رحيل سيزا قاسم.. تلميذة القلماوي

رحيل سيزا قاسم.. تلميذة القلماوي

- ‎فيفن و ثقافة, في الواجهة
482
التعليقات على رحيل سيزا قاسم.. تلميذة القلماوي مغلقة

بقلم / اعتماد سلام

رحلت سيزا قاسم قبل يومين.
ودعها ونعاها محبوها ووسطها النقدي والثقافي الذي أخلصت له بحزن وتقدير لمسيرتها اللامعة في عالم النقد والأدب المقارن والدراسات البنيوية.
أعتقد أن سيزا كانت ستحب أن ينعيها من عرفها تحت عنوان “تلميذة القلماوي”، أسمح لنفسي بهذا الاعتقاد انطلاقا من المحبة التي خصت بها أستاذتها سهير القلماوي والقيمة التي كانت تمثلها لها هذه العلاقة المقدسة بين الأستاذ وتلميذه حتى أنها كتبت في نص لها نشر في مجلة الهلال عام 1979، وعنونته بـ “السلسلة الذهبية: تأملات في الأستاذية”، أن “علاقة التلميذ-الأستاذ من العلاقات العزيزة التي إذا عرفها الإنسان حملها وساما على صدره طوال حياته دالا على جذوره”، مشيرة إلى أن “علماء الإسلام كانوا يُعرَّفون في السير والتراجم بذكر أسماء شيوخهم، فبقدر الشيخ يُقوَّم المريد”. وفي المقال ذاته قالت سيزا “إن مجلة أخبار الأدب عندما نعت سهير، نعتها تحت عنوان تلميذة العميد”.
عاشت سيزا وفية لهذا الرأي، وحملت أستاذية سهير وساما طوال حياتها، فخورة بأن السلسلة الذهبية التي امتدت من طه حسين إلى سهير وصلت إليها، فكانت عرابة مسارها وصاحبة فضل عليها، هي التي تعلمت تعليما فرنسيا ودرست الأدب الفرنسي في الجامعة وكانت بصدد مواصلة دراساتها العليا في اللغة الفرنسية أيضا، لكن نزولا عند رغبة أستاذتها التي أشارت عليها بأن تتوجه إلى قسم اللغة العربية عادت ودرست الأدب العربي لثلاث سنوات أخرى ثم تخصصت في الآداب المقارنة. لذلك تعتبر أن كل مسارها العلمي هو من زرع سهير التي تعلمت منها ألا تحيد عن طريق القيم وحرية الفكر، وتحت إشرافها، قدمت أطروحتها الشهيرة لنيل الدكتوراه حول دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، وهو المشروع الذي رفضه قسم اللغة العربية معتبرا أنه يضرب التقاليد الجامعية المعمول بها، قبل أن تتدخل سهير لتقنع اللجنة. هذه القوة في الموقف والحجة لدى سهير انتقلت إلى تلميذتها أيضا، فكانت لا تتورع عن التعبير عن مواقفها بشجاعة وصراحة قد تكون صادمة أحيانا، متحدية الجميع بكلمة الحق، نزيهة وزاهدة، معتدة بنفسها وعلمها، ومستغنية عن ما دون ذلك.
تعتبر سيزا أن الثلاثية هي التي وضعت نجيب محفوظ على خارطة الأدب العالمي. محفوظ الذي كانت تعده دون شك كاتبا عظيما لكنها لا تتردد في نعته بـ”المثقف الجبان” لأنه لم يكن يريد أن يلعب دورا اجتماعيا أو سياسيا واختار الانزواء. اختيار تعتبره أمرا مؤسفا لأن من مثل نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل أصبح أيقونة، ويمكن أن يكون له دور مهم في المجتمع، والأهم من ذلك، أن يواجه السلطة. هذا اللوم والاتهام، توجهه سيزا لنفسها أيضا، “يِمكن أنا نفسي مسؤولة”.. لأنها لم تقم بأي دور اجتماعي كما تقول وكل ما فعلته أنها استطاعت أن تعبر عن رأيها أمام طلابها. السبب في هذا الانزواء أو الابتعاد عن المواجهة بشكل مباشر ترجعه سيزا قاسم إلى الخوف الذي تعده أكبر عدو للفكر.. “لن أخاف من قولها وأنا على مشارف الموت وفي عامي السادس والثمانين”!.
كانت سيزا تحمل هما آخر يرتبط بالتراث العربي الذي ترى أنه تراث عظيم لكنه مهمل رغم ثراء أعماله النحوية واللغوية والتفاسير القرآنية وكتب الطبائع، ويحز في نفسها أن هذه الثروة التي لا توجد في أي أدب آخر تقابل بالجهل عندنا. هو هم يجد راهنيته لديها من شعورها بأن الأدب العربي المعاصر في انحدار ولا يجذبها كما يجذبها الأدب والتراث العربي القديم، لذلك كانت لا تفوت كل فرصة للدعوة إلى إحياء إنتاج العلماء المسلمين، وكانت ممن عملوا على ذلك منذ رسالة الماجستير الخاصة بها عن طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي.
الصراحة إلى حد الصدمة كما أشرت إلى ذلك سابقا، كانت من السمات المميزة لسيزا، لذلك لن يكون مفاجئا أن نسمعها تقول إنها لا تتابع الإنتاج الحالي في الأدب سواء كان عربيا أو أجنبيا، “لأننا ببساطة بصدد انهيار حضاري وثقافي عالمي.. ومن بين 700 رواية تصدر مع كل موسم ثقافي لا ترقى إلا بضع روايات إلى المعايير المطلوبة..”، تؤاخذ الكتاب الشباب لأنهم “لا يقرأون” وتقول إن روايات معظمهم “سطحية” مع استثناءات قليلة.. وهي لم تعد تملك وقتا كثيرا: “أنا وقتي أصبح ثمينا مش فاضل وقت كثير أضيعه على الفاضي..”، هنا تتذكر إدوار الخراط، تعطي به المثل وتقول إنه كان كاتبا كبيرا ومثقفا حقيقيا لذلك جاءت كتاباته ثرية. ثم تعود وتقول إنها يمكن أن تضع إدوار في مكانة “ربما تسبق مكانة نجيب محفوظ، ربما وليس مؤكدا”.. تقول ذلك وهي لا تخفي تشاؤمها إزاء الثقافة العربية بصفة عامة لأن جيل العمالقة انتهى ولم يترك أي منهم خلفا، وتضيف بحزن وكأنها تتوجس من انقطاع السلسلة الذهبية، “أنا بردو ليس ورائي تلامذة تعلموا مني مع الأسف الشديد.. الحقول المعرفية المختلفة باتت جرداء بعد رحيل الرواد”.
أمر آخر كان ضمن قائمة هموم سيزا، ويتعلق بالرقابة التي بدأت تعمل داخل دواليب المجتمع الثقافي المصري حد الإزعاج كما تؤكد، هي التي تعتبر نفسها نتاج حركة التنوير.
اتفقنا معها أو اختلفنا..
هذه سيزا، سيدة عظيمة من مصر!
رحمها الله.

يمكنك ايضا ان تقرأ

بتعليمات سامية من الملك: ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء

كلامكم بتوجيهات سامية من الملك محمد السادس، استقبل