإبقاء على الموارد في مكانها ، وكذا الإخراج التنظيمي القانوني (أبواب ومواد دقيقة وشاملة) ، مرفقا بأطر تنزيلية تنفيذية لمواد القانون.. وغيرها. إن مختلف الشروط المقترحة للحل متوفرة ، كما يمكن أن يتبين كل مطلع ، وليس ينقص غير الإرادة السياسية التي ستكون أمام اختبار يتحدى إيمانها بالوطن ، وبمصالحه العليا ، وضرورة صون مقدراته ، وتدبيرها التدبير المعقلن ، كما يتحدى مدى وعيها بدقة اللحظة الراهنة من عمر هذه القضية ، وكونها فرصة تاريخية لتحقيق تقدم حاسم في إشكالية التنمية الحقيقية ببلدنا ، لا يجوز تفويتها..
أما الجزء الثاني من المقترح فيضم – كما أشرنا من قبل – نص مقترح القانون ؛ والذي ينقسم إلى خمسة أبواب : يضم الأول ست مواد تتعلق بإحداث هيئة الدكاترة وتسميتها ، وشروط العضوية ، والوضعية الإدارية ، والمهام الموكلة. وهذه الأخيرة ، ونظرا لأهميتها من موضوعنا ، فإننا نرى أن نعرضها كما وردت في مقترح القانون ، والذي يلخصها في خمس مهام أساسية هي :
– تطوير البحث الأساسي والتطبيقي والتقني والإداري والتكنولوجي وتقييمه ،
– إنجاز الدراسات وتقديم الخبرة اللازمة والمساهمة في إعداد البرامج والمخططات ،
– التأطير والتكوين والتدريس بالجامعات والمعاهد العليا ومؤسسات تكوين الأطر ،
– المساهمة في تبادل المعارف والتعاون العلمي وطنيا ودوليا ،
– المشاركة في الملتقيات والندوات الوطنية والدولية ونشر البحوث المنجزة.
– أما الباب الثاني فيشتمل على سبعة عشر مادة ترتبط بشروط التوظيف ، وأطر الهيئة ، وتصنيف كل إطار من حيث الدرجة ، والرتب التي يشملها وأرقامها الاستدلالية ، إضافة إلى شروط التعيين والترقية في كل رتبة. وهناك مادة ، ما قبل الأخيرة في هذا الباب ، تتحدث عن هيئة منتخبة ومحدثة من طرف الدكاترة ، ذات تمثيل وطني وقطاعي ، تسهر ، بالتنسيق مع الإدارة المعنية ، على تدبير الحياة العملية لموظفي هيئة دكاترة الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة. ويحدد نص تنظيمي كيفية إحداثها واختصاصاتها.
– ويشمل الباب الثالث مادة واحدة ، هي المادة 24 ، وتتعلق باحتساب التعويضات بناء على : الأعباء الإدارية ، البحوث والدراسات والخبرة والتأطير والتكوين وفي هذه المادة حالة على الملحق رقم 1 من مشروع القانون ، الذي يضم تفاصيل هذه التعويضات.
وفيما يخص الباب الرابع والأخير من هذا المقترح ، فيضم ، هو أيضا ، مادة واحدة ، وتتصل بتنقيلات الدكاترة بين القطاعات والمؤسسات الأخرى.
ولعل التكامل والتقدمية أن تكونا السمتين الأظهر في هذا المقترح ، كما تبرز ذلك أبوابه ومواده ومرجعياته ، بما يجعله الحل الأكثر ملاءمة وموضوعية ، سواء لملف الدكاترة ، أو لقضية التحديث عن طريق المعرفة والبحث العلمي ، التي تطرح على بلدنا..
* * *
نعرض هنا ، على أنظار القارئ ، وعلى الرأي العام عامة – ضمن عناوين فرعية، وفي اطار تحليلي – الخطوط العريضة لمقترح القانون ، مركزين خاصة على المحاور ذات الصلة بقضية البحث العلمي ، وذلك بهدف إبراز نقاط القوة والموضوعية في هذا المقترح ، بما يؤكده أنه أنسب حل لملف الدكاترة من جهة ، وكونه من جهة أخرى ، الاستراتيجية الأكثر موضوعية ومرونة للنهوض بالتحديات المختلفة التي تطرحها قضية التحول إلى مجتمع المعرفة ومجتمع البحث العلمي المنظم، والفاعل في تنمية البلد وتقدمه.
