عبد الرحيم الضاقية
حملت الرؤية الإستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين 2015 -2030 عزما قويا على ربط الجسور بين المدرسة بمعناها العام مع البيئة الاقتصادية والاجتماعية الوطنية . ومن المحاور البارزة في إطار هذا التوجه ربط مسالك التعليم العام مع شعب ومسارات التكوين المهني ابتداء من المرحلة الإعدادية في أفق باكالوريا مهنية وطنية في تخصصات لصيقة بسوق الشغل وبمباركة ودعم من المشغلين . وعند التأمل في هذه الواقعة التربوية تتبادر إلى الذهن إشكالات قديمة – جديدة تطرح أسئلة من قبيل : ما مدى الانفصال والاتصال بين التعليم والتكوين المهني ؟ أليس التكوين المهني استمرارية طبيعية للتعليم ؟ ألا يمكن التفكير تحت تأثير حمولات نفسية وسياقية عند الحديث عن التكوين المهني؟ ما هو السياق العام الذي أفرز الربط الحالي بين مسالك التعليم العام والتكوين المهني ؟
أولا – السفر عبر نصوص الإصلاح التربوي :
بنظرة فاحصة للإشكاليات المطروحة نجد أن النقاش لابد له أن ينصب عل تفكيك العدة المفاهيمية المعبئة للحديث في الموضوع . فالمسارات تحيل على الطرق الحقيقية أو المفترضة المؤدية من نقطة الى أخرى ، وهي تحبل بالتعدد وبناء الاختيارات الواعية والمسؤولة . أما التعليمين العام والمهني فيحيلان على نوعين من التعليم والتكوين أريد لهما بإرادة وسياسية وحمولات تاريخية مرتبطة بمراكز القرار الداخلي والخارجي أن يُفصلا في منظومة تربوية معينة . بحيث نجد بعض المفارقات الصعبة التفسير : فعند الحديث عن الميكانيك نميز بين التعليم العام في المدرسة ، والتكوين المهني في معهد أو مؤسسة للتكوين المهني . لكن عند الإحالة على الطب فإننا نعتبر أن الأمر لا يتعلق بتكوين مهني ؟؟ مع أن مختلف العمليات التي تتم داخل المراكز الاستشفائية الجامعية هي من صميم التكوين المهني . وفي سبيل وضع سياق عام لهذه المسارات الجديدة لابد من وضع الأمر في إطار النصوص المؤسسة لأن السياق هو Con – texte أي بترجمة حرفية : مع – النص . وهذا البحث عن السياق العام لن يتم إلا بمعية النصوص التي بواسطة قراءتها تتبدى المسارات والاختيارات . وبعملية تركيبية نجد أن الجهاز المفاهيمي الموظف هنا يحيل على التحول والدينامية والسفر من نقطة إلى نقطة . وعلى الدارس أن يكشف الفوارق Ecarts والفواصل Hiatus بين وضعية وأخرى وبين خطاب نص و خر في علاقة مع السياقات السياسية والاجتماعية الوطنية والدولية والتي لن نتطرق إليها هنا .
1. محطة الميثاق الوطني للتربية والتكوين : كان نص الميثاق نصا مؤسسا لمجموعة من القضايا التربوية الهامة . ومن مكامن قوته أنه حظي بالتفاف وتوافق وطني من كافة الفاعلين من مختلف المشارب والاتجاهات بحكم مقاربته التشاركية . ومنذ الدعامة الثالثة يعي النص ضرورة السعي إلى تلاؤم أكبر بين النظام التربوي والمحيط الاقتصادي . وخلال البند 40 يؤكد على ارتباط السيرورات التربوية المدرسية والأكاديمية بالبعد العملي المعزز للتكوينات النظرية. في البند 41 يبشر الميثاق بضرورة بناء وتأسيس شبكات للتربية والتكوين أي ربط كل إعدادية بمركز مجاور للتكوين المهني ، وربط كل ثانوية بمركز للتأهيل أو معهد للتكنولوجيا التطبيقية I.T.A . في البند 43 يدعو إلى إقامة ممرات بين التعليمين الثانوي والمهني . وفي البند 49 يجدد النص بإدخال مفهومي التمرس والتكوين بالتناوب F.P.A وهما عمليتان تضمنان التوازن بين التكوين في المؤسسة التعليمية والتدريب في المقاولة . وعلى طول النص وعرضه إحالات مباشرة أو غير مباشرة على ربط التعليم بالتشغيل والتكوين الذي يفضي إلى مهنة . ورغم أن مختلف المعطيات قد تم تجميعها لتحقيق النقلة النوعية في هذا الباب فإن الحصيلة كانت دون الا نتظارات ، برزت مؤشراتها في التقييم الأول لمدى تطبيق الميثاق عبر منتدى وطني عقد في يوليوز 2005 سمي تقويم منتصف المسار . ومن الخلاصات التي يمكن الخروج بها هو سكوت التوصيات عن الموضوع ووضعه في طي النسيان لأن لاشيء لم ينجز في الموضوع خصوصا وأن الوثيقة طبعها توجيه سياسي بيَن .
2. محطة التقرير السنوي للمجلس الأعلى للتعليم 2008 :
صدر هذا التقرير عن المؤسسة الدستورية التي تتمثل في المجلس في وثائق تم توزيعها على المستوى الوطني وعقدت بصددها منتديات تفسيرية وحملة إعلامية كبيرة . وكان التقرير بمثابة تقويم مرحلي لمنجز الميثاق . وفي الموضوع الذي يهمنا أكد التقرير على ما يلي :
• قدرة قطاع التكوين المهني الكبيرة على استقطاب أعداد كبرى من التلاميذ/ات الذين يرغبون في تملك مهنة .
• قدرة التكوين المهني على التكيف مع حاجات التنمية الاقتصادية وتوفير تكوينات ملائمة لسوق الشغل أي رفع مؤشرات التشغيلية Employabilité.
• ضرورة نهج الالتقائية Convergence بين التكوين المهني والتعليم الثانوي العمومي وتشجيع إنشاء مؤسسات للتعليم المهني الخاص .
• ارتفاع مؤشرات الهدر المدرسي وفشل المؤسسة التعليمية في استقطاب التلاميذ/ات مما يهدد التنمية المجتمعية .
3. محطة البرنامج ألاستعجالي 2009 – 2012 :
جاء هذا البرنامج بشعار ” من أجل نفس جديد لا صلاح منظومة ا لتربية والتكوين ” وكان بمثابة تفعيل لتوصيات المجلس الأعلى لسنة 2008 . ومن سمات هذا البرنامج أنه جاء بمقاربة جديدة تتمحور حول المشاريع المؤسسة على النتائج . وعلى مستوى التعليم الممهنن أكد البرنامج في إطار مشروعين مهيكلين :
ضمن المشروع المتعلق بالإعلام والتوجيه التربوي تم التأكيد على إقامة وجائه Interfaces مع سوق الشغل والتي سوف تمكن تلاميذ/ات من تداريب استكشافية في المقاولات ، ومد الجسور والممرات بين التعليم العمومي والخاص مع مراكز التكوين المهني .
وضمن المشروع E1P 8 المتعلق بالخيار البيداغوجي وإرساء بيداغوجيا الإدماج فقد حاول البرنامج بناء هندسة تناوبية Ingénierie alternée بين فترات للتعلم النظري (إرساء الموارد ) وفترات للإدماج ( وضعيات إدماجية ) وهي مرحلة تطبيقية . وكان الهدف النهائي من هذا الخيار ملائمة التكوينات المدرسية مع تكوينات مهنية تشتغل بنفس الهندسة البيداغوجية : التكوين ثم التدريب .
4. محطة الرؤية الإستراتيجية 2015 – 2030 :
بعد إعادة هيكلة المجلس الأعلى وتغيير اسمه وتوجهاته وبعد مشاورات موسعة مع كافة المتدخلين/ات وصياغة تقارير موضوعاتية ، تمت صياغة تقرير موسوم ب” من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء “، وقد صيغ التقرير على شكل رافعات للتغيير. ومن خلال قراءة مستعرضة نجده يخصص أربع رافعات من أجل دمج تام بين التعليمين المدرسي والمهني وهي على التوالي ( 5 – 11 -16 – 19). ويمكن أخذ الرافعة 5 كنموذج تؤكد على :
• تقوية الطاقة الاستيعابية لمؤسسات التكوين المهني .
