د.فوزية البيض.
رغم السيل من الترسانة القانونية، والتراكم في المقتضيات، وتحفيزات صناديق الدّعم المصاحبة لصدور المراسيم، والقرارات الوزارية التفعيلية التي تروم في أبعادها الإستراتيجية، الدفع بالنساء للانخراط في تسيير المجالس المنتخبة، أثبتت التجربة والواقع بما لا يدع مجالا للشك، أن الحقل السياسي في المغرب تطبعه سلوكيات وتسيطر عليه أفكار، وتحور فيه تفسيرات القوانين، بما من شانه أن يظهر السيطرة الذكورية، كنظرة ثقافية ومجتمعية ضاربة أطنابها في جذور التاريخ. إن سيطرة الرجال، الشبه المطلقة، على الساحة السياسية، يبرهن على أننا لا زلنا نعيش تحت وطأة نظام أبوي بامتياز، ينهل مرجعيته من خلفيات النظام الثقافي والاجتماعي المغربي.
إن تشريح العلاقات القائمة بين النساء والرجال داخل هرمية الأحزاب، تختزل كل معاني الرغبة في الهيمنة وبسط النفوذ. لأن الحقل السياسي هو فضاء للتدافع، للاختراق، للطموح ولبسط السلطة السياسية. كأن السياسة صنعت من طرف الرجال للرجال، وأن المرأة مكون سوسيو سياسي طفيلي. لهذا قررت بعض القيادات الحزبية، خلال الاستحقاقات الأخيرة، التي قيل أن نسبة النساء سترتفع فيها إلى 30%، الاستغناء عن اللائحة النسائية وتعويضها بلائحة رجالية، داخل بعض الجماعات الترابية، كما تناهى إلى علمنا، تحت زلة عدم وجود كفاءات نسائية. هذا في وقت وضع فيه بعض وكلاء اللوائح بالمدن الكبرى، فئات نسائية “معينة”، تعتبر وصمة عار على السياسة، تحت ذريعة استثمار “طابعها الشعبوي” و”خزانها العلائقي”. من جهة أخرى استعملت في لوائح غيرها كفاءات نسائية ثم استقطابها، أو استغلالها كواجهة للتباهي بهدف ديكوري أو لملء الفراغ، وثم بالمناسبة الاستغناء على بعض المناضلات، الشيء الذي جعل انتخابات 4 شتنبر تعرف أكبر نسبة من الاستقالات والترحال في صفوف النساء، اللواتي دخلن أيضا في سباق البحث عن التزكيات، والتفاوض على التراتبة في اللوائح. ومن كانت لهن فرصة المشاركة والفوز، اصطدمت بواقع آخر يحبط فرحتها، حيث وجدن أنفسهن خارج التشكيلة الرسمية للمكاتب المسيرة للمجالس المنتخبة، إلا من بعض الاستثناءات الناذرة.
إن استمرار بعض القيادات والكائنات الانتخابية، في محاولات السيطرة داخل دائرة ضيقة، على قرارات بعض الأحزاب التي ظلت الطريق نحو الديمقراطية، لهو نذير باحتضارها. لأن عدم استحضار مقترحات وموافقة برلمانات الأحزاب، وتغليب روح الديمقراطية والتوافق داخل هياكلها، يستغله من يستعمل الطرق الملتوية للاستحواذ على السلطة، واشتغالها في الخفاء هو عربون على عدم القدرة على المواجهة والنرجسية القاتلة. إن الكفر بمبدأ تجديد وتشبيب النخب، كما تحنيط المبدأ الدستوري الداعي إلى السعي نحو المناصفة، يجعل من فكرة خلق منظمات داخل بعض الأحزاب، مجرد خندقه وبؤرة حافلة بالصراعات، مفادها اعتبار القطاعين، الشبابي والنسائي، تجميع لكائنات ذيليه ليست لها استقلالية، ولا حرية التعبير، ولا سلطة صنع القرار. بل إن تواجدها هو وضع رهن إشارة القيادة، وواجهة لتأثيث الفضاء السياسي، أو لعب أدوار مرحلية، وإذا ما فرضت قانونيا، أو عن طريق الكوطا، كامتياز مرحلي، يتم انتقاؤها من صفوف الولاءات، وليس دائما الكفاءات، أو توريثها لذوي القربى، أو يقايض بها البعض، كريع سياسي، علاقاته الخاصة جداً، وتبقى حظوظ قليلة للوافدات وللمناضلات اللواتي من المفروض أن يحققن بتراكمهن المعرفي مسارا سياسيا يجب أن يتم استثماره في مناصب المسؤولية.