الوضعية الراهنة
يعد الدكاترة ، من الناحية النظرية ، بل وحتى مما يشهد به واقعهم في مجموع الدول المتقدمة ، بل وفي معظم بلاد العالم حتى النامية منها ، الفئة الأكثر تأهيلا لمهام وأدوار التأطير والبحث والتكوين ، والدراسات والتحليل والتقييم ، والأكثر انخراطا ، فعليا ، مقارنة بغيرها ، في أعمال البحث العلمي والمعرفة الجارية في الجامعات والمراكز والمؤسسات البحثية المختلفة على مستوى العالم، بما يجعلهم قاطرة التنمية في بلدانهم ، ومن يتحملون العبء الأكبر في تحقيقها..
لكن من ينظر إلى وضع الدكاترة في المغرب يقف على واقع شديد المفارقة ؛ إذ سيجدهم توكل إليهم كل الوظائف وكل المهام إلا مهام ووظائف البحث العلمي. وهم ليسوا الآن أكثر من كثلة بشرية معطلة في الإدارات المختلفة في القطاعات العمومية ، والجماعات الترابية ، والمؤسسات العامة ، مقحمين في إطارات مختلفة كمتصرفين ، ومساعدين طبيين ، ومفتشي الشغل ، وأساتذة للتعليم الثانوي ، بل والإعدادي أيضا .. ولقد بات هذا واقعا يتنذر به الناس في سخرية مريرة ؛ فمتى تنتهي هذه الأوضاع المأساوية ببلدنا ؟
مسوغات الإصلاح
ويطرح مقترح القانون جملة اعتبارات يرى أنه لم يعد من الممكن معها ، تأجيل حل هذا الملف، ومنها :
– كون وضعية دكاترة الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة متأزمة ، بالنظر إلى الأوضاع المعنوية والمادية التي تعيشها هذه الفئة ، وتفوت عليها عدة مناسبات لتحقيق تقدم في ملفها المشروع والعادل ، كان آخرها تكوين لجنة وزارية منتصف مايو 2011 بأمر من الوزير الأول السابق السيد عباس الفاسي ، الذي أكد خلال مجموعة من الاتفاقيات القطاعية على حل مشكل الدكاترة بشكل أفقي ، نظرا لتواجدهم بجميع القطاعات.
– كون فئة الدكاترة حائزة على أعلى شهادة جامعية ، متوجة لمسار أكاديمي قوامه البحث والإنتاج ، وبذلت فيه جهودا مهمة وسنوات عدة أفنت فيها زهرة شبابها ؛ حيث كانت لها مساهمات قيمة في مجال البحث العلمي على المستوى الوطني والدولي.
– كون تشغيل وتوظيف هذه الفئة جرى وفق مقاربة حكومية تغيب عنها الرؤية التنموية والوطنية ؛ إذ تم توزيع الدكاترة رغما عنهم على القطاعات العمومية ، والجماعات الترابية ، والمؤسسات العامة ، دون مراعاة الإطار الذي يناسب شهاداتهم وتأهيلهم العلمي ، وذلك بإقحامهم في إطارات مختلفة كمتصرفين ، ومساعدين طبيين ، ومفتشي شغل ، وأساتذة للتعليم الثانوي والإعدادي .. والأنكى من ذلك ، كون هذه المقاربة حكمت برؤية طبقية تعكس واقعا مريرا ومحبطا ، ليتأزم واقع الدكاترة بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، بالنظر إلى المهام التي أوكلت إليهم ، والتي لا تعدو أن تكون ذات طبيعية روتينية وجد ثانوية ، بدل أن تناط إليهم أدوار التأطير والبحث والتكوين ، والدراسات والتحليل والتقييم ، والخبرة ، حتى يساهموا بدورهم في الرقي بالمرفق العمومي ، الذي يشكل محركا أساسيا للاقتصاد الوطني وللرقي الاجتماعي.
