حقيقة الكذب في السياسة الدولية.

حقيقة الكذب في السياسة الدولية.

- ‎فيرأي
315
التعليقات على حقيقة الكذب في السياسة الدولية. مغلقة

 

الدكتورة مريم زرقيق .

يستهدف هذا الكتاب “لماذا يكذب القادة.. حقيقة الكذب في السياسة الدولية” للبروفسور ﺟﻮن ﺟﻲ. ﻣيرﺷﻴﻤﺮأستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأمريكية، أحد أبرز الباحثين الأمريكيين في السياسة الخارجية، توفير أطر تحليلية قد تساعد في تنظيم تفكيرنا عن الكذب في السياسة الدولية، وكذلك الدفع ببعض التصورات النظرية حول جوانب أساسية في الموضوع، فوفقا للمؤلف تتوافر عن الكذب كتابات كثيرة وغزيرة، لكن بالكاد نجد منها ما يعالج بوضوح مسألة الكذب في السياسة الدولية. أحد الاستثناءات المميزة في هذا الصدد هو كتاب “عندما يكذب الرؤساء: تاريخ الخداع الرسمي وعواقبه” لإيريك ألترمان، والذي يزودنا بسياق ممتاز عن الكذب الرئاسي خلال السبعين سنة الماضية. غير أن ألترمان ليس متخصصا في العلوم الاجتماعية، ولم يكن يحاول أن يخلق نظرية في الكذب الدولي. كما لم يفعل أحد آخر ذلك. ولربما يقول قائل إن هنالك دراسات عديدة عن الخداع بين الدول. وفي حين أن هذا الأمر صحيح، فإن تلك الدراسات لا تميز بين الإخفاء والكذب والتلفيق، والأهم من ذلك لا نجد من تلك الكتابات ما يركز على الكذب، ويحاول أن يطور مقاربات عامة حول ذلك السلوك تحديدا. لذا فإن الهدف الأساس لهذا الكتاب هو ملء ذلك الفراغ، من خلال التأسيس لنظريات في الكذب السياسي الدولي، وليس معالجة مفهوم الخداع بمعناه العام.&

ويرتكز تحليل ﻣيرﺷﻴﻤﺮ في كتابه الذي ترجمه د.غانم النجار وصدر عن سلسلة عالم المعرفة على أربعة أسئلة: أولا، ما أنواع الأكاذيب الدولية التي يطلقها القادة؟ ثانيا، لماذا يكذبون؟ وما المبررات المنطقية الإستراتيجية وراء كل نوع من أنواع الكذب؟ وبالتحديد، ما المنافع المحتملة للكذب التي دفعت القادة إلى الدخول في مثل هذا السلوك المشين؟ ثالثا، ما الظروف التي تجعل من حدوث أي نوع من الكذب أكثر أو أقل احتمالا؟ رابعا، ما التكاليف الكامنة للكذب، وما مدى تأثيرها في السياسة المحلية للدولة وكذلك سياستها الخارجية؟ وبعبارة أخرى، ما الجانب السلبي للكذب الدولي؟ ووفقا لذلك يتطرق المؤلف إلى المنافع والأضرار الناتجة عن الأكاذيب المختلفة التي يطلقها رجال الدولة والديبلوماسيون بعضهم على بعض وعلى شعوبهم أيضا

يرى ﻣيرﺷﻴﻤﺮ أنه على المستوى العام من الممكن التفكير في الكذب إما من منظور مطلق وإما من منظور نفعي. فأصحاب المذهب المطلق، أمثال إيمانويل كانت وأوغستين يعتبرون أن الكذب دائما خطأ، ومن النادر أن تكون له جوانب إيجابية. فالكذب وفق كانت، يمثل “أكبر انتهاك يرتكبه الإنسان في حق نفسه”. أما المنفعيون في الجانب الآخر، فإنهم يرون أن الكذب يكون منطقيا في بعض الأحيان، لأنه يحقق غرضا اجتماعيا مفيدا، ولكنه لا يحقق تلك الفائدة في أحيان أخرى. ولعل النقطة الأساسية هنا تحديد متى وكيف تتحقق تلك المنفعة. وقد نظرت إلى الكذب الدولي من وجهة نظر نفعية بحتة، وذلك لوجود أسباب قوية لتبرير ذلك، ولم يكن مستغربا أن نجد أكثرها في السجلات التاريخية. ويعتقد الكثيرون أن هناك ظروفا في السياسة الدولية يكون فيها الكذب مفيدا. بيد أن هذا لا يعني بالطبع أن ننكر البعد الأخلاقي لهذه الظاهرة. على أي حال، فإن هذه المهمة تتطلب منا الأخذ في الاعتبار جملة من الحسابات المختلفة والاعتبارات التي تقع خارج نطاق هذا الكتاب.لوطنية&