لهذا يطبع جزء من انخراط النساء في الحقل السياسي المغربي، واندماجهن نوع من الارتجالية والحساسية السياسة، وغالبا ما يكون تواجد نوع منهن من ورائه حث رجالي، أو نتيجة استقطاب على مشارف استحقاقات، لكن لا توكل لهن أدوار طلائعية. هذا ما يجعل فئة منهن تعتبر حوادث سير سياسية، لا يكلف الحزب نفسه حتى سد فراغها تأطيري، لذلك تكتفي بلعب دور الكومبارس. مثلما تعتبر، فئة من المتعاطين للفعل السياسي من الرجال، دخيلة على قطاع يجعلهم يسقطونه في الكثير من الابتذال، حيث تصبح الصفة الانتخابية التي يصلون إليها بطرق ملتوية أو العضوية في المكاتب التنفيذية، مظلة للتستر على ملفاتهم، وفضائحهم، ويساهمون من خلال صورهم اللصيقة بالفساد، في الإساءة إلى أحزابهم، أكثر من خدمتها، وفي رفع نسبة العزوف السياسي.
إن الإقصاء الممنهج، الذي عانت منه قاعدة المنتخبات اللواتي حصلن على 6673 مقعدا في أخر اقتراع جماعي، مقابل الحصيلة الهزيلة في تشكيلة المناصب في رئاسة مجالس الجماعات الترابية، وما نالته من وطائف داخل مكاتبها، ليؤكد مستوى القناعات الفكرية للنخبة التي أوكل إليها تسيير الشأن الحزبي، وغياب الإرادة والقناعة السياسية لإشراكهن في تدبير الشأن المحلي والجهوي، وفي محطة اقتسام السلطة معهن، لهو دليل على انحراف المسار الديمقراطي. هذا يؤكد انه لا زال أمام النساء السياسيات داخل الأحزاب، الحاملة لمشروع مجتمعي، الكثير من المحطات النضالية، من أجل إحقاق المرأة مكانتها في الوظائف الانتخابية. ليس للعب دور الواجهة أو لاستكمال النصاب، ولكن للمشاركة الفعلية في صنع القرار كآمرة بالصرف، لإظهار قدرتها على التسيير، وفي جلب الاستثمارات، وفي تسطير وتدبير السياسات العمومية. لن يتحقق مبدأ المناصفة، فقط بخلق هيئة، ولكن بالسهر على تفعيل الإجراءات القانونية والمؤسساتية، بتكريس منطوق الدستور على أرض الواقع، الذي ينص على تمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
ضدا عن الخطب الملكية، وعن مكنون الدستور، وعن النسبة التي حددتها القوانين الانتخابية للنساء، وعن مرافعات المجتمع المدني، يعتبر التغييب المفتعل للنساء، في تولي مناصب المسؤولية في الجهات 12 للمملكة، عنفا رمزيا، وانتكاسة حقوقية، وترجمة لغياب الوعي باعتماد المغرب للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، حول المساواة ورفع جميع أشكال التمييز. لأن ذلك، لا يدخل في أدبيات ممارسة بعض الأحزاب، خاصة تلك التي تتميز بازدواجية الخطاب. بل منها من يتبنى فوق الركح، منطوق التحديث، لكن في الكواليس، تظهر جليا، ملامح إستمرارية فكر التخلف، وعدم الإيمان بالمقاربة التشاركية، ولا بتكافؤ الفرص بين الجنسين. بل تطغى عليها في التسيير، النزعات الفردانية، والسلطوية التي يمكن أن تتبناها حتى بعض القياديات، تحت ذريعة شرعية التأسيس أو الشرعية الشعبية. بل القرارات داخل بعضها، تستفرد بها دائرة ضيقة من أصحاب المشاريع المشتركة، والتي يحمي فيها الحاضر مصالح الغائب. هذا ما يشكل نشازا، وضدا عن الأهداف الدستورية التي من أجلها تخلق مؤسسات الأحزاب، لحفظ التمثيلية الجهوية والنوعية، و للقيام بدور التأطير. لأن اعتبار البعض المؤسسة الحزبية، ملكية خاصة، بالمفهوم الاقتصادي للسوق السياسية، يضع فيها اليد على الموارد، ويدعم بها التحكم في الهياكل، وانتشار الرغبة في السيطرة على زمام الأمور، هي ممارسات تقوم بها في مسرح الأحداث، شخوص تبحث لها عن قنطرة للصعود وعن مجد من خلال فرض الفكر الفردي الذي ما يلبث أن يخلق عدوانا وفوضى وانفلاتا أخلاقيا أنانيا لأنها تذهب في اتجاه مركزة السلطة وتقتل التنوع والاختلاف والتيارات التي تخلق الدينامية والتوازن. كما يقول “بيير بورديو” في كتابه “الهيمنة الذكورية” والذي يتقاسم فيه الكثير من الأفكار مع فوكو وسارتر” إن أكثر الحقول التي لا تعلن عن نفسها كحقول هيمنة واستعباد، إنّما تستثمر كلّ أدوات التخفي، والاحتجاب، لتمارس التقنع والمخاتلة والمراوغة والخداع”.
عندما لا تتوفر سفينة الحزب على قيادة، ذات حمولة وحنكة سياسية، تسهر على خلق التوازن المؤسساتي،وتحتكم إلى الهياكل، فإنها تصبح عرضة للأمواج العاتية. إن ما يجري من استعمال مفرط للسلطة، في تسيير العلاقات الإنسانية، داخل جزء من المجتمع السياسي المغربي، لا يحتاج فقط إلى مراجعات، ولا إلى حركات تصحيحية. بل يجب أن يصب إعادة النظر فيه، إلى تبني التوجه اللاسلطوي، كفلسفة سياسية معارضة. لهذا، فإكراهات الممارسة السياسية النسائية، التي فيها الكثيرات ممن يتوفرن على الشجاعة السياسية والثبات في المواقف الجادة، غالبا ما تصطدم بنزعة لوبي الهيمنة الذكورية، كواقع قائم، ومتجدر بفعل ترسبات تاريخية، اجتماعية، وثقافية. لذلك يعتبرها “ألآن تورين” ساحقة وعنيفة وكلية.
إن الدفع بقليل من الجرأة، في التحليل النقدي، الذي يشرح العلاقات “الجنساوية” داخل المجتمع السياسي، يؤكد أن سطوة الرجل في الركوب على المرأة، هو تجسيد للاوعي فحولة التحكم فيها، وهيمنته عليها. أمّا الوضع الاتصالي الحبّي، الذي يوازي بين العلاقات، فهو وجه من أوجه التحول، الذي يتنازل فيه الذكر جزئيا عن أنانيته وفوقيته. يعتبر ذلك بمثابة انقلاب، ينتصر فيه دهاء المرأة. لكنه لا يدوم، لأنه ينبئ بوسواس ورهاب العجز. ويهدد بفقدان الامتياز الذكوري، وبقابلية الرجل على الصراع، والتعاطي “للعنف الشرعي” الذي تفرضه عليه سطوة الثقافة الذكورية.
إن منطق التحليل العلمي يفرض علي كباحثة، الاعتراف انتربولوجيا بوجود آثار اجتماعية، تؤكد تاريخيا تورط، ومساهمة النساء في صورة الهيمنة التي ورثها الرجال. بل إن عوامل التغيير التاريخي، وتقدم المجتمع، وتدريس المرأة، وخروجها لحقل الإنتاج، في الإعلام، واقتحامها للفضاء العام في زمن العولمة، لم يقلص من سطوة الرجال في مجال تحمل المسؤولية السياسية. لذا لا زالت تعاني من الإقصاء وتبقى خارج لائحة الناخبين الكبار ومربع الصراع حول اقتسام السلطة. خاصة إذا كانت من بين من لم تتخلى على جزء من حياتها العائلية والمهنية.
إن المدخل الحقيقي، لتحقيق ثورة ناعمة، للحد من السطوة الذكورية في المجال السياسي، تتطلب مواجهة التخلف بروح الثقة العالية في النفس، فالتغيير يخضع لمبدئي التدرج والتراكم، ويقوم على انخراط المجتمع المغربي في زمن المعرفة، والإيمان بأنه لا يمكن تحقيق التنمية، بإقصاء موارد بشرية تشكل نصف المجتمع، وجزء من الثروة المفقودة. غير ذلك، ستبقى المساواة المزعومة، من صنيع كونية وهمية، ودساتير لا تراعي الخصائص الوجودية. رغم حجم العراقيل، عندما يرتبط الإنسان مبدئيا بقضية عادلة، تكون له القدرة على تجاوز الحفر. فالأنثى التي تحمل الحياة في أحشائها، لها القوة على الصبر حتى بلوغ المخاض، والقدرة على ولادة نهضة المجتمع أو انتكاسته.
* باحثة في علم الاجتماع السياسي.