الماء والاقتصاد في تاريخ سوس: الدولة السعدية وصناعة السكر خلال القرن 16م/ 10هـ الحسن إدوعزيز*

الماء والاقتصاد في تاريخ سوس: الدولة السعدية وصناعة السكر خلال القرن 16م/ 10هـ الحسن إدوعزيز*

- ‎فيرأي
273
6

 

الجزء الخامس:
لقد توافر المجال السوسي إذن، خلال القرن 10هـ/16م، على المؤهلات الطبيعية والايكولوجية الضرورية، لإنتاج قصب السكر، وتحريك عجلات وأرحاء المعاصر السكرية، لإنتاج سكر تنافسي كان جد مطلوب في الأسواق العالمية. وكان من الضروري، أن تُساعد التقنية الأجنبية، وتحسين المعدات المعتمدة في المغارس والمعاصر، وأساليب إدارة العمل الجماعي، إلى تكثير المزارع وتحسين المنتوج السكري؛ وضمان جودته بشكل جعله يتفوق، على ما توفر منه، على الصعيد الدولي أنذاك.. ذلك أن وفرة المياه السطحية الآتية من المنابع بالجبل، جعلت القصب في حجم وجودة لا مثيل لهما في أي بقعة أخرى من الدنيا. حيث كان لأحمد المنصور “الذهبي” عند وفاته ثمان عشرة (18) معصرة من معاصر السكر، يشتغل في كل واحدة منها ما لا يقل عن ألفي عامل ينقلون الحطب اللازم على أزيد من مائتي عربة كما يؤكد “أنطونيو دي صالدانيا”.
ومن المؤكد أن السياسة الإنتاجية الجديدة المعتمدة في عهد المنصور، قد ساعدت على تحسين المنتوج وتطوير تقنياته عما كان عليه الحال عصر “محمد الشيخ” و”عبد الله الغالب” و”محمد المتوكل” و”عبد الملك المعتصم”، سواء من حيث الكم أو النوع. كما ساعدت على دعم مواقع المغرب، في التجارة والدبلوماسية الدوليتين. ففي عهد هذا السلطان كانت تُصنع الكثير من القدور الضخمة وقوالب السكر بالنحاس… وفي عهده أصبح السكر المغربي، أحسن أنواع السكر على المستوى العالمي؛ بل وأحسن من سكر ماديرا ( madeira)… حيث كان يأتي في طليعة ما يصدر من بضائع بلاد البربر كما يؤكد أغلب المؤرخين.
لقد حرص هذا السلطان حرصا شديدا على توفير كل المقتضيات التقنية والبشرية، لضمان إنتاج تنافسي؛ قادر على أن يدر عائدات مالية، رصدت لتمويل مشاريعه العسكرية والصناعية والعمرانية (كقصر البديع)،…وعلى توفير السيولة المالية اللازمة لمواجهة المستجدات وتحركات الخصوم والحلفاء على حد سواء. علاوة على حرصه على تشييد مركبات الصناعة السكرية العظيمة بالعاصمة التقليدية لدولته (تارودانت)، وحرصه على مد القنوات المائية الضخمة لسقي مزارع المادة الأولية الخام (قصب السكر)، ولتوفير القوة المحركة لمعاصر الطحن…ولعل ذلك ما خلف لنا تراثا مائيا وعمرانيا حضاريا، لا يزال شاهدا على عظمة مغرب القرن السادس عشر؛ كما يتبين مما أراد “الفشتالي” تخليده بشيء من المبالغة، عند معرض وصفه فرادة منجزت “المنصور” بضواحي تارودانت، قائلا: (…إلى معاصر السكر الجاثمة حواليها جثوم أهرام مصر يتقاصر عن تشييدها أولو القوة من عاد وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي ما شئت من توطيد وتشييد وبرك مستبحرة وجفان كالجواب وقدور راسيات وحركات هندسية ولوالب فلسفية ومقاييس حسبة وانهار تتسنم لإجراء أرحيتها العظيمة الأخشاب ذوي الأسوار الممتدة الأعراف إلى عنان السماء بتدبير وفلسفة تحار فيها حكماء يونان وجنان سليمان لا يطير تحت جناحها البلد الجديد من فاس الذي هو عند بني مرين مشيد به (…) ولا قصبة مراكش التي هي عند الموحدين ومن قبل الإعجاز بل إذا ذكرت المحمدية لف كل منهما رأسه استحياء…).
– السواقي: مُنشآت أساسية لإنتاج السكر بسوس خلال الفترة السعدية

يصعب التكهن، في الحقيقة، بالترتيب الزمني لإنشاء هذه المنشآت المائية بسوس من طرف المهندسين السعديين؛ وهل تم البدء ببناء معامل السكر ّأولا ؟ أم تم البدء بمد السواقي قبل ذلك ؟ لكن المنطق يفرض أن وظيفة كل من المنشأتين تتكامل كما يرى “أندري آمبير” (Humbert. André). فالسواقي تقوم بتجميع وتوجيه المياه نحو معامل السكر لتحريك أرحاء المطاحن؛ ثم لتجميعها، في مرحلة ثانية، في صهاريج كبيرة بهدف ري مزارع قصب السكر. والملاحظ أن عالية “واد سوس”، وخصوصا على الضفة اليسرى، لا تزال تحتفظ بمآخذ عديدة للمياه تُعتبر شواهد حقيقية على انطلاق السواقي المتعددة نحو السافلة (سوس) (BERTHIER. Paul).
إن السواقي القديمة التي لا تزال تمتد على عشرات الكيلومترات، والتي كانت تربط بين “مجرى الوادي” و”مراوح” عجلات مطاحن السكر. كانت تتفرع إلى عدة قنوات ثانوية تسمح لسقي الحقول المتواجدة في المجالات التي تمر منها. و قد ارتبطت أسماء بعض هذه السواقي بأسماء الأفراد والسلاطين الذين أشرفوا على تشييدها (كشواهد لتخليد أسمائهم)، وكمثال على ذلك نجد الساقية الشهيرة المسماة بـ”الساقية المهدية” والتي ارتبطت باسم مشيدها “محمد الشيخ السعدي المهدي”. وهي ساقية بقيت تخضع للاستصلاح الدائم عبر مختلف الفترات التاريخية من قبيلة إلى أخرى، ومن قائد إلى آخر، حتى يومنا هذا. كما ظلت مآخذها تُجدد بعالية الوادي نظرا لاستمرار تعمق مجراه بفعل الزمن وعوامل التعرية؛ وتبعا للترسبات التي تملأ مجاريها، والتي تستلزم التنقية والإفراغ من حين إلى آخر.
والمدهش في الأمر أن هذه السواقي لا تزال معالم بعضها واضحة في المجال، بل لا تزال حية تُستغمل إلى اليوم. وإن اندثر بعضها وتوقف عن الاشتغال، فإن ماضيها لا يزال حاضرا مستمرا في الحكايات المتداولة بين السكان المحليين. والتي تروي بطولات الشرفاء (إكرامن) السعديين وقدرتهم على تطويع المجال، والتحكم في جريان المياه (مياه سوس) بجلبها من مناطق جد بعيدة عند خوانق الوادي بمنطقة “أولوز” عبر ساقية عظيمة، لا أثر الآن لبقاياها (BERTHIER. Paul).
…يُتبع
*طالب باحث في التاريخ

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،