• تقوية الجسور والتكوينات بين التعليمين العام والمهني ومأسستها .
• تفعيل وتعزيز خيار الجهوية الموسعة على مستوى فتح الشعب ونوعية التكوينات في علاقة مع الأنشطة الاقتصادية للجهة .
• إحداث مسار للتعليم المهني انطلاق من الإعدادي وإحداث باكالوريا مهنية .
5. خلاصات المحطات الاصلاحية :
كانت المحطة الأولى بمثابة وضع المشروع على السكة ورسم لتوجهات كبرى كانت موضوع توافق بين مكونات اللجنة الملكية لإصلاح التعليم باستئناس مع التجارب الدولية في الميدان .
المحطة الثانية أبرزت فشل تفعيل التوجهات واقترحت بدائل بتعين الاستئناس بها خاصة على مستوى أخذ التكوين المهني كنموذج .
المحطة الثالثة كانت محاولة معالجة للاختلالات وتجاوز مشكل التمويل حيث رصدت للمشروع أغلفة مالية غير مسبوقة .
المحطة الحالية هي فتح لآفاق جديدة لكن دون تقييم وتقويم المحطات السابقة ، واستنجاد مرة أخرى بالمؤسسة الدستورية والاشتغال على مدى متوسط ( 15 سنة وهي نفس مدة الإصلاح السابق ؟؟)
ثانيا – التنزيل العملي :
خلال هذه المرحلة سوف يكون همنا هو الجانب التطبيقي العملي لمسار تنزيل الملائمة والتكييف على مستوى الجهاز التنفيذي . وقدتم ذلك عبر المراحل التالية .
← البرنامج الحكومي : بعد انتخابات 2011 تم تشكيل حكومة قدمت برنامجها يوم 19 يناير 2012 وقد برز من خلاله توجه دمج التكوين المهني والتربية الوطنية في وزارة واحدة مع تكييف الهيكلة مع هذا الخيار على مدى الولاية الحكومية أي خمس سنوات .
← المذكرة الإطار : في يونيو 2015 أصدرت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مذكرة إطار لمسالك الباكالوريا . وكانت هذه الوثيقة تتويجا لعدد من المبادرات التي تمت على مستويات مركزية وجهوية ومحلية لعبت فيها مفتشيات التخطيط والتوجيه دورا محوريا في تهيئ الأرضية للنص المعني. ومن المعالم الرئيسة لهذه المذكرة ما يمكن قراءته في ديباجتها :
• توسيع وتنويع العرض التربوي للاستجابة لحاجات سوق الشغل .
• ولوج المسارات المهنية بهدف الاندماج في الحياة العملية أو متابعة الدراسات العليا أي معانقة مبدأ التعلم مدى الحياة الذي أكدت عليه الرؤية .
• عمليا أن الدراسة سوف تكون بالتناوب بين ثلاث فضاءات : المدرسية ( الاعداديات والثانويات) وفي مراكز التكوين المهني ثم تداريب مهنية داخل المقاولات أي بتأطير ثلاثي .
← التنفيذ والتشعيب : نصت الوثائق التنفيذية على خلق أقسام للاستئناس المهني في الإعداديات حسب الجهات والقرب الجغرافي من مراكز التكوين . كما تم تنظيم الدراسة بالباكالوريا المهنية انطلاقا من التوجيه إلى الجدع المشترك المهني الذي ينقسم الى جذوع صناعية وفلاحية وخدماتية . تفضي الى تشعيب جديد في السنتين الاولى والثانية ياكالوريا التي تؤدي الى تخصصات يبلغ عددها 19 مسلكا أكبرها القطب الصناعي . ويتمثل نظام الدراسة في تعليم عام في المؤسسات التعليمية ، ودروس وأشغال تطبيقية في مراكز التكوين المهني وتداريب مهنية في المقاولات .
ثالثا : خلاصات سياق عام :
1. أن المتأمل لهذا السفر عبر محطاته وتنزيلاته والذي دام ما يزيد على عقد ونيف يجد نفسه يعيد نفس التوجهات والمسارات ، بدون أن يحدد ما تم تحقيقه فعلا والذي لازال من خلال خطاب واضح يحدد أولويات مرحلة ثم يتم التوقف لمعرفة ما الذي وقع ؟ ما الذي لم يتحقق ؟ أين العطب أو الأعطاب ؟ يبدو ان ألأمر يشبه هياما في فضاءات لا معالم فيها …
2. أن إخضاع الوثائق والمحطات الإصلاحية للمقاربة التواصلية يعطي نموذجا تواصليا فيه سجال غير واضح المعالم . يبرز فيه عامل الزمن ويراهن على النسيان الجزئي لبعض العناصر والمعطيات الأساسية . فالميثاق الوطني للتربية والتكوين يقدم توصيات واضحة المعالم وحصل بشأنها توافق . يأتي تقرير المجلس الأعلى ليجيبه بأن هناك اختلالات بالجملة على مستوى النماذج البيداغوجية والهدر المدرسي وحكامة المنظومة وتدبير المورد البشري . يصاغ برنامج استعجالي كجواب على تقرير المجلس لسنة 2008 على شكل مشاريع أعادت كثيرا من مكونات الميثاق على شكل مشاريع مع غلاف مالي مهم ، يتم نقض العديد من مشاريعه حتى قبل نهايتها ، ليتم فتح نقاش آخر إضافي أفضى إلى رؤية استراتيجية تشبه في العديد من مكوناتها البرنامج الاستعجالي . لكن هذه الرؤية تنسى أو تتناسى البرنامج الاستعجالي .هذه إذن استراتيجية تواصلية إلغائية تنتج رسائل وبرامج دون الاكتراث بالسياق ولا بدائرة النقاش المجتمعي الحالي همها الوحيد إثبات ذاتها ولو بشكل احتفالي لا يصل إلى الميدان بل تنتج أعطابا إضافية على تلك الموجودة .
3. من هذه الخلاصة الأخيرة يبرز نوع من حوار الطرشان بين أجهزة ومراكز قرار داخل الدولة منها الرقابي والتنفيذي والاستشاري . يبدو أنها لا ترغب في التراكم وتراهن على أسطورة البدايات من أجل بناء عذرية مفقودة ، وتستثمر في رأسمال النسيان ولا تحب المحاسبة وتحديد المسؤوليات عبر المقولة الشهيرة (( الكل مسؤول )) ليفضي الأمر إلى اللا مسؤولية المطلقة .
4. من خلال عناوين الوثائق المؤطرة للإصلاح والتي كلها توسم بعبارتي ” التربية والتكوين” وهي نفس العناوين المستعملة بمناسبة الحملات التواصلية والإعلامية . لكن عندما ننزل إلى الواقع ونصل إلى المدارس والثانويات وندخل الأقسام يندثر المفهومان ونمارس التعليم بمعانيه التلقينية التوصيلية ذات الطابع البنكي المبتذل . ألا يعد هذا الفرق المفاهيمي نوع من إخلاف للموعد مع ما المطلوب من المدرسة أن تعلم ؟ أم تكوًن ؟ أم تربي ؟
مــراجــع
– الميثاق الوطني للتربية والتكوين .
– المجلس الأعلى للتعليم ، حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها : التقرير السنوي في 4 أجزاء .
– وزارة التربية الوطنية ، البرنامج الاستعجالي 2009-2012 ، الرباط 2008 .
– المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء ، 2015 -2030 . الرباط .
– سنهجي (ع) ، أي دور للتوجيه التربوي في خلق التصالح بين المؤسسة التعليمية ومحيطها الاجتماعي العام ، مجلة الإدارة التربوية – العدد5 – فبراير2016 .
– الضاقية (ع ) ، 2009 ، المدرسة المغربية وسؤال التواصل ، دار الثقافة ، البيضاء .
Morin, E, 2000 , Les sept savoirs nécessaire a l’éducation du futur, Seuil.
Meirieu, P, «Ce que l’école doit réinventer» le Monde de l’éducation –No 283 – juin- aout.2000.
تعليق واحد
ذ.ع.الغني لزرك
قلم لاينضب وغزارة علم لاتنتهي..مستقبل إبداعي حافل إن شاء الله..محبتي وتقديري…
يارا توابي
اريد ماهو اامسلك التعليم الهام