بقلم :عبدالقادر العفسي
الرسالة :29
إلى شمس النساء، زهرة الشوك الفضي:
من وراء زجاج هذا الشتات، ومن قعر المعنى حين ينتحر، أكتب إليكِ، لا لتطمئني! بل لتغوصي في الحلكة التي صرتُها، بعد أن انطفأت مصابيح المسافة، وبعد أن ابتلعني ظلالُ العالم كما يبتلع الجوف جمرةً لا تنطفئ ..من حيث أكتب إليك، لا من مكان بل من تمزّق، ولا من زمن بل من شرخ بين الوعي والعبث ، إلى الوجه الوحيد الذي لا يشبه القبح، في عالم يزداد شبهاً بنفسه، في عالم لم يعد فيه شيء يقول “نعم” للحياة إلا وجهكِ حين كان …
لم أعد أستجدي الحقيقة، لقد انكسرت مرآة الذات، لا لأنني لم أجدني فيها، بل لأن الزيف كان أعمق من أن تعكسه، كنتُ أتصوّر بغباء مَن ظن أن العقل درعٌ، أن الوجود لا يصفع إلا من تجرّأ على الحلم ،لكنني كنت واهماً؟ إن الوجود يصفع لأن هذا ما يفعله الوجود؟أتدرين لم أعد أكتب، بل أتقيأ ما ظلّ في نفسي من ذاكرة قبل أن أنقرض داخلياً، لم يعد للكلمات طعم الحبر، بل نكهة الحديد المحترق؛ رائحة الرماد الذي يتركه العقل حين ينفجر داخلك لا بسبب الجنون، بل بسبب الفهم ،فهمت إذن : هذا ما حذث لي ؟
فهمت أن الوجود لا يضربك لأنك جاهل، بل لأنك عاقل! لأنه، في لحظة ما، حين تظن أنك تلمس جوهره، يسحبك من الخلف ويلقيك بين فكي الوحوش، لا لتتعلم، بل لتكفّ عن السؤال ، كنتَ معي هناك، حين غرزتِ عينيكِ في عالمي، فانبجس فيّ الضوء، ثم انصرفتِ، فبدأ العمى ؟ كأن وجودكِ كان تلك اللحظة الكارثية التي تحدث عنها “هايدغر”؛ حيث يُقذف الكائن في عالم ليس له فيه جذور، فتبدأ مأساته: أن يوجد، ومنذ أن تجرّأتِ على الوجود في كياني، تهاطلت عليّ صفعات الوجود لا كضربات قدر، بل كفضائح كونية تُحطّم وهم المعنى الذي توهّمت يوماً أنني أُشيّده.
لم يكن فقدكِ، هو الألم أو كانت خيانة رفيق، ولا حتى طعنة لأني مليء بالجروح و أي جرح أخر لا يؤثر ، بل الواقع ، كان كابوساً ينتحل صفة الواقع، وأن بعض الكائنات لم ترتقي إلى حقل الحيوان ، بل تحوّلات كيميائية لندوب لم تُشفَ ، تصوري معي موظفا مسؤولا عن التهيئة و المعمار قادم من الشرق له صفة الطاووس ممثلا للدمار و الفساد و مزابل العقار ، سلطوا على ذاتي المكهربة شاذ جنسيا مستشارا ينتمي إلى تنظيم “الإخوان المجرمين” ، تسلل إلى الحياة السياسية كما تتسلّل دودة إلى قلب ثمرة مدعوم من بطانة العقار، و عائلته تروج للمخدرات الصلبة ،يسوّغ فساده بتعقيدات الطفولة .. لو رأيته، لخُيّل إليكِ أنه آدمي، لغة مكسرة ، أناقة صناعية، رطانة قانونية يلوكها كمن يمضغ نعشاً، يبتسم كما يبتسم المجرم حين يُحاكم دون شهود، ارتدى ثوب العدالة، لا ليُحقّها، بل ليخنقها بأصابعه، أصابع نهِمة، مبلّلة بطين سلطة العقار الموكلة إليه من السلطة و أباطرة الفساد ..
سافر إلى إحدى الدول الإسكندنافية عبر قطار المستقبل ! لا هرباً من الجحيم، بل بحثاً عن جحيم أكثر أناقة، وهناك، كالحرباء، اندمج مع فضاء الألوان بيئته الطبيعية ، فصارت جيناته أكثر عبثاً من العبث لتمارس تناقضاتها المتخفية بالتأول و التقية ، خلف لسانه المعسول الرطب و صوت نسائي، تستقرّ شهية منحرفة، لا للجسد فحسب، بل جس النبض و إعداده للقابلية … فارتقى للعقار،على حساب الرماد البشري ، شاذٌّ، لا لأن ميوله مغايرة فقط ، بل لأن رغباته متورّمة على حساب الآخرين ، وصار جزءاً من اقتصاد الظل، ذاك الذي لا يُكتب في التقارير، بل يُحفر في الأجساد..!عزيزتي سأفكك لك هذا الوجه الملون الباعث على الاشمئزاز في الزمن القادم بشكل بنيوي و سيكولوجي!.