ويشيرإلى إن القادة يكذبون دوليا لسببين مختلفين. فهم قد يكذبون خدمة للمصلحة الوطنية وهذا ما يعرف بـ “الكذبة الإستراتيجية” والتي عادة ما يستخدمها القادة ذريعة للحفاظ على مصلحة بلدانهم في وجه التقلبات السياسية مع الغير. كذلك، فإن القادة يكذبون “أكاذيب شخصية أنانية” لا علاقة لها بمصلحة الدولة، ولكنها موجهة للحفاظ ولحماية مصالحهم الشخصية أو مصالح أصدقائهم. غير أن الاهتمام في الكتاب ينصب على الكذب الذي يطلقه القادة لأجل المصلحة العامة، وليس لأجل مصالحهم الشخصية.

يقول في مضمار السياسة الدولية، بإمكان القادة أن يختلقوا سبعة أنواع من الأكاذيب. ولكل نوع من تلك الأكاذيب غرض محدد، وإن كان من الممكن أن تؤدي كذبة واحدة أغراضا متعددة. فعلى سبيل المثال، الكذبة التي يطلقها قائد لشعبه بخصوص تهديد خارجي محتمل، للحصول على دعم شعبي للتصدي للتهديد (إثارة الذعر)، من الممكن أن تحيي الروح الوطنية في البلاد تصوير من خلال العدو بطريقة سلبية جدا (خلق الأساطير القومية). وهذا النوع من الأكاذيب، تحديدا، يوجهه صانعو القرار السياسي لشعوبهم، ولكن الأكاذيب يمكن أن توجه أيضا إلى الدول المعادية، كما يمكن أن توجه إلى الدول الصديقة. ولكن الكذبة التي توجه إلى أي من هذه الجماهير، ستصل بالضرورة إلى الأطراف الأخرى، مما قد يجعل لها آثارا إيجابية أو سلبية.

ثانيا توجه الأكاذيب بين الدول مباشرة إلى الدول الأخرى إما لتحقيق تفوق استراتيجي، وإما للحيلولة دون تحسن وضعها على حساب وضع الدولة الكاذبة. وعادة ما يوجه هذا النوع من الكذب إلى الدول المنافسة، بيد أن الدول تكذب أحيانا على حلفائها. وعادة ما ينتهي الأمر بالقادة المنشغلين بالكذب على الدول بأن يخدعوا شعوبهم، على الرغم من أنهم ليسوا المقصودين بالخداع. يظهر أسلوب “إثارة الذعر” عندما يكذب قائد ما على شعبه بشأن قضية سياسة خارجية بخصوص تهديد يواجه البلد، معتقدا أن شعبه لا يعطي ذلك التهديد حقه. والقصد من ذلك هو دفع الشعب لكي يأخذ التهديد بصورة جدية، وتقديم التضحيات للتصدي له. لا يلجأ القادة هنا إلى إثارة الذعر، لأنهم أشرار، أو لتحقيق مكاسب شخصية، لكنهم يضخمون تهديدا معينا في سبيل المصلحة الوطنية.

ثالثا أما “التغطيات الإستراتيجية” فهي أكاذيب تهدف إلى إخفاء سياسات فاشلة، أو سياسات مثيرة للجدل، عن الشعب، وأحيانا عن دول أخرى كذلك. ولا يطلق القادة هذه الأكاذيب لحماية غير الأكفاء الذين فشلوا في عملهم، أو لإخفاء سياسات غبية – وإن كان من الممكن أن يتحقق ذلك كنتائج غير مقصودة. بل الهدف هنا هو حماية الدولة من الأذى. على سبيل المثال، يعتبر الكذب حول ضعف قدرات الجيش في حالة الحرب مهما للحفاظ على تماسك وتضامن الجبهة الداخلية، والذي ربما يشكل الفرق بين النصر والهزيمة.&

رابعا أما “صناعة الأساطير القومية”، فهي حين يطلق القادة الأكاذيب، بشكل أساسي لشعبهم، حول ماضي دولتهم، فنجدهم يروون قصة يكون فيها “نحن” دائما على حق، و”هم” دائما على خطأ. وتفعل النخبة ذلك عن طريق إنكار أن دولتهم، أو مجموعتهم العرقية، قد اقرفت ما اقرفته في الواقع، أو ادعاء قيامهم بأشياء لم يقوموا بها أصا. وبالطبع، تطلق تلك النخبة ذاتها أكاذيب مشابهة بحق المجموعات المعادية أو المنافسة لها. الهدف هنا هو إيجاد حس قوي بالهوية الجماعية بين المواطنين في العموم، لأن ذلك مهم في بناء الدولة القومية والمحافظة عليها، ولتشجيع الناس على القتال في الحروب لأجل وطنهم. وأحيانا تساعد هذه الأساطير الدول على تحقيق شرعيتها بين الدول الأخرى.

خامسا تصمم “الأكاذيب الليبرالية”، للتغطية على سلوك يتناقض مع منظومة المبادئ المتعارف عليها بشكل واسع في أنحاء العالم، والتي تمثل العمود الفقري للقانون الدولي. فالدول بجميع أشكالها ونظمها السياسية، بما في ذلك الأنظمة الليبرالية الديموقراطية، تتصرف أحيانا بشكل وحشي تجاه دول أخرى، أو تشكل تحالفات مع دول ممارساتها سيئة. وعندما يحدث ذلك، يختلق القادة قصة يروونها لشعوبهم، أو للعالم على اتساعه، بهدف محاولة التمويه على تصرفاتهم غير المتسقة مع الأعراف الليبرالية، بأسلوب باغي مثالي.

سادسا تأتي ممارسة “الإمبريالية الاجتماعية” حين يطلق القادة الأكاذيب عن دولة أخرى بهدف تنمية مصالحهم الاقتصادية أو السياسية، أو لمصلحة طبقة اجتماعية أو مجموعة بعينها. ويستهدف هذا النوع من الأكاذيب صرف نظر الشعب عن مشاكل أو قضايا مثيرة للجدل في الساحة المحلية لخدمة شريحة صغيرة في المجتمع، وليس المصلحة العامة. فعلى سبيل المثال، قد يحاول القادة أن يزيدوا من هيمنتهم على مفاصل القوة في الدولة، عن طريق المبالغة في تصوير تهديد محتمل، وخلق حالة من الخوف في المجتمع، مما يؤدي إلى التفاف الشعب حول النظام.

سابعا تظهر “التغطيات الشنيعة” عندما يكذب القادة بخصوص تخبطاتهم، أو سياساتهم الفاشلة لمصالح شخصية. ويكون هدفهم الأساسي في هذه الحالة هو حماية أنفسهم، أو أصدقائهم، من عقاب مستحق ولا يسعى هذا النوع من الأكاذيب إلى تحقيق مصلحة عامة، كما هي الحال مع التغطيات الإستراتيجية. ولكن لأن التغطيات الإستراتيجية تنتهي بحماية الفاشلين والإبقاء عليهم في مراكزهم، فمن الصعب أحيانا، التمييز بين هذين النوعين من أكاذيب التغطية.

غير أن ﻣيرﺷﻴﻤﺮ يلفت إلى خمسة أكاذيب من هذه الأكاذيب لكي يمحور كتابه حولها وهي تلك الأكاذيب التي تطلق بهدف تحقيق المصلحة الوطنية، حيث يتجاهل أكاذيب التغطيات الشنيعة أو الإمبريالية الاجتماعية، وقد برر ذلك ” لقد تجاهلنا هذين النوعين من الأكاذيب، لأنه لا توجد قيمة استراتجية لهما، وبالطبع ، نحن ندرك جيدا لماذا يطلق الأفراد أكاذيب من هذا النوع، ولكن لا أحد يرى أنهما سلوكان مشروعان أو مقبولان. بل إن أغلبية المراقبين سينددون بهذه الأكاذيب الأنانية ليس لأنهما يحمان أثرا مفسدا في الحياة السياسية فقط، ولكن لأنهما يضعفان المصلحة الوطنية عموما. باختصار، فإن أكاذيب الإمبريالية الاجتماعية والتغطيات الشنيعة ليست لديهما قيمة اجتماعية. أما الأكاذيب الاستراتيجية فهي موضوع مختلف. حيث إنها تستهدف تحقيق المصلحة العامة، وعادة ما يتوافر لها قدر من المشروعية. وفي الأساس، يمكن للأكاذيب الإستراتيجية أن تؤدي دورا مفيدا للدولة، مع العلم أن هناك دائما احتمال أن ينتج عنها ضرر أكثر مما يتحقق من منفعة. وبالتالي سيكون تركيزنا على الأنواع الخمسة من الأكاذيب الإستراتيجية: الكذب بين الدول، وإثارة الذعر، والتغطيات الإستراتيجية، وصناعة الأساطير القومية، والأكاذيب الليبرالية. وبالإضافة إلى شرح كل نوع من الأكاذيب بالتفصيل.