– كون هذه الفئة غيبت ، وما تزال مغيبة ، في مشاريع الإصلاح الإداري ، التي ترسم لنفسها كهدف :
أ – تطوير الخدمة العمومية بناء على العنصر البشري ، والذي يشكل قطب رحاها ، باعتبار أن أهم محاورها ، حسب الخطاب الرسمي ، هو تطوير منظومة الأجور في الوظيفة العمومية والقطاعات التي تعمل وفق قوانين الوظيفة العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة..
ب – تأهيل الموارد البشرية وتطوير أساليب تدبيرها..
من هذا المنطلق ، لا يمكن تجاهل أو تغييب الدكاترة باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الجسم المكون لموظفي الإدارات العمومية كباقي موظفي الدولة ، وذلك من حيث مستوى الشهادات والكفاءات المكتسبة ، والمساهمة الفعلية والبناءة في أوراش التحديث والتأهيل ، بحيث لا يمكن أن تستقيم هذه المنظومة إلا باحترام الوضع الاعتباري للدكاترة معنويا وماديا.
– ضرورة تبني الدولة رؤية إيجابية غايتها تحرير الدكاترة من كل مظاهر الإقصاء والتهميش ، والارتقاء بأوضاعهم الاجتماعية ، لأن من شأن تمتعهم بإطارهم القانوني الدستوري أن يشكل رافعة أساسية للبحث العلمي ببلادنا ، وحلقة وصل بين الجامعة والقطاع العام والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، وذلك وفق رؤية منسجمة لجامعة وطنية منفتحة ، وفاعلة على جميع المستويات..
– كون المقترح ثمرة نقاش بين جميع دكاترة الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، ويترجم تطلعات هذه الفئة لواقع أفضل. ومن ثمة فإن إقرار نظام يقضي بإحداث الهيئة المنظمة للدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ؛ كبوثقة تنصهر فيه هذه التطلعات التي ترمي إلى تحقيقها هذه الفئة منذ ولوجها الإدارة التي تشكل الأداة والآلية التي تدير النشاطات والتوجيهات الحكومية ، والتي تهدف إلى تنفيذ السياسات العامة للدولة بأساليب علمية ، من شأنه رفع الكفاية الإنتاجية في الأجهزة الحكومية، وفق التزام أخلاقي يقضي باحترام الصالح العام ، ومراعاة تطبيق العدالة في معاملة العاملين لديها ، والمساواة بين المرتفقين لتحقيق المسؤولية الاجتماعية.
– كون التوجه المشار إليه لا يمكنه أن يستجيب لطموحات الإدارة المغربية إلا إذا كان مبنيا على بحوث ودراسات علمية تخطيطا وتنظيما وتوجيها وقيادة وتنسيقا ورقابة ، وتنمية لمجهودات ومهارات العاملين لديها ، لخدمة المواطنين وإشباع حاجياتهم. ومما يؤسف له في هذا السياق أن إدارتنا ، التي لازالت تنهج سياسة إقصائية وتهميشية إزاء نخبها ، تعتمد على مكاتب دراسات خارجية خاصة ، بل وحتى أجنبية لإجراء دراسات ، كلما تعلق الأمر بإشكالية تخصها..
– ضرورة اعتماد البحوث والدراسات والمناهج العلمية من لدن الإدارة العامة ، باعتبارها – أي هذه الإدارة – هي الحاضنة والموجهة والمشرفة على كل التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والدينية والرياضية.. ، في علاقاتها الإقليمية والدولية ؛ إذ إن هذه البحوث والدراسات والمناهج ، تضمن نجاح قراراتها الآنية والاستشراقية ، سواء من خلال التشريع أو العمل الميداني ، لتحقيق التعاون بين مختلف السلطات السياسية والاجتماعية.
* * *
إن أي دارس منصف سوف يرى في مجمل هذه المسوغات أسبابا وجيهة وواقعية تفرض ضرورة التصدي المستعجل للمشكل المطروح. بل إن ثمة خصائص مميزة كالمرونة ، والموضوعية ، وبساطة الطرح ووضوحه ، تجعل هذا المقترح مضمونا وسهلا من حيث إمكانيات تنزيله وتنفيذه على أرض الواقع. ولعل هذا من بين أخطر العوائق التي كانت تحول سابقا دون حل قضية البحث العلمي ؛ إذ لم تكن ثمة أطر نظرية واضحة ، كما لم تطرح خطة إجرائية لها منطلقات مادية محددة في أرض الواقع ؛ بحيث يسهل بدء تنفيذها من هذه النقطة الموضوعية ، والمضي في هذا التنفيذ وفق خطوات إجرائية معروفة لا يمكن أن تتوقف أو تتعثر. ونعتقد أنه مع الخطة التي يتضمنها المقترح فإن الحل بات أكيدا لا يحتاج غير أن تتوفر الإرادة لتنفيذه. وللتوضيح فإننا نوجه إلى جوهر هذه الخطة : الموارد البشرية التي تتكلف بالبحث العلمي – وهي نقطة الانطلاق – تتوفر لديك ، وضمن مختلف التخصصات العلمية والأدبية – وجميعها بمناصبها المالية – كما تتركز أفقيا ضمن مختلف الوزارات ، إذن ، يبقى فقط أن تدفعها للبحث العلمي ، وتنظم هذا البحث ؛ وهو ما يتكفل به قانونيا هذا المقترح. وسنحتاج بعد ذلك زمنا لن يطول كثيرا كي تحتوي المسيرة المنطلقة كل الجهود البحثية بما فيها المستجدة (الدكاترة الجدد خاصة) ، وغير الأكاديمية من أطراف ومراكز بحث مدنية أخرى. إن تحقيق البداية الإجرائية المذكورة ، التي نظمها مقترح القانون ، سيكون حتما ، فاتحة عهد جديد ببلدنا تخرج معه من حال الدولة التي لا تعتمد البحث العلمي في تطوير ذاتها ، إلى حال الدولة التي قوام تنميتها وتقدمها البحث العلمي ، المرتبط والمنسق مع دواليب الإنتاج الصناعي والفلاحي والخدماتي المختلفة ، والمتطور بتطور حاجيات المجتمع ، وبانفتاحه على البحث العلمي في الدول الأخرى ، أخذا وعطاء. إننا ، وفي واقع الأمر ، أمام فرصة كأنما جادت بها السماء فجأة ، ستكون بمثابة حل جدري وأكيد لمشكل التنمية الحقيقية والشاملة في بلدنا ، والذي طالما تعثر لأسباب مختلفة. فهل يتصور أن نفوت هذه الفرصة التاريخية ؛ فلا نبذل الحزم الواجب ، ونضيع على بلدنا ، بالتالي ، موعدها المقدور مع الانتقال التنموي. إن ما أعتقده خير وأوجب قرار حيال مقترح القانون في البرلمان الآن أن تتم المصادقة عليه دون تردد ، وأن يحرص بعد ذلك أشد الحرص أن يتم تفعيله بشكل دقيق على أرض الواقع. وإني هنا لا أقصد مطلقا ما سيستفيد منه الدكاترة من امتيازات – إن كان ثمة من امتيازات يستحقونها أو لا يستحقونها- بل أقصد بالمعنى الحرفي أن يتم عن طريق هذا الحرص ضمان آليات مراقبة دقيقة وشديدة لمجريات الأعمال البحثية ، بما يكفل العطاء المتواصل والجاد للدكاترة. إننا لو نتمكن من ضمان أن يشتغل الدكاترة بالمثابرة والجدية المطلوبة ، وضمن الشروط اللازمة – وهذا متوقع منهم في الحقيقة لأنهم كيفوا حياتهم لهذا الهدف، بل إنهم لا يتحمسون لشيء غيره ،ويمكن أن يفرض بقوة القانون ومواده ومساطره – فسيكون هذا من أهم ضمانات نجاح التحول المأمول..
وإننا إذ نشدد على هذه النقطة ، فإن ذلك يصدر من اقتناعنا أن أعمال الدكاترة ، في البحث العلمي والدراسات ، وعلى الأقل كما وضحها مشروع القانون ، هي في غاية الأهمية لإدارتنا ولاقتصادنا ولتنميتنا عامة ، وتقع في القلب مما تحتاجه حياتنا لتتجاوز ما يعتوها من اختلالات وأوضاع سلبية ، وخاصة على صعيد الإدارة. ونقدم للقارئ فكرة عن طبيعة هذه البحوث والدراسات العلمية ، كما حددها مشروع القانون. جاء في المشروع ما يلي : “ونعني بالبحوث والدراسات العلمية ، الأعمال التي تهدف إلى :
– وضع لبنات دراسات وبحوث استشرافية بكل الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة.