لكن أود إخبارك عن الوجه الآخر للمأساة الذي بغى و أراد أن يكون حطبا ، فهو ذلك الذي لا يُرَى، لأنه لا يتكلّم: الموظف التقني، في قسم التعمير الملياردير الذي لا أحد يلاحظ وجوده، كما لا يُلاحظ الناس وجود الهواء الفاسد، كائن بلا اسم ناتج عن سِفاح، بلا نسب، بلا تاريخ إلا الندبة، لقيط لأنه وُجد كما يُرمى حجر في بئر ، في وطن يُحاسبك على الأصل قبل السلوك، تربّى في منزل يهودي! بلا حنان، كلب منزليّ بدون أن يُسمح له بالنباح، كان يقتات صغيراً من قرابين اللحم البشري بتضحية البقاء و الاستمرارية ليتنكر له فيما بعد ، لا ليتعلّم، بل ليتعوّد أن يُهان، يحدّق في الناس مند طفولته، لا كمن يراهم، بل كمن يزنهم ، كم جرحاً فيهم؟ كم خدعة؟ كم لُقمة سرقوها منه؟ كان ينام بعينين مفتوحتين، ليس خوفاً من السرقة، ربما لأنه لا يستطيع إغلاق الذاكرة و من فوبيا الجوع بل لأن النوم كان آخر ترفٍ لم يُمنح له ، كائن بُنِي من الندبة، وكل ندبة فيه دليل على أن العالم لم يكن يوماً عادلا.
لا تظني أنه أصبح ما هو عليه من فراغ ، بيئة تنشيته الحاقدة ربته على أن الإنسانية عار، لم يُسمَح له أن يحلم، فصار واقعيًّا حدّ السُعار، موظف صغير، لكنه يتقن اللغة الخفية للتعمير: يعرف كيف تُمنح الرخص، لمن تُعطى، متى تُؤجّل، ومتى يُحرَق ملفّ في صمت… باع نفسه لا للمال، بل للانتقام، صار يشرب من نفس الكأس الذي أُجبر أن يمسكه طفلاً، لكنه الآن يسكبه للآخرين، يتحرّك مثل آلة، لكنه من الداخل لا يحمل شيئاً سوى خريطة لدفن أحلام البشر
تصوّري طفلاً، لا يلعب، بل يُراقب فم الكلب ليرى إن كان ثمة فضلة ستُرمى، طفلاً لا يحلم بل يتجوّف، كان الحنين عنده جريمة، والبكاء ضعف، والرغبة وهم، وما صار إليه اليوم من ثراء فاحش لايظاهي أي موظف في الدولة قبل سنوات قليلة كان معدما … لا يمكن تسميته بالنجاح، بل بالتحوّل: تحوّل إلى أداة من لحم وقرارات، صار يتنفّس من خلال ثقبٍ في القلب حيث لا حبّ يسكن، قاسٍ، بارع، مريض، لكنه ناجح… نعم، ناجح، لأن النجاح اليوم لا يعني أن تخلق، بل أن تستغلّ، لا أن تفهم، بل أن تمتصّ .
حين تراهم يتبين ملك انه التجلي المطلق للوجود حين يتوحّش، حين يفشل العالم في خلق الإنسان، فيخلق الكائن المسلوخ ، المستشار والتقني هما أبناء النظام ذاته: نظام يفرزك إذا كنت جميلاً بعقلك تدمر، ويسحقك إذا كنت هشًّا، ويكافئك إذا صرت مسخاً يخدم مصالحه ، أحدهم نهِم للنفوذ، الآخر نهِم للثأر، الأول يتلوّن، الثاني يتحجّر، الأول يسرق بإتيكيت، الثاني يُخرّب في صمت ، كلاهما ناجح، كلاهما يمشي فوق الرماد …
أفهم الآن، كما فهمت “دي بوفوار”، أن الإنسان لا يولد شيئاً، بل يُصنع تحت وطأة نظرة الآخرين، والحرمان، والعنف الرمزي، هذا التقني لم يختر أن يكون وحشاً، بل صُنع من بؤس العيش كما يُصنع الطاغية من فائض السلطة ، لكني في كتابتي القادمة سأفصل لك كيف يتحوّل هؤلاء إلى مليارديرات، لا بقوة الفكر، بل بقوة الخواء… وسأحدثك عن منطق السوق حين يلتهم ما تبقى من الروح !
أما أنا، يا زهرتي، فالعزلة لم تجعلني حكيمًا، بل نزعت جلدي، وكسرت ضلوعي، حتى إنني لم أعد أشبهني، لم أعد بشراً، لم أعد شيئاً إلا وحشاً ناعماً يكتب لكِ ، لأنه في لحظة ضعف، أتذكّر أن ضوءكِ مرّ من هنا ، العزلة نحتتني، لا على شكل شاعر، بل على شكل تمثال من صخر بارد، يسخر من كل شيء، ويبتسم حين يرى العالم يحترق، لا شماتةً بل لأن الاحتراق هو الحقيقة الوحيدة المتبقية. أنا الآن أشبه المرايا المكسورة: تعكس كل شيء، لكنك لا تجرؤين على النظر ،لم أعد الإنسان الذي عرفته يوماً!.
من: الصقيع المتوحّد في ذاته
إلى: شمس النساء، زهرة الشوكي الفضي، الوجه الوحيد الذي لم يُفسدني بعد
ولكن لا تخافي، لن أطلب عطفك، بل دهشتك،انتظريني !