كتاب: الرياضة والسياسة والفلسفة.. الفلسفة في الرياضة(28

كتاب: الرياضة والسياسة والفلسفة.. الفلسفة في الرياضة(28

- ‎فيرياضة
2169
6

الفلسفة في الرياضة

فلسفة الرياضة

9- الفلسفة في الرياضة

“هل يمكن تفسير أهمية الرياضة للفيلسوف تفسيرا بسيطا وواضحا؟”. عن هذا السؤال الجريء والجسور، تحاول المداخلة الراهنة الإجابة بكيفية بسيطة وواضحة، لا لبس فيها ولا غموض، وتحرص منذ البداية أن تكون بسيطة، غير أنها في مسعاها نحو الوضوح تصير أقل بساطة، ذلك أن الوضوح معقد دوما، والبساطة غامضة دائما. وإذا كانت حقيقة الأشياء ظاهرة للعيان ببساطة ووضوح، فلن يكون للعلم جدوى، وبالتالي لا طائل من الفلسفة.
ما الذي تغذي به الرياضة الفلسفة؟ الرياضة تغذي الفلسفة، وذلك ببساطة لأن كل شيء يغذيها: القانون والفن والحرب والرياضيات والمشاعر والهندسة والمعمار ومستحضرات التجميل… وقد وجدنا فلاسفة يبحثون طرفة العين وآخرون يعالجون موضوع نادل المقهى، بل والقرميد الذي يسقط فوق رؤوس المارة ! إن الفلسفة لا تتغذى من الفلسفة والماء الزلال، وإنما تتغذى من الفلسفة ومما ليس فلسفة. ومن المؤكد أن التفكير هو دوما تفكير في موضوع معين. والتفكير في هذا الموضوع لا يعني الإتيان بمعارف جديدة بخصوص هذا الموضوع: ذلك أن فلسفة الرياضيات لم تنتج إطلاقا ولو معادلة واحدة، وفلسفة الفن لا تنحت ولا ترسم ولا تساعد الفنانين في إبداع أعمالهم. ليست الفلسفة معرفة، مثلما ليست منهجية. صحيح أنني كتبت كتيبا صغيرا عن الرياضة، غير أن الأكيد أن مارادونا لن يقرأه أبدا وكان سيقرأه لو لم يكن أفضل لاعب لكرة القدم وأفضل لاكم لمتفرج. فماذا تصنع الفلسفة بهذه الأمور غير الفلسفية؟ إنها تستفهم حول نمط السببية الذي يتيح التفكير في هذه الأمور ضمن إطار الضرورة والإمكان. كيف أمكن هذا الأمر، وكيف صار ضرورة؟
1. مفارقــة الريـاضــة
كيف ولدت الرياضة في نهاية القرن التاسع عشر ولماذا نجحت نجاحا عالميا بكيفية مذهلة وساحقة ابتداء مما بعد الـحرب؟ ما الضرورة التي أجاب عنها الانتصار العالمي لكرة القدم وللألعاب الأولمبية التي تم تحديثها؟ من المعروف أن الرياضة تخترق اليوم جميع الحضارات، وتأخذ بألباب شعوب شديدة الاختلاف والتباين مثل شعوب الكاميرون وروسيا والولايات المتحدة والأرجنتين. وهذه مسألة جدية. وسيكون مثيرا لو أن الفلسفة لم تهتم بهذه الظاهرة، لأن العولمة المتزامنة لأمر ما نادرة جدا في التاريخ: إذا استثنينا التيارات الدينية الكبرى والماركسية ومسلسل دالاس التلفزي. بل إن الموسيقى الشعبية (الروك، الديسكو، وغيرها) ليس لها هذا التناغم ومن اللازم تكييفها مع الأذواق المحلية. وإذا كانت الأديان والماركسية قد أسالت الكثير من الحبر، فالرياضة- مثل دالاس- لا تزال تنتظر دوما معالجتها بالجدية نفسها التي عولجت بها الأمور العالمية والكونية. وفي الإمكان عكس أو قلب السؤال الأولي والبدئي والاستفهام عن لامبالاة الفلسفة بالرياضة، وهي ظاهرة مفارقة جدا. فكيف يمكن فهم النجاح الباهر لأمر لا يَعِدُ بخلاص الروح أو بِغَدٍ مشرق، ولا يَعِدُ بشيء آخر غير فرجة ستشبه سابقاتها وتكرر نفس الانتصارات في المتوازيات نفسها، ونفس الهدف “التاريخي” في الشباك نفسها، والقفزة