– تمكين المسؤولين على كل المستويات ، من معطيات علمية تساعدهم على اتخاذ القرارات الصائبة المرتبطة بالأهداف الجيوسياسية والاسترااتيجية للدولة.
– تمكين السياسات العمومية من آليات المتابعة والتعبير والفحص المستمر ، وقياس تأثيرها ومدى فعاليتها.
– قياس مدى فعالية وكفاية الخدمات العمومية.
– تحيين المعلومات في أفق التغلب على الصعوبات التي تواجهها الإدارة سواء كانت سياسية أو اقتصادية ، أو اجتماعية أو صحية ، أو بيئية أو تعليمية أو تربوية..
– القيام بالمسح الميداني عن طريق جمع المعلومات والبيانات ، وحفظها ووصفها وتصنيفها وتحليلها في صور صالحة للاستخدام في المؤسسات والوحدات الإدارية.
– دراسة الظواهر المجتمعية من خلال ربط الفكر النظري بالواقع العملي.
– اعتماد الموضوعية ، واستخدام الطرق الصحيحة والهادفة من خلال الاعتماد على القواعد العلمية التي تتوخى تحقيق التراكم والتنظيم والدقة والتجريد ، والبحث عن الشمولية واليقين ، والانفتاح الفكري ، والابتعاد عن الأحكام الجاهزة والنهائية.
– القيام بدراسات مقارنة واستشرافية في مجال جودة الخدمات الإدارية.
– التعريف وتقييم المبادرات الناجحة والترويج لها.
– الاشتغال على مؤشرات الجودة لتحسين الخدمات العمومية.
– العمل بطرق وآليات متقدمة في ترشيد النفقات العمومية”.
ويمكن أن نلمس نوعا من التركيز، في هذه البحوث والدراسات العلمية، على متطلبات ترشيد وحكامة العمل الإداري ، والذي يعد ، في واقع الأمر ، أحد الأسس التي لا غنى عنها ، بحال ، في أي مشروع تنموي ناجح ، لكن الأفق المفترض للبحث العلمي ، الذي تكون فئة الدكاترة نواته القوية ، هو أوسع حتما ، وكما يعيه هؤلاء ، بما يجعله يشمل جوانب الحياة المختلفة ؛ لا يشذ في ذلك شيء. وهذا الذي نقصده –بالمناسبة – منذ بدء حديثنا في هذه المقالة.
إن عددا من دول العالم المتقدم ، بل وأيضا تلك التي التحقت في فترات تالية بهذا الركب ، كانت قد انطلقت من ظروف مشابهة لما يعيشه بلدنا ، بل إن منها من كان يعاني من ظروف أسوأ ، ولا يتمتع بما تتمتع به بلدنا من مقدرات وإمكانيات مؤهلة ، لكنها استطاعت مع ذلك أن تتجاوز وضع التخلف وتحقق تنميتها وتقدمها بفضل رهانها الكامل على العلم والمعرفة ، وإيمانها بالديمقراطية. ويمكن أن نضرب مثلا بما حققته جارتنا على ضفة المتوسط – إسبانيا – أو ما حققته اليابان ، وإن كان هذا الأمر قد بات معروفا لا يحتاج إلى مثل أو دليل. في كتابه “النهضة العربية والنهضة اليابانية : تشابه المقدمات واختلاف النتائج” ، ينتهي الدكتور مسعود ظاهر ، الباحث العربي المختص في دراسات التحديث ، إلى أن هذه البلاد قد باشرت نهضتها متزامنة مع عدد من الدول العربية ، لكن وفي حين نجحت هي في مسعاها – على تعقد طريقها إليه – فإن الدول العربية ، ومنها مصر التي ركز عليها ، لم تستطع تحقيق هدفها ، وما عملت ، بالمقابل ، في نوع من الاتحاد وتكثيف الجهود ، من أجل تخطي عوائق النهضة والتحديث بجهد جماعي. ويذهب هذا الدارس الأكاديمي إلى أن أسباب إخفاق هذه الدول تتلخص أساسا في عدم مراهنتها على العلم والمعرفة ، كما تعود إلى غياب الديمقراطية في سياساتها. وفي السياق ذاته للمقارنة بين اليابان والدول العربية ألف محمد عبد القادر حاتم كتابه “التعليم في اليابان المحور الأساسي للنهضة اليابانية” ، الصادر بالقاهرة عام 1997 ، والذي خلص فيه إلى أن رهان اليابان على العلم والمعرفة، وتخصيصها أكبر الميزانيات للبحث العلمي ، وتهييئ البنيات التحتية اللازمة له ؛ من مؤسسات جامعية ومراكز بحث وموارد بشرية ، وما إلى ذلك ، كان العامل الأساس وراء نهضتها ، حتى أصبحت من أقوى أمم الدنيا اقتصادا وسياسة وفنونا ورياضة وثقافة وقوة حربية… إلخ.
إن بلدنا يستطيع أن يحقق نهضته وتقدمه مثلما فعلت كل الدول المتقدمة ، لكن ذلك لن يتسنى له إلا إذا راهن على ما راهنت عليه هذه الدول من جعل العلم والمعرفة أساس نهضتها. أما أن تبقى الحال على ما هي عليه ، مراوحين بين سياسات عشوائية ، تصر على إقصاء العلم والمعرفة في خططها التنموية ، فلن تنتهي إلا إلى نتيجة وحيدة وحتمية هي المزيد من التخلف ، والمزيد من التبعية ، والمزيد من تعقد الأزمة..
* * *
عود على بدء
إن أحد أهدافنا الأساسية ، في هذه المقالة ، أن نثير انتباه المعنيين بهذا الملف ، من الدكاترة خاصة ، إلى هذا التطور الهام في مسار قضيتهم التي عمرت طويلا ، فيكون ذلك حافزا لهم على عزمة جديدة ؛ تجلو ما غشي الإيمان من قذى التغليط والشبه ، فتبعثه ناصعا قويا ، وتذكر بما طال من الضيم والإهانة في وجه حق نال آخرون مثله حيفا ، وتعدوه لحقوق آخرين. فهاك وطنا أبناؤه ليسوا سواسية !! .. أي عزمة تنهض إلى الحق لا تبرح حتى تظفر به. ولندع الأنانية والانتهازية والاتكالية ؛ أليس أنا خبرناها فوجدناها أذهبت مكاسبنا المزعومة سدى. فلنجرب، إلى مدى الغاية ، أن نسلك طريقا لاحبا من الصدق في النضال ، ومن المروءة والرجولة نتنسم بردها المثبت ، ومن الإنسانية العالية تهدي خطانا فلا تحرفنا المطامع ولا نزيغ بأهوائنا ، ومن الشجاعة والإقدام تمنحنا الصمود في وجه هواجسنا ومخاوفنا أننا قد نضيع بسلك هذا الطريق ؛ وليس ما يضيع – على الحقيقة – ويذهب بالحظوظ ، كمثل الجزع وتهافت النفس على كل بريق لائح !!
ويتوجب ، من الناحية العملية ، أن نعمل ، بكل وسيلة ممكنة ، على أن يعلم الدكاترة بهذا التطور كي يتفاعلوا معه بما يجب ، كما يتوجب أن لا ندع فرصة أو مناسبة ، أو نهمل وسيلة ، من شأنها أن تدفع باتجاه ضمان التصويت على مقترح القانون ، في حينه. ولعل خير ما نركز عليه ، في هذه النقطة الأخيرة ، أن نسعى إلى إقناع الأطراف المعنية بالتصويت ، بأهمية هذا المقترح وبموضوعيته وراهنيته ، وأيضا ، وخاصة ، بكونه حلا مناسبا لن يكلف الميزانية شيئا. وليعلم الجميع أننا ، بهذا المسعى العملي ، لا نحاول الإقناع بشيء غير صواب ؛ بل ، في الحق ، إن هذا مطلب مشروع وأصيل ، ويخدم المصلحة العامة قبل مصلحة الدكاترة الذين لن يكسبوا غير أن توجه طاقاتهم وجهودهم وخبراتهم نحو الهدف الطبيعي والصحيح ، والذي يجعلهم فئة فاعلة في تنمية مجتمعهم ، يستفيد منها ، بدل أن تبقى مهدرة ومعطلة في أعمال ووظائف ثانوية.. إن علينا أن لا نجد أي شعور بالحرج والتحفظ حيال هدفنا ، مادام أنه هدف وطني في حقيقته ، وفي أبعاده المختلفة ، غايته التقدم بالبلد ، وتنميته وتحديثه ..
