من خربة مهجورة إلى صرح عالمي… متحف فنون الطبخ المغربي يرسم ملامح فن العيش في مراكش

من خربة مهجورة إلى صرح عالمي… متحف فنون الطبخ المغربي يرسم ملامح فن العيش في مراكش

- ‎فيبلاحدود, في الواجهة
1611
التعليقات على من خربة مهجورة إلى صرح عالمي… متحف فنون الطبخ المغربي يرسم ملامح فن العيش في مراكش مغلقة

هيئة التحرير

في مدينة مراكش، حيث تمتزج الذاكرة بالحاضر وتتشابك الحكايات مع روائح الطيب والبهارات، يبرز متحف فنون الطهي المغربي كأحد أهم المعالم الثقافية التي تعيد تعريف فن العيش بالمغرب، وتقدّم للمقيم والزائر على حد سواء نافذة واسعة على الهوية الغذائية للمغاربة. هذا الفضاء الذي افتتح أواخر سنة 2019، لم ينشأ من فراغ، بل جاء تتويجاً لمسار طويل من التحولات التي عرفها عقار كان في الماضي مجرد خراب في قلب حي رياض الزيتون القديم.

ففي المساحة التي كانت تُعرف قديماً باسم “بيرو الرحامنة”، والتي تمتد على ما يقارب ثلاثة آلاف متر مربع، عاش المكان سنوات من الإهمال القاتم. منذ أن وُضع رهن إشارة وزارة الثقافة سنة 1975، تحوّل العقار تدريجياً إلى نقطة سوداء؛ فضاء مهجور تتراكم فيه الأتربة والنفايات، وملاذ للمتسكعين، ومصدر إزعاج دائم للسكان المجاورين الذين عانوا لسنوات من الأوساخ المتناثرة وروائحها. كانت البقعة أقرب إلى جرح وسط النسيج التاريخي للمدينة، قبل أن تتدخل مبادرات أولى لإنقاذ جزء صغير منه حين حصلت جمعية موظفي عمالة مراكش على إذن لاستغلال ما يقارب 800 متر مربع، قامت بتهيئته لاحتضان أنشطتها، مانحة للعقار أول تنفس بعد سنوات طويلة من الهجران.

ومع توجه الدولة منذ سنة 2017 نحو إنعاش القطاع الثقافي عبر شراكات تجمع القطاع العام والخاص، بدأت تتغير ملامح “الخربة” السابقة. المتحف الذي يُخصَّص داخل دار الباشا لتقديم أفخر أنواع الشاي والقهوة، وضمّ معلمة بنك المغرب إلى مؤسسة متاحف المغرب، ومساهمة المجلس الجماعي والمؤسسات العمومية… كلها كانت إشارات على أن مراكش تتجه نحو صياغة رؤية جديدة لفن العيش والثقافة والضيافة. وفي خضم هذا التحول، تقدّم أحد مستثمري القطاع الخاص، وهو من أبناء المدينة ممن راكموا تجربة في مجالي البنوك والفندقة، بمشروع طموح لاستغلال الجزء المتبقي من العقار عن طريق الكراء، بهدف تحويله إلى متحف لفنون الطبخ المغربي، يعرّف بروائع هذا الإرث وبجذوره العبرية والأمازيغية والعربية.

وافقت لجنة الاستثمار على المشروع، شريطة موافقة وزارة الثقافة، التي لم تتردد في منح الضوء الأخضر، مع اشتراط احترام قواعد ترميم البنايات التاريخية وإعادة زخرفتها وفق أصول الصناعة التقليدية المغربية. انطلقت ورشات البناء والترميم، وبدأ الصناع التقليديون المغاربة في رسم ملامح جديدة للمكان، فأعادوا الحياة إلى الجدران ونقشوا على الخشب والجص والزليج ما يشبه ولادة ثانية لبناية كانت في الماضي على وشك الاندثار. وتبقى صور الورش شاهدة على مهارة هؤلاء الحرفيين وقدرتهم على تحويل الأطلال إلى تحف فنية.

صور التي كان عليه المبنى المعروف حاليا بمتحف فنون الطبخ

استمرت عملية البناء وتهيئة المتحف لما يقرب من ثلاث سنوات، ليُفتتح رسمياً في أواخر 2019. ورغم توقفه المؤقت بسبب جائحة كورونا، عاد ليستقبل زواره بقوة، مقدّماً لهم تجربة فريدة تمتد على ثلاثة طوابق تأخذهم إلى عمق المطبخ المغربي. من وصفات الحساء القديم إلى المعجنات التقليدية وأكلات الشارع والأطباق الاحتفالية، كلها تُعرض بأساليب حديثة وباللغة الإنجليزية، مما يجعلها في متناول آلاف السياح الذين يعبرون بوابته يومياً.

هذا الفضاء لا يقدّم الطعام بوصفه وصفة، بل بوصفه تاريخاً. كل طبق هو حكاية، وكل نكهة هي ذاكرة، وكل مكوّن هو جزء من مسار طويل من التبادل الثقافي الذي صنع الهوية المغربية. ولذلك لم يكن غريباً أن يدرج المتحف ضمن لائحة مجلة “تايم” الأمريكية لأفضل 100 مكان في العالم لسنة 2024، وهو اعتراف دولي يعكس المكانة التي باتت تحتلها مراكش كعاصمة عالمية لفن العيش.

ولا يقف دور المتحف عند البعد الثقافي فقط، بل تجاوز ذلك إلى خلق نموذج للاستثمار الخاص في المجال الثقافي؛ فقد ساهم المشروع في ترميم فضاء كان مهملاً، وفي توظيف أكثر من سبعين شاباً من أبناء المدينة، إضافة إلى خلق منتوج سياحي متميّز يجذب الزوار ويعزز صورة مراكش عالمياً. لقد أصبح المتحف اليوم ليس مجرد مكان للعرض أو وجهة لالتقاط الصور، بل ورشة حيّة تعكس عبقرية الصناع التقليديين، وتروي تاريخ المطبخ المغربي بكل روافده الثقافية، وتقدّم نموذجاً ناجحاً لكيف يمكن للثقافة أن تتحول إلى فرصة تنموية تخلق القيمة المضافة وتعيد الحياة إلى ذاكرة المكان.

في هذا المتحف، يكتشف الزائر أن الطبخ المغربي ليس مجرد أكل، بل أسلوب حياة، وفلسفة عيش، وجزء من هوية لا تزال تتجدد دون أن تفقد جذورها. ومراكش، التي كانت وما تزال مدينة الروائح والألوان والأصوات، تجد هنا فضاء آخر يؤكد أنها قادرة على تحويل الخراب إلى جمال، والنسيان إلى ذاكرة، والماضي إلى مستقبل.

You may also like

فيديو . جمع عام تأسيسي لـ“الجمعية المغربية للطب البديل والتنمية الصحية” بمراكش

حكيم شيبوب/ تصوير: ف. الطرومبتي شهد مقر دار