نفسها، ونفس القفز العالي بالعصا، والحواجز نفسها. وبعد ثلاثة آلاف سنة- وقبل ذلك دون شك- حينما يكتشف أحفادنا وأخلافنا التقارير الرياضية المسهبة والطويلة والسرود المتطابقة في التكرار والطول والامتـداد عبـر صفحات لا نهائية، سيعتبروننا مجانين. الرياضة فرجة متكررة لا تحمل أي مفاجأة، الأمر نفسه دائما بالدقيقة والسنتيمتر، دائما الانجازات نفسها، والانفجار بالفرحة نفسه. وهذه السطحية العقيمة مقارنة مع الشغف الذي تثيره هو ما يطرح مشكلة واسمحوا لي بهذه المقارنة : إذ كان الناس يأكلون الفواكه، فذلك لا يطرح أي مشكلة لأن الفواكه صحية ولذيذة ومغذية، ولكن ماذا لو شرع الناس في امتصاص الحجارة، حينذاك يجب التفكير في الأمر بجدية. والحال أن الرياضة تبدو للوهلة الأولى مثل امتصاص الحجارة: عقيم لا لذة فيها ولا غذاء. غير أن هذه الحجارة يمتصها الناس من الدانمارك إلى البرازيل، ومن طوكيو إلى أوتاوا. يبدوا العالم مُغَطَّى بالمباريات والمقابلات واللقاءات والمنافسات وكأس العالم، كأنه مرتهن داخل شباك عظيمة ذات عيون صغيرة ودقيقة ومحكمة الصنع، لا تنفلت منها المدن الكبرى والقرى الصغرى، ولا تترك الخلاص لمدينة لندن ونيويورك، ولا لمدينة لوس أنجلـس ولا لياوندي، ولا لألاسكـا ولا قلعة السراغنة أو حدكورت. وعندما تلمع ظاهرة على هذا النحو وتبـرق في سـماء القرن العشرين، فيجب أن يثيـر ذلك الدهشة الفلسفية.
غير أن هذا لا يجيب عن السؤال المطروح. فهذا يفسر لماذا يتعين على المثقف أن يكون محترسا تجـاه الظاهـرة الرياضية، ولكنـه لا يفسر لماذا يلزم الفلسفة، بصفتها فلسفة، أن تهتم بهذه الظاهرة. وقد نكون على صواب ألف مرة إذا لاحظنا أن الرياضـة – منذ مدة طويلة – تحض على التفكير وتحث على الكتابة، وأقصد هنا العلوم الإنسانية: الإناسة، علم الاجتماع، علم النفس، ونظريات التربية بكيفية خاصة.
تطابق الإناسةُ الرياضةَ مع مشاعر القداسة والقُربان الجماعي والاحتفالات الطقوسية بالطوطم. وينكب علم الاجتماع على الطبقات المجتمعية ويحرص على تحديد الأذواق الرياضية لكل فئة وشريحة، معتقدا أن العمال يفضلون رياضات المواجهة المباشرة (كرة القدم، الكرة الطائرة، الملاكمة) وأن البورجوازية تفضل رياضات المنافسة عن بعد (كرة المضرب، التزحلق على الجليد). ويرى علم النفس غالبا أن الرياضة عامل قوي في استعادة الجماهير أو الجموع لطفولتها، وأنها عند الممارسين شكل من أشكال اكتشاف الذات. أما أهل التربية، فيرون في الرياضة وسيلة فعالة للإدماج المجتمعي ولتحقيق الانسجام بين الجماعات. وهذه الدراسات الدقيقة والمتعددة لا تغني مباشرة المقصد الفلسفي. إذ ليست الفلسفة علما إنسانيا وظيفته تصنيف ومقارنة أنماط الوجود الإنساني وأشكال انتشارها وتغيرها. وإنما السؤال الفلسفي ذو طبيعة أخرى: لماذا يوجد هذا الشأن المجتمعي الذي يسمى رياضة؟ ما ضرورته؟ وبمقتضى أية سببية يندرج في الحياة الجمعية ويترسخ فيها وينتهي بالصيرورة مألوفا؟ وهل هذا الشيء المجتمعي- الرياضة- يمكن أن يعلمنا شيئا ما بخصوص سببية الأمور الإنسانية ؟

يتبع

ألفـــــــه: إيف فارگاس

تــرجمــــة : عبد الجليل بن محمد الأزدي / بلعز كريمة

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت