محمد بوبكري
يكاد يُجمع المؤرخون على أن تاريخ المجتمعات العربية الإسلامية قد عرف منذ نشأته إلى اليوم حروبا أدَّت إلى تفتيت كياناتها. لكن لماذا هذا التفتت؟ ولماذا استمر زمنا طويلا؟ ولماذا لم تستطع أطراف الصراع التفاهم والتوحد إلى الآن؟…
تكشف محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها عن استعصاء واقع النظام السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما نجم عنه من أزمات متلاحقة تتجلى في العجز عن التفاهم والحوار والتفاوض، وعدم الاعتراف بالآخر، والإقصاء، وتغييب الشراكة، وممارسة العنف… فنتج عن ذلك شلل في النظام السياسي وحروب قبلية وطائفية تنتهي دواما بالانشقاقات والتفتيت…
وجدير بالذكر أن كل نظام سياسي هو، عموما، انعكاس طبيعي لمجتمعه، كما أن الثقافة التي ينهض عليها هي نفسها ثقافة مجتمعه. لذا، إذا كان النظام السياسي ديمقراطيا، فإن ثقافة مجتمعه تكون ديمقراطية. لكن هذه الثقافة لا تنشأ بين عشية وضحاها، وإنما هي حصيلة عملية تراكم قد تستغرق عقودا، بل وحتى قرونا، من الزمن. وهذا ما يستوجب تأمل تاريخ أوروبا لأنها أنتجت الثقافة الديمقراطية وتُمَثِّل أفضل تجسيد لها، كما ينبغي قراءة السياق التاريخي للقارة العجوز وما عرفته من حروب وثورات أدت إلى تحولها الديمقراطي.
وَفِي مقابل ذلك، تشكل الثقافة اللاديمقراطية تعبيرا طبيعيا عن تجمعات بشرية تنهض على ثقافة الاستبداد. وتتميز مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بشكل خاص، بهذه الثقافة التي ينبغي فهمها أيضا في سياق تاريخي مختلف مليء بالحروب المتواصلة وإراقة الدماء، حيث لم تتوقف معارك الإقصاء والصراعات القَبَلِية والطائفية على السلطة منذ قرون إلى الآن دون أن تفضي إلى أي تحول ديمقراطي.
هكذا، فبينما عرفت أوروبا التي أنتجت الديمقراطية أحداثا وتحولات مطبوعة بالحركة والانتقال والتحوُّل حسب مراحل التطور الاجتماعي، عاشت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حالة من الجمود الذي تمت إعادة إنتاجها عبر تاريخها دون إنتاج أي تفكير عقلاني راسخ، حيث دخلت هذه المنطقة في صراع مع العقل مُنِي فيها هذا الأخير بسلسلة من الهزائم إلى اليوم.
وقد أكد ما سُمِّي بـ “الربيع العربي” أن ثقافة الانقسام والانفصال والتفتيت صارت ثابتا في تاريخ مجتمعات هذه المنطقة، حيث يسود العداء، وتطغى الرغبة الجامحة في الوصول إلى السلطة، ويمارس التنكيل بالخصوم عبر القتل والسجن والتشهير والتشويه، ما ينم عن أن هذه المنطقة عاجزة عن فهم آليات العمل السياسي بمفهومها الحداثي الديمقراطي.
لقد توصل الباحثون في ثنايا تفاصيل الثقافة السياسية لمجتمعات هذه المنطقة إلى أنها تبدو شبيهة بثقافة القبيلة والطائفة، حيث توقفت عند هذه المرحلة من التطور ولم تتجاوزها بعد. لذلك، بقيت بنية الدولة وعلاقاتها البينية لا تتميز جوهريا عن بنية كل من الطائفة والقبيلة والعلاقات السائدة فيهما، ما جعل حروب الطوائف والقبائل وثقافتيهما تطبع بوضوح ما يجري اليوم في هذه المنطقة. ومن المعلوم أن ثقافة الديمقراطيّة تتعارض جذريا مع ثقافة القبيلة أو الطائفة، لأنهما لا يمكن أن تلتقيا تاريخيا، حيث تفصل بينهما مساحة ثقافية وزمنية هائلة؛ فلا يمكن إقامة الدولة الحديثة الديمقراطية إلا على أنقاض ثقافة القبيلة والطائفة وبنياتهما، ما تؤكده دروس تاريخ أوروبا التي أبدعت الديمقراطية….
وهذا ما جعل طبيعة مؤسساتنا السياسية والاجتماعية وثقافتها ما زالت أقرب إلى القبيلة أو الطائفة، فصارت مفتقدة للقدرة على إنجاز تراكم تاريخي على مستوى أنظمتها السياسية، فنجم عن ذلك نشوب معارك حول السلطة. ففي ظل ثقافة الاستبداد المتجذرة تاريخيا وثقافيا في هذه المنطقة ظلت المعركة من أجل السلطة راسخة في المجتمع، فتم تغييب الآخر، وانعدم التوازن في مؤسسات الدولة والمجتمع، ونتج عن ذلك غياب الشراكة في النظام السياسي والمجتمع، بل لم يتم تأهيل الأفراد والجماعات والمؤسسات والأحزاب لثقافة الشراكة، فساد الاستئثار بالسلطة والمال والنفوذ، وانتشر الإقصاء…
وإذا كانت الشراكة ليست مجرد قرار، وإنما هي أساسا حصيلة تراكم تاريخي يفضي إلى تحوُّل ثقافي واجتماعي يتجسد في القانون والانتخابات والشراكة والسياسة وتداول السلطة وحق المعارضة وحرية الإعلام، واحترام الآخر، وسيادة قيم الحرية والعدالة… فمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تبلغ بعد مستوى الوعي والنضج المؤدِّيان إلى ممارسات ديمقراطية، لأن المسار التاريخي لهذه البيئات لم يبرح بعد مرحلته الطائفية والقَبَلِية، فتم بناء مؤسسات الدولة والمجتمع على ثقافتيهما وقِيَّمِهما، فسادت السيطرة والإقصاء، وغابت الحريات… بعبارة أخرى، إن أشكال الانقسام والانفصال والتفتيت هي نتائج طبيعية للبيئة السياسية بموروثاتها ومكوناتها… وذلك دون إغفال التدخلات الأجنبية التي تُوظف العوامل القَبَلِية والطائفية لإنضاج شروط الانقسام والتفتيت، وتغييب التفاهم والتوافق السياسيين بغية رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة… لكن ما العمل للخروج من أوحال التطاحنات والحروب الطائفية والقَبَلِية؟
من المفيد معرفة هذه الأزمة ومكوناتها، إذ من المُفترض أن يشكل ذلك منطلقا لصياغة جواب على هذا السؤال ينطلق من الواقع. ونظرا لأن أزمة العرب والمسلمين أكبر من مجرد قرار يمكن اتخاذه لأن لها أبعادا تاريخية وثقافية ونفسية، يتعيَّن صياغة عقد اجتماعي منسجم مع مقتضيات أسس العمل السياسي ومفاهيم الدولة الحديثة، ما يستوجب إحداث قطيعة مع مفاهيم القبيلة والطائفة وسائر البنيات التقليدية. لقد نشأ العمل السياسي بمفاهيمه العصرية مع الدولة الحديثة، فأصبح ضروريا إحداث تحوُّلات ثقافية على مستوى المجتمع والدولة لإنضاج الظروف المفضية إلى تطور حضاري يؤدي بدوره إلى صياغة عقد اجتماعي ينسجم مع الحداثة والديمقراطية. ويتطلب ذلك إعادة صياغة العقل الجمعي عبر تحويل المجتمع ثقافيا واجتماعيا، إذ لا يتعلق الأمر بالسطو على السلطة، بل بتحويل المجتمع والدولة ثقافيا بأسلوب حضاري. لقد تصارع العرب والمسلمون على السلطة عبر عقود طويلة، لكن هذه الأخيرة بقيت على حالها، لعدم حدوث أي تحول ثقافي على مستوى المجتمع والدولة… فالأزمة عندنا كامنة أساسا في الهوة الشاسعة التي تفصل بين بنيات المؤسسات الحديثة وعقل الطائفة أو القبيلة التي ما يزال سائدا في مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.