وإلى كل المعنيين بنهضة الوطن وأهله ، وبظهور العدالة ظهورا ، ورسوخ الديمقراطية تصورا وممارسة.. إليهم أحمل بشارة التحقق إذا هم كان لهم العلم والمعرفة ركابا. بل الأحق بنا أننا نلحظ أنه لم يعد من أحد يجهل أن النهضة والتقدم وصلاح الأحوال ، في عمومها ، إنما يتحقق باعتماد البحث العلمي والمعرفي في شتى المجالات ؛ أم أننا مخطئون !! ولذلك فإننا نتساءل لماذا لم نرد ، إلى الآن ، أن نسلك هذا الطريق ؟ !! لماذا نصر على إهدار الموارد البشرية المرشحة للبحث العلمي والمعرفي ، والتطوير بواسطة العلم والدرس ، بتعطيلها في وظائف ثانوية ، بعيدة كل البعد عن مؤهلاتها وطاقاتها ؟ لماذا نوظف فئة مأفونة من أشباه المتعلمين ، تأتي عن طريق الزبونية والحزبية والنفوذ العائلي وشراء المناصب بالأموال ، المنهوبة حتما من جيوب الشعب ، فتحتل الجامعات والمعاهد العليا – بدلا عمن يستحقها – تشيع فيها أفنها وأدواءها الاجتماعية والنفسية ؛ فنبقى نسمع عن أساتذة جامعيين ليس للواحد منهم ولو مقال علمي واحد ، بله أن يتوفر على مؤلف أو مؤلفات!! بل لماذا نجد التعليم العالي برمته كاسد البضاعة يعجز عن أن يخرج باحثين حقيقيين ؛ إن المتخصصين في الشأن الجامعي من الدارسين والإعلاميين والمفكرين وغيرهم يحذرون من أن جامعتنا ليس فيها بحث علمي حقيقي !! فلماذا نخفق في الخروج من هذا المأزق المزمن ؟
وإننا نستطيع أن نوضح أن سياسات تهدر خيرة خريجي الجامعات المختلفة ، حملة أعلى شهادة في البلد ، في وظائف ثانوية ، وتضطر عددا كبيرا منهم إلى هجرة الوطن صوب بلدان تقدر البحث العلمي وتعرف كيف تستفيد من أهله ، هي ما سيكون المسؤول عن الفشل الذي تعانيه المنظومة التعليمية على صعيد برامج البحث العلمي ، وجهود تطويره وإدماجه في الاقتصاد الوطني. وعلى الأقل أن هؤلاء يوجهون إلى الجامعة ، الآن ، التي تعرف خصاصا مهولا في أطر التدريس ، سيتزايد مع السنوات القادمة بحكم العدد الكبير للأساتذة الذين سيحالون على التقاعد بدءا من هذه السنة ، وارتفاع أعداد الطلبة المسجلين. ولعل وزارة التعليم العالي أن تكون الرابح الأكبر بحكم أنها لن تحتاج إلى مناصب مالية جديدة لأن الدكاترة لهم مناصبهم المالية ، ويكفيها فقط إجراء إداري بالإلحاق والتنقيل. وبالمحصلة العامة ، فليس أمام البلد من خيار غير البحث العلمي وغير التدبير الرشيد والنزيه للموارد البشرية المتوفرة ، يمكن أن يكون مدخلا للتنمية الحقيقية. إن هذا هو الطريق الذي سلكته كل الدول المتقدمة في عالم اليوم ، حتى أصبحت على ما هي عليه ، وتعززت لديها الشروط الموضوعية للديمقراطية والعدالة والاستقرار الاجتماعي..
5

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،