/ بقلم / حسن طارق /كلامكم
ربما لم يكن يجمع بين تونس و شفشاون ،قبل ايام ، غير تشابهٍ آسرٍ بين “الشاون” المغربية و “تستور” التونسية، تشابهٌ لعل اثراً أندلسيا باذخاً مشتركاً قد عمل على تغذيته ، أو بالأحرى تقارب آخر صنعته جغرافية الرُّوح بين جبل “العلم” الذي يطل على الحاضرة المغربية و بين جبل “زغوان” الذي يخترقه “واد المحبة” و يطل على “معبد المياه” شمال شرق البلاد التونسية ، حيث يشهد تاريخ التصوف رحلة شهيرةً بين الجَبلَيْن ،بعد تتلمذ الشيخ “أبو الحسن الشاذلي” على يد “مولاي عبد السلام بن مشيش”.
***
كان ذلك قبل أيام . أما بعد سقوط “ريان” في الجب فقد تغير كل شيء.لقد تقاسم التونسيون و المغاربة الأنفاس المُحتَبسَة و صلوات الدعاء و رجاء الأمل البعيد و فرحة الإِخراج من البئر ثم أرق ليلة الحزن الطويلة. و في كل ذلك بدت شفشاون أقرب الى تونس مما تتخيله المسافات المُخْتَصرة فوق ورق الخرائط .
طوال الأسبوع الأخير ، كان سؤال الطفل في الجب ،أول ما يطرح علي : عند بائع الخضر في المنزه ، و لدى عامل المقهى بشارع الحبيب بورقيبة، كما عند الزملاء في لقاءات العمل الديبلوماسي.
الأسئلة المشفوعة بالدعاء ،والجمل القصيرة التي لاتخفي تضامنها التلقائي ،والرغبة في تقاسم مشاعر مختلطة ينتصر فيها رجاءٌ صادق ،ثم بعدها جُمَلُ التعازي بكل العبارات المُمكنة هي ما صادفت لدى الأشقاء التونسيين.
لكن داخل هذه الموجة من التعاطف كانت هناك لحظتَا ثأتر بالغ : مساء الجمعة ،عندما سيطرق باب السفارة ،مواطنٌ تونسي يحمل إقتراحا لإخراج الطفل و إستعدادا تطوعيا للإنتقال فوراً إلى شفشاون ،و صباح السبت حين سأُهاتف صديقي الكاتب الصحفي- شافاه الله- للحديث عن ترتيبات الموعد القريب لعمليته الجراحية الدقيقة ، لكنه من قلب انشغاله الصحي سيستدرك مخبراً إياي ،أن مقاله القادم يهم الطفل ريان.
كان يكفي الإستماع للإذاعات التونسية، لكي نتابع بدقة مجريات الصراع ضد الزمن في الجبل الصغير لقرية “إغران” ،بحثا عن ضوء بعيد ينسل من ظلام البئر المخيف ،و لكي نُنْصت لإعلاميين مغاربة من عين المكان ،يحاولون العثور على كلمات تصْلُحُ في نفس الآن لوصف المأساة و لتربية الأمل .
أما في تقرير الصحفي “فتحي فالحي” لقناة ميدي1 تيفي،حول تعاطي الشارع التونسي مع الحدث ، فقداكتشفنا أن قلوب الأمهات أكبر ملهمٍ لبلاغة الدعاء وأن كلماتهن – هنا و هناك- تتشابه في القبض على الخيط الرفيع من أمل الحياة .
الواقع أن الأسر التونسية قد تقاسمت تماماً مع المغاربة لوعة الحزن و حرقة الإنتظار ثم صدمة الخبر الأخير.
***
نعم لقد كان “ريان” عنواناً لتضامن إنسانيٍ عابر للإنتماءات ،موضوعا لصلواتٍ من كل الديانات. تليت دعوات إنقاذه بكل اللغات ،و تضرعت لنجاته أيادٍ بكل الألوان ،و خفقت لندائه أفئدة من كل الأعمار.
كان “ريان” حاضراً في ملعب الكرة بالإمارات ،وفي ملصقٍ بنفق الميترو بلندن، في صفحات مشاهير العالم و ملايينه من “غير المرئيين” ،في رسومات الأطفال التي تخلط ألوان العجز بمقادير من الأمل البريء،في نشرات الأخبار و مقالات الصحف ،في قصائد شعراء من موريتانيا و السعودية ،في وسم صفحات التواصل و مبيانات “الطوندوس” ،في حميمية الغرف الصغيرة للبيوت ،في موعظة بابا الفاتيكان ، في تفاصيل الحديث اليومي بين الأم و أبنائها ،في المكالمات الهاتفية العجلى بين الأصدقاء ،في الدعوات الفردية المُرْتجلة لمَابعد صَلاةٍ خاشعةٍ .
كأن هذا الطفل قد احتل قلب العالم!
كأن أنفاسنا إختلطت و تداخلت مع الأنفاس المرتبكة والخائفة للطفل القابع تحت الأرض ،طيلة الخمسة أيام الطويلة .
أو كأن هذا العالم القاسي و المنقسم و اللاَّمبالي ،قد تحول إلى هشاشة قلب أم منكسرة أمام طفل مفجوع، بل كأن العالم توقف فجأة عن لهاثه المسترسل ليَنْتَبِه- ولو للَحْظةٍ سريعة- لإنسكاب دمعة حارة على خد طفلٍ مفزوعٍ ، أو ليلتَفِتَ – بُرهةً- لجِهَةِ الضمير : حيث يكمن الفرح و الفجيعة و الألم والطفولة و الأمومة و الفقدان و الحُب ،حيث يُوجد الإنساني عميقاً تحت ركام الزّيف و المصلحة والعنف و التفاهة و الأنانيات .
***
لكنه داخل المغرب ،كان- بلا مبالغات في اللغة- تعريفا آخر للأمة المغربية.
الأمة كشراكَةِ أحلامٍ و أحزانٍ ، الأمة كقدرٍ يَصْهِر مصائر موّحِّدَةٍ ،الأمة ك”نَحْنٌ”من المشاعر و الذكريات و الرموز و الآلام و الإنتصارات ،الأمة كالمعنى الوحيد لإرادة جماعيةٍ في عيشٍ مشتركٍ: هي نفسها التي تجلت في فاجعة الطفل “ريان “.
هي نفسها التي تَجَلّت في الجُهد الموصول للسلطات ،في التتبع الدقيق لجَلالة مَلِك البلاد، في الطلب الواسع على التطوع للمُساعدة، في تَدُبُّر نساء القرية لوجبات غذاء كريمةٍ لعمال الإنقاذ و المتطوعين و رجال الأمن و الصحافة، في وَحدة المَشاعر، في تَقاسُم الدموع و رجَاء الفرج و حزن الفقدان ،في معنى أن يُعَزِّي المغربيُّ أخاه المغربيُ بعيد وفاة الطفل ،في ملامح الأبطال الذين غامروا في الحفر بحثاً عن الخبر المُفرح،في إصرار سائق آلية الحفر التمسك بالمقود ليل نهار حتى العثور على الطفل ، في الشُّعور المُلتبس الذي خالج المُتضرعين الى الله في صلاة الإستسقاء وهم ينتظرون غيثاً نافعاً على أمل مُفَارِقٍ بأن تبقى شمس الله الدافئة تحْضُنُ الجبل البعيد حيث الطفل العالق بين الموت و الأمل .
***
في قلب الفجيعة ،كانت هناك أُمٌ مكلومة ،و طفل عالقٌ ،و بينهما رجاءٌ غامض و إنتظار طويل .
الطفل و البئر و الأم ،لم تكن مُجرد عناصر مشهدٍ عابر في موجة عاتية لعودة المشاعر الجمعية ،لكنها شكلت كذلك مَوْرداً للإستعارات من قلب الذاكرة الثقافية و الدينية ،و إيحاءات قصص الأنبياء ،لذلك كان لابد للرموز أن تُكملَ معالم المأساة.
الألم كان هنا يرتبط بالزمن المُمْتد ، و الفجيعة ترتبط بالإنتظار القاسي المحفوف بالمخاوف و القلق و الهواجس .
لذلك تمرن المغاربة على إعادة تعريف المقاييس ، و تحول “المِتْر” من مجرد خطوة بلا حساب إلى مسافة جبارة من السنتمترات العتيدة من الألم و الخوف ، ثم صار التقدم بأربعة سنتيمترات سبباً كافيا لفرح شعبٍ كاملٍ، حتى أن الحفر الأفقي – كما تَعَلّمنا في المعجم الجديد للمأساة- كان محتاجاً لأصابع بشرية بخِبرة عمرٍ كامل في الرٍِمال ، عندما توقفت الخبرة الطوبغرافية و تمّت المناداة على “عمي علي الصحراوي” بآلته البسيطة للحفر اليدوي و ملامحه الأليفة ،ليتحول الى ايقونةٍ أخرى للحدث .
***
مات طفل الخمس سنوات ،مات بعد خمسة أيام قضاها مُتكوماً في البئر العميقة ومُتوهجاً في جانبٍ مشرق للبشرية، يُراقب من قلب العالم تضامن الإنسانية و صبر الأمهات و ملحمة المغاربة الذين حرَّكوا جبلاً لمُعانقة طفل كما كثّفَ عنوان صحفي كلّ الحكاية.
مات الطفل ،وترك على قارعة الحياة ،أشياءه الصغيرة ،وحُلْمَ أن يصبح معلما بالقرية الجبلية الأقدار قررت أن يموت الطفل و أن يتحقق الحلم كبيراً :أن يصبح ريان معلما للإنسانية .
مات ريان الصغير ،بعد عبورٍ سريعٍ و مُفجعٍ للحياة ،لكن الإسم سيُعمر طويلاً في ضمير العالم ،كطفلٍ للبشرية و كوصيةٍ للإنسانية.
*عن يومية”الأحداث المغربية”بتصرف.