يرى أن السبب الرئيس في كذب القادة على جمهور أجنبي يعود إلى كسب تفوق إستراتيجي عليه. ولأن الدول تعيش في عالم فوضوي، حيث لا أحد يحرسها من الأخطار، فليس أمامها سوى خيار توفر الحماية الذاتية. وتتمثل أفضل الطرق التي تعزز بها الدول فرصها في البقاء في اكتساب القوة للتفوق على قريناتها من الدول. بإمكانها أيضا أن تلجأ إلى أسلوب الخديعة، الذي من ضمنه الكذب، لكي تكون لها الأفضلية على عدو محتمل. وفي عالم محفوف بالمخاطر كهذا، على القادة أن يعملوا كل ما في وسعهم لحماية وبقاء دولهم. وقد أوضح آرثر سلفستر، مساعد وزير الدفاع للشؤون العامة في حكومة الرئيس جون كنيدي، هذه النقطة بشكل جيد عندما نشبت أزمة الصواريخ الكوبية، حين قال “إن حق الدولة الأصيل في أن تكذب عندما تواجه كارثة نووية هو أمر أساس” وبعد عشرين سنة تالية، وفي حقبة الرئيس جيمي كارتر، علق جودى باول، السكرتير الإعلامي بأن “سلفستر كان محقا في رأيه. فتحت بعض الظروف، ليس للدولة الحق في أن تكذب فقط، بل يصبح الكذب واجبا إيجابيا”.

ويضيف ﻣيرﺷﻴﻤﺮ أن هناك أربعة ظروف يكون فيها الكذب محتملا بين الدول، بيد أن ذلك لا يعني أن القادة يكذبون بشكل متكرر في مثل هذه الأوضاع. تميل الدول التي تعيش في مناطق الصراع الخطرة، والتي يكون فيها التنافس الأمني حادا، إلى الكذب أكثر من الدول التي تعيش في مناطق آمنة نسبيا. وتعود هذه النزعة أساسا إلى القيمة العالية التي تضعها الدولة لبقائها. وبالطبع، فالدول التي تعيش في مناطق النزاع يتولد لديها شعور بعدم الأمان والاطمئنان، وأنها دائما معرضة ومكشوفة أمام العدو، ولذلك تلجأ إلى كل الطرق والإستراتيجيات المتاحة لتقوية سبل الأمن. باختصار، يكون الكذب سهلا لزعماء يظنون أنهم يعيشون في عالم “هوبزي”. كذلك يكون القادة أكثر قابلية للكذب في الأزمات مقارنة بأوقات الهدوء النسبي. فالدولة التي تسعى دائما إلى تجنب الحرب، تكون دوافعها قوية لنشر الأكاذيب والدعايات إن كان من شأن ذلك أن ينهي الأزمة من دون الدخول في الحرب. من جانب آخر، سيكذب الزعيم الذي يصر على تحويل أزمة إلى حرب بالتأكيد، إن كان يعتقد أن تلك الأكاذيب ستهيئ الظروف لشن الحرب والانتصار فيها. ولا ننكر في هذا المجال أن كلا من الطرفين المتنازعين، يكون في حالة شك وتوجس من تصريحات الطرف الآخر، مما يجعل إطلاق الأكاذيب المقنعة أمرا صعبا، وإن لم يكن مستحيلا.

ويبقى أن نشير إلى أن الكتاب يتكون من تسعة فصول، يبدأها المؤلف بتعريف الكذب والنوعين الآخرين من الخداع وهما: الإخفاء والتلفيق. ويتناول الفصل الثاني: قائمة بالأكاذيب الدولية. وقد فرق بين الكذب الإستراتيجي والكذب الشخصي، وأوضح لماذا سيكون التركيز على النوع الأول. وفي الفصول الخمسة التالية، يمعن النظر في تفاصيل كل نوع من أنواع الأكاذيب الإستراتيجية، والمنطق وراء كل واحد منها، والاحتمال في وقوع أو عدم وقوع الكذبة. وفي الفصل قبل الأخير تناول السلبيات والأضرار التي قد تنتج من الكذب الدولي. كما يعمد إلى تقويم أي من تلك الأكاذيب قد يحدث أفعالا ارتدادية عكسية قد تضر بالسياسة الخارجية للدولة، وأي من تلك الأكاذيب قد يؤثر سلبا في الجبهة الداخلية. وينتهي الكتاب بنقاش قصير بشأن معنى كل هذا الجدل بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأمريكية، والولايات المتحدة ذاتها بصورة عامة.

يمكنك ايضا ان تقرأ

34 هكتار تحت التهديد: من يحمي أراضي الدولة بأغمات من مخالب الفساد؟”

طارق أعراب في تطور جديد يكشف استمرار معضلة