قال الراوي ـ يا سادة يا كرام ـ :
ولما وصل عنتر إلى ميدان القتال ، رآى كيف أن عساف ضايق الغلام حصن ، حتى شارف على الهلاك ، و كاد أن يسقيه كاس الحمام ، فعند ذلك حمل عنتر على ظهر الأبجر ، و تقدم نحو الميدان و انحدر ، كأنه قطعة من جبل ، حتى أفزع كل من حضر ، ثم إنه جرد سيفه الظامي و صاح و هجم على عساف ، و خلص الغلام من قبضته بدون خلاف ، ثم إنه فاجأه و حمل عليه من الضفاف بضربات خفاف ،و أراد عساف أن يسايره في المجاولة ، و أن يتغلب عليه في المناولة ،فإذا بأبي الفوارس تأخر عنه، و تمطى رمحه و طعنه طعنة جبار ، و قلبه عن مركوبه ، عجل من الدنيا مرتحله ..
فلما رأى رجال عساف ما حل بقائدهم من دمار ، و كيف شرب كأس الحمام دون انتظار ، طلبوأ عنتر من كل مكان،يملؤهم الحقد و الحنق و الثار ..
هذا ما كان من أمرهم أما ما كان من أمر عنترة فقد لذ له النزال و القتال ،و صار يجندل الرجال ، و يرميهم في الحال ، و كانهم بقايا نعال ، و كان أخوه شيبوب يحمي ظهره بالنبال ، و هو يهيج كالأسد الرئبال إذا رأى الغزال …
ثم إنه فرق الأعداء في الميدان ، بضرب تهد منه الجبال ، ومن بقي ولى الأدبار و هرب في الحال ..و طاردتم فرسان بني مازن في الوديان و التلال ، و القيعان و الجبال .
و لما صفت القلوب و لم يعد لبني مازن عدو في تلك البلاد ، و لم يعد هناك خوف و لا ضلال ..و صار الغلام و خاله في أحسن حال ..
ثم إن بني مازن دفنوا أمواتهم ، و جمعوا الغنائم و الأموال، و الخيول و الجمال ، و صاروا في سرور و احتفال مدة سبعة أيام ، و تزوج حصن بابنة خاله ، و نعم براحة البال ..
و بعد ذلك ارتأى مالك بن زهير و عنتر الرجوع إلى الديار، و لما أرادا الرحيل صعب على بني مازن فراقهم ، فخرجوا كلهم لوداعهم..
و سار مالك و بنو عبس عائدين إلى أوطانهم ، و لم يزالوا سائرين و عنترة سائر معهم ، و هو لا يصدق بالوصول حتى يرى مقام عبلة ، حتى وصلو الى ماء منهل قد تدفق ماؤه و سال ، و كثر العشب حوله و جال ، فنزل للراحة الرجال ، لما رأى عنترة الماء المتدفق في المجال، هاجت بلابل أشجانه و مال ، فأنشد يقول ـ صلوا على التبي الرسول ـ :
غرامي إلى عبلة زائد .. جفوت المنام من الاشتياق
و قلبي من البعد فيه لاعج.. و قد ساءحالي بطول الفراق
ترى بعد فراقها في الدجى أراها و أحضى بيوم التلاقي
قال الراوي ـ يا سادة يا كرام ـ :
لما فرغ عنترة من نظمه طرب مالك و كذلك جميع فرسان بني عبس ،و قال له مالك :
ـ إنك لنعم الرفيق و الخل و الصديق، لا تحسب أنك عندنا قليل بل أنت سيفنا الصقيل و رمحنا الطويل..
ثم ساروا طالبين الديار و عنترة لا يصدق بالوصول، و قد أقلقه الفكر في عبلة و في عمه مالك و كيف يحظى بالقبول ، و رفيقه مالك بن زهير يعلله بالآمال و يسليه و يخفف عنه ، و هو يعلم كل ما به ..
أما ما كان من بني عبس المقيمين في الديار ، فإنهم كانوا في قلق من غياب مالك بن زهير و انقطاع أخباره طيلة تلك المدة ، و كانوا ينتظرون عودته في الحال من ساحة الحرب و القتال ..
أما ما كان من أمر عنترة فقد كان له أعداء كثيرون و حساد، لا يرجون عودته إلى الديار و البلاد ، و يتمنون أن يموت و لا يعود …. و لا سيما عمه مالك فقد كان يشتهي أن لا يرجع أبدا ..
خاصة بعد أن ذكر عبلة في أخباره و عرض بها في أشعاره ، و قد صار بسببه لعبلة حديثا في كل المجالس ، و في سائر الأماكن و الجهات ، و صارت الرجال تقصد بني عبس في الولائم و المسرات لتتفرج على عبلة ذات الحسن الفائقات ……
و كان للربيع بن زياد أخ يقال له عمارة و يلقب بالوهاب ، و كان قد سمع عن عبلة هذه الصفات ، فاشتعل قلبه و فؤاده … فقام يخطب عبلة من أبيها مالك بن قراد و هو يعلم تمام العلم شغف عنترة بها و رغبته في الزواج منها ..
في الغد الحكاية 29 من حكايات أبي الفوارس عنترة بن شداد
د محمد فخرالدين