مـحـمـد أقــديـــم
إن فهم و دراسة ظاهرة استقلال و تحرّر الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية لا يمكن القيام بها إلا في علاقتها بما عرفتها الظاهرة الاستعمارية من تحولات جذرية خلال تلك الفترة ، فرغم التضحيات الجِسام التي قدّمها رجال الحركات الوطنية التحرّرية ، ورغم الأعمال البطولية التي سطّرها مقاومي جيوش التّحرير المسلّحة ، و رغم ما ضحّت به الشعوب التي كانت مستعمَرَة من غالي و نفيس في سبيل الاستقلال و التّحرّر، فتبقى أعمالها تلك عاملا ثانويا في جلاء الاستعمار.
فإذا نظرنا إلى الظاهرة الاستعمارية كظاهرة كونية مرتبطة بالتحولات الكبيرة التي حدثت في بنية الاقتصاد الرأسمالي، الذي أفرز الظاهرة الاستعمارية في بداية القرن التاسع عشر، و التي جعلت الرأسمالية تتحّول الى امبريالية استعمارية توسعية تكتسح شعوب الكرة الأرضية برمّتها، فإنّ تحوّلات جديدة حدثت في بنية الرأسمالية مرّة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية ، هي التي جعلتْ الدول الرأسمالية لم تعد في حاجة الى الاستعمار المباشر للدوّل و الشعوب، و فرضت عليها الانتقال إلى شكل جديد من الاستعمار أكثر نجاعة و أقلّ كلفة، و هو ما نسميه “الاستعمار في نسخته المنقّحة” .
و هذا ما يفرضُ دراسة “الاستقلال في إطار فهم و تفكيك الظاهرة الاستعمارية برمتها على اعتبار أنه استقلال عن دول استعمارية، و من المعلوم لدى دارسي التاريخ أن التوسع الاستعماري، منذ القرن التاسع عشر، ليس سوى نتيجة حتمية للتطور الكبير الذي بلغته الرأسمالية في مرحلتها الصناعية، و ما حتّمَهُ عليها ذلك التطور من الحاجة الملحة للمواد الأولية و الأسواق الاستهلاكية، لتصريف فائض منتوجاتها الصناعية، مما دفع بتلك الرأسماليات الأوربية ذات الطابع القومي الى الخروج من أوطانها القومية في القارة العجوز(أوربا)، بحثا لها عن مستعمرات لتوفير حاجياتها الملحة من الأسواق و المواد الأولية، وقد دفعها الطابع القومي لدوّلها الى المنافسة الشديدة، التي سرعان ما تحولت الى صراعات و حروب مدمرة (ح ع الأولى والثانية) ، خاصة بعد دخول ألمانيا مجال المنافسة متأخرة ، بسبب من الاكراهات السياسية التي كانت تعيشها الى غاية توحيدها من طرف بيسمارك سنة 1871، حيث انطلقت متأخرة بحثا عن المستعمرات ، فوجدت أمامها بريطانيا و فرنسا و هولندا و اسبانيا و بلجيكا قد سيطروا على مختلف أراضي المعمورة، و في هذا السّياق تمّ استعمار مختلف الشعوب و الدوّل في القارّات الأربع. و مند العشرينات من القرن العشرين أصبحت الرأسمالية تعرف تحولا بنيويا عميقا بظهور البنوك و البورصات و غيرها من المؤسسات المالية و النقدية ، حيث شرعت في التحول من رأسمالية تنافسية الى رأسمالية احتكارية تقوم على الاحتكار و الكارتيلات الصناعية الضخمة و التروستات التجارية الكبرى الهولدينكات المالية الضّخمة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم تكن سوى تفجيرا للتناقضات البنيوية للرأسمالية الصناعية التنافسية القومية، التي ستتحول الى راسمالية مالية احتكارية عالمية، إذ ستصبح معها الدول الاستعمارية الكبرى في غير حاجة الى فرض سيطرتها العسكرية و السياسية على الدول المُستَعْمَرَة، حيث تمكنت هذه القوى الاستعمارية طيلة الفترة السابقة من الاستعمار من تفكيك الأنماط الإنتاجية “قبل الرأسمالية” بمستعمراتها و خلخلتها و ربطها بالنمط الإنتاجي الرأسمالي في دولها، و جعلت شعوب المستعمرات مجتمعات استهلاكية بامتياز، و في حاجة دائمة للبضائع الصناعية الأوربية، و التي لا يمكن أن تقتنيها الشعوب المستعمَرة الا ببيع ما تنتجه من المواد الأولية (الفلاحية و المعدنية و الطاقية ) ، وقد تزامن هذا مع ما عرفته الشعوب الأوربية من تقدم و تطور فكري و سياسي و حقوقي، و ازدهار للفكر الاشتراكي، و ما ينادي به من قيم التحرر و العدالة الاجتماعية و حقوق الشعوب و تقرير مصيرها…. هذا ما جعل الدول الاستعمارية في غير حاجة الى فرض سيطرتها العسكرية و السياسية على المستعمرات، ما دامت تستطيع فرض هيمنتها الاقتصادية عليها ، من خلال الاستعمار الجديد بالقروض و الاستثمارات عبر المؤسسات البنكية و النوادي المالية الدولية، ما يتطلّبه ذلك من تنصيب لأنظمة سياسية ديكتاتورية محلية على الشعوب ، و خاصة و أن تكلفة تلك السيطرة العسكرية المباشرة كانت باهضة و مكلفة جدا، فشرعت في منح “الاستقلال” لمستعمراتها بشكل تدريجي.
هذا هو العامل الموضوعي الرئيسي في ما يسمى “الاستقلال” ، وهذا لا يمنع من الأخذ بعين الاعتبار عامل الحركات الوطنية التحريرية التي نشأت في شعوب المستعمرات ، و التي كان لها الدور الكبير في التسريع من الحصول على الاستقلال لا غير ، من خلال نضالاتها السياسية و كفاحاتها المسلحة، و لكن هذا العامل يبقى ثانويا و مساعدا لا غير، بالمقارنة مع العامل الأساسