بقلم : البراق شادي عبد السلام
حدد الكاتب البريطاني سايمون كوبر المتخصص في أنثروبولوجيا كرة القدم و علم الإجتماع الرياضي مع الإقتصادي الامريكي ستيفان زيمانسكي المتخصص في إقتصاد الترفيه بمؤلف مشترك صادر عام 2009 بعنوان: ( كرة القدم بلا ميكروفونات -سبب فوز إسبانيا وألمانيا والبرازيل ، ولماذا تتجه الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأستراليا – وحتى العراق – إلى أن تصبح ملوك الرياضة الأكثر شعبية في العالم.)
( Soccernomics: Why England Loses, Why Germany and Brazil Win, and Why the U.S., Japan, Australia, Turkey — and Even Iraq — Are Destined to Become the Kings of the World’s Most Popular Sport)
ذكر الكاتبان ثلاث عوامل أساسية إن توفر عامل أو أكثر يكون كافيا لتحقق بها أي بلد نهضة كروية حقيقية و نتائج قوية تتسيد فيها اللعبة على المشهد الرياضي .
التعداد السكاني : بمعنى أن عدد السكان الضخم و المتنوع يفرز مواهب أكثر بشكل أوتوماتيكي سواء من الناحية المورفولوجية أو من الناحية الذهنية أو الثقافية .
مستوى دخل الفرد : يؤكد الكاتبان أن الدول التي تحقق مستوى دخل فردي يتعدى 16 ألف دولار سنويا دائما ما تحقق نتائج مضمونة و متقدمة في المسابقات الدولية فالدول الغنية بإقتصاد قوي تكون قادرة على تنظيم مسابقات وطنية و دولية و جلب خبرات رياضية دولية من لاعبين و مدربين و تمويل البرامج الرياضية المختلفة التي تتطلب إستثماراتمالية ضخمة .
التجربة الكروية : عن طريق الإحتكاك مع تجارب كروية مختلفة من خلال المشاركة في المسابقات الدولية و القارية كمثال تأثير المشاركة في المسابقات الأوروبية كدوري أبطال أوروبا و الدوري الأوروبي على نوادي الدرجة الثالثة الأوروبية و درجة آداءها في البطولات الإحترافية المحلية .
في الكتاب طرح كوبر – زيمانسكي أكثر من سؤال عن الأسباب التي تقف أمام صعود كرة القدم بالولايات المتحدة الامريكية و عدم تحقيقها لنتائح عالمية مشرفة و لماذا ليست هي اللعبة الأكثر شعبية في أمريكا رغم أنها الاكثر شعبية في العالم .
لماذا الولايات المتحدة الأمريكية لا تحقق الريادة في كرة القدم رغم انها تمتلك كل العوامل أعلاه سواء الذاتية و الموضوعية لتحقيق الريادة ؟ ولماذا المنتخب الأمريكي لكرة القدم لا يحقق نتائج عالمية و لا يفوز بكأس العالم ؟ لماذا كرة القدم بإعتبارها الرياضة الأكثر شعبية في العالم ليست هي الأكثر شعبية في المجتمع الأمريكي بالمقارنة مع كرة السلة أو الريكبي أو البيزبول و الهوكي ؟!
بعد بحث ميداني و أكاديمي توصل الكاتبان أن أسباب فشل تسويق السياسة الكروية الامريكية هي بالأساس أسباب غير كروية بعيدا عن الأجوبة النمطية التي يدركها الجميع على أن الشعب الامريكي يفضل رياضات أخرى غير كرة القدم ،خلص الكاتب في بحثه عن الأجوبة أن هناك أسباب تاريخية و أخرى مرتبطة بطبيعة المجتمع الأمريكي و نمط حياته و إختياراته .
فظهور كرة القدم بشكلها الحديث في منتصف القرن التاسع عشر في الأوساط العمالية المتشبعة بالفكر الشيوعي و الإشتراكي بالمدن الصناعية العمالية بإنجلترا و إلمانيا و فرنسا كرد طبقي على الرياضات البرحوازية التي كانت تمارسها الطبقات العليا من المجتمع كالكريكيت و التنس و الكولف ،لكن في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي في المجتمع الليبرالي الرأسمالي الأمريكي كان رجال الأعمال الصاعدين مع صعود الإقتصاد الأمريكي قبيل الحرب العالمية الأولى ينظرون بإحتقار لكرة القدم بإعتبارها لعبة شيوعية لا يمارسها إلى الطبقات الدنيا من المجتمع إلى جانب أنها لا تحقق هامش الربح التجاري و الإعلاني بها أقل لأن بها توقف واحد بين الشوطين، بينما باقي الرياضات بها أشواط أكثر و توقفات أكثر و إعلانات أكثر و ربح أكبر و بالتالي لم تكن كرة القدم مفضلة لشركات الإعلان و المستشهرين و رجال الأعمال .
و بالتالي مع تطور المجتمع الأمريكي و طبيعته الإستهلاكية في مرحلة بين الحربين و بعد الحرب العالمية الثاني في ستينيات و سبعينيات عندما إنتشرت كرة القدم و تسيدت على الرياضات في العالم ظل الأمريكان مفضلين لكرة القاعدة الأمريكية و كرة السلة و الكريكريت و الريكبي كرياضات أمريكية خالصة ، لكن في نفس الآن داخل المجتمع الأمريكي يوجد ممارسون و أندية و بنية تحتية مهمة لكرة القدم فالمنتخب الأمريكي نافسفي أول كأس للعالم بالأوروغواي 1930 و حقق المركز الثالث ، كرة القدم فقط تم تهميشها تجاريا و إعلانيا فلم تستطع أن تجد مكانا لها في وسط الزخم التجاري الذي تحققه باقي الرياضات ، بل حتي الحقيقة النمطية بأن كرة القدم غير شعبية في الولايات المتحدة الأمريكية هي خاطئة فعدد الذكور من سن 12 لسن 18 الممارسين لكرة القدم في مدارس و نوادي أمريكية يتجاوز 6.8 ملايين و هو رقم أكبر من عددهم في فرنسا و بريطانيا و إسبانيا و ألمانيا مجتمعين و أكثر من 24 مليون أمريكي يلعبون كرة القدم، يوجد حوالي 4.2 مليون لاعب كرة قدم في الولايات المتحدة.
تاريخيا في سنة 1913 تأسس اتحاد الولايات المتحدة لكرة القدم USSF و إنضم للفيفا و اتحاد أمريكا الشمالية لكرة القدم ،نافس منتخب الولايات المتحدة في بطولات كأس العالم و كأس القارات و كأس الكونكاكاف بالإضافة لبطولة كوبا أمريكا من خلال الدعوة.
لمنتخب الولايات المتحدة بعض الإنجازات أبرزها كان إحتلاله المركز الثالث في أول بطولة كأس العالم في 1930 في الأورغواي ، كما نافس المنتخب في بطولتي كأس العالم 1934 في إيطاليا وبطولة كأس العالم 1950 ليغيب المنتخب الأمريكي عن المنافسات مدة 40 سنة حيث شاركت في كأس العالم 1990 التي أقيمت في إيطاليا لتغيب 14 سنة و تشارك في كأس العالم بالبرازيل 2014 فيما فشلت بالتأهل إلى بطولة 2018 في روسيا ثم مشاركة في كأس العالم قطر 2022.
من إنجازات منتخب الولايات المتحدة الوصول إلى المباراة النهائية في بطولة كأس القارات 2009 بعد أن تمكن من هزيمة منتخب إسبانيا المصنف الأول في العالم أنذاك بنتيجة 2-0 قبل أن يخسر المباراة النهائية أمام منتخب البرازيل بنتيجة 3-2 بعد ريمونتادا تاريخية.
تمكن منتخب الولايات المتحدة أيضاً من الفوز بكأس الكونكاكاف 6 مرات في سنوات 1991 و 2002 و 2005 و 2007 و 2013 و 2017 ليكون ثاني أكثر منتخب فاز بها بعد منتخب المكسيك الذي 10 مرات بالكأس.
في سنة 2007 وضع الإتحاد الأمريكي لكرة القدم برنامج شامل لتطوير كرة القدم لتؤسس أكاديمية تطوير كرة القدم الأمريكية U.S. Soccer Development Academy بعد مراجعة شاملة لتطوير الممارسين أجراها اتحاد كرة القدم الأميركي في أمريكا و العالم ، تستند فلسفة برنامج الأكاديمية على زيادة التدريب ، وعدد أقل من الألعاب المفتوحة والتركيز أكثر على الألعاب الأكثر أهمية باستخدام قواعد المنافسة الدولية لتوفير بيئة يومية لتطوير اللاعبين.
تم إنشاء المنظمة كشراكة بين إتحاد كرة القدم الأمريكية وأندية القسم الممتاز في جميع أنحاء البلاد ، مع التركيز على زيادة التدريب الأكاديمي الإحترافي بشكل عام وفق إستراتيجية متكاملة لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في إنتاج لاعبين من الطراز العالمي.
يعمل الدوري على ربط مدربي المنتخبات الوطنية من جميع المستويات العمرية مباشرة بنخبة اللاعبين الشباب ، أيضا تم التركيز على مستوى تكوين المدربين و الأطر التقنية و الإدارية لأكاديميات كرة القدم و تكوين متقدم للحكام و الأطقم الطبية و مكافحة المنشطات .
برنامج طموح رصدت له ميزانيات مهمة بهدف إعادة تأسيس كرة القدم الأمريكية وفق رؤية إستراتيجية تهدف لتحقيق نتائج تعكس قوة و هيمنة الأمة الأمريكية و نفوذها في العالم..
مع جائحة كورونا توقف تمويل برنامج أكاديمية تطوير كرة القدم الأمريكية U.S. Soccer Development Academy بعد ثلاث عشر سنة إستطاعت الكرة الأمريكية أن تحقق نتائج إيجابية فقد إرتفعت القيمة السوقية للبطولة الأمريكية الإحترافية بنسبة 600٪ أكثر من 480 لاعب أمريكي تحترف في الدوريات الأوروبية أبرزهم اللاعب سيرجينو جياني ديست النجم السابق لأجاكس أمستردام في برشلونة و كونراد دي لا فيوينت في أولمبيك مارسيليا الدولي و كريستيان بوليسيتش مهاجم نادي تشيلسي و لم يتوقف العمل من أجل تطوير الكرة الأمريكية لأنه خيار إستراتيجي بالنسبة لأمريكا وأصحاب المصلحة من المؤسسات المحتضنة و الشركات الكبرى و الصناديق الإئتمانية الإستثمارية في الرياضة كصندوق الاستثمار الأمريكي “ريدبيرد” الذي إستحوذ مؤخرا على صفقة شراء نادي ميلان و يقترب من شراء ملاعب تاريخية في إيطاليا و بريطانيا و البرازيل لإعادة تشغيلها بمقاربة إستثمارية أكثر ربحية .
في سنة 2022 قرر الدوري الأمريكي لكرة القدم ” Major League Soccer (MLS)” أن يؤسس برنامج بديل لأكاديمية تطوير كرة القدم و أطلق برنامج MLS next لصالح الفئات العمرية أقل من 19 سنة حيث يضم 9000 لاعب و 590 فريق عبر 133 نادي ينتظمون في دوري لكرة القدم عبارة عن برنامج للتكوين و التدريب ببرامج تطوير تفصيلية لكل لاعب بشكل خاص إعتمادا على الذكاء الإصطناعي والإمكانيات الذهنية والبدنية بمعنى أن كل لاعب له برنامج خاص في التكوين و التدريب إضافة لبرنامج التدريب الأكاديمي والجماعي يعتمد على الإحتضان و المواكبة بالإضافة للتكوين العلمي و الدراسي.
البرنامج يهدف لخلق جيش من اللاعبين / النجوم بقدرات بدنية عالية و بنية عقلية رياضية متكاملة بدل إنتظار الظاهرة الكروية التي تظهر كطفرة رياضية لا تتكرر ( بيلي – مارادونا – بيكنباور – العربي بنمبارك – ميسي – رونالدو البرازيل – رونالدو البرتغال – زين الدين زيدان – كوارديولا – مورينيو – عزيز الدايدي) .
كرة القدم رغم الأموال الكبيرة الذي تضخ فيها و الارقام الفلكية لإنتقالات اللاعبين لكنها لا تعتبر نشاطا تجاريا مدرا للربح مقارنة مع باقي الأنشطة التجارية الأخرى، لا زالت تحكمها المتعة و نشوة الإنتصار و تحقيق رغبات الجماهير الكاتبان زيمانسكي – كوبر في كتابهما حاولا البحث في معرفة ما إذا كانت الأندية و الفرق تسعى لتحقيق الربح أو النصر و هنا كانت المعادلة البسبطة : يتطلب الربح الحد من الأجور ، مما يعني انتصارات أقل ، أنه إذا أراد نادي برشلونة الزيادة من أرباحه ، فسوف يحتاج إلى إحتلال المركز الخامس عشر في الدوري لتقليل فاتورة رواتبه بشكل خطير. بالنسبة إلى أندية مثل أتليتيك بلباو ، سيكون المركز الأكثر ربحية في الدوري الثاني – حيث يمكنهم توفير الكثير من المصاريف و خاصة أجور اللاعبين ، كان الإستنتاج الواضح أنه إذا كان الربح المادي هو الهدف ، فإن الأندية عليها إنفاق الكثير من الأموال.
يحاول البعض جاهدًا عولمة لعبة كرة القدم وجعلها شيئًا يمكن التنبؤ به وتوقعه وهو إتجاه خاطئ تمامًا، نعم نقول ندرس ونتعلم كرة القدم والتكتيكات وتبّني الإستراتيجيات، وكيفية إدارة الأمور داخل الميدان، لكن لا يجب تجاهل أن اللعبة هي علم غير حقيقي لا يستند على دلائل حتمية لتتوقع بها المستقبل،كرة القدم تشوبها العشوائية والتلقائية والحظ له دور لا يُستهان به،
والمدربين و الأطر التقنية يعملون على وضع المنظومات والتكتيكات و الخطط للحد من الصدفة وتلك العشوائية، بغض النظر عن ظهور التكنولوچيا وتطورها في كرة القدم أو الطرق البيداغوجية التربوية وبصرف النظر عن عدد تلك الرسائل العلمية و الدراسات الأكاديمية المنشورة حولها، وعن العمل الدائم لجعلها علمًا دقيقًا مُتنبًأ به، كاملًا ومعصومًا من الخطأ ستظل كرة القدم تتمتع بالتلقائية و العجز عن تفسير العديد من الأمور بها، ستجد دائما عقلا لا يستوعبها ولا يجد لها مخرجًا.
أتذكر هنا المارد دييغو مارادونا عندما سئل عن الهدف الذي أحرزه في شباك المنتخب الإنجليزي برسم منافسات مونديال ميكسيكو 1986و لكن ليس ككل الأهداف لأن مارادونا سجله بيده اليسرى وقام الحكم الدولي التونسي علي بن ناصر باحتسابه : ” لقد سُجِّل الهدف بشيء قليل من رأس مارادونا وشىء قليل من يد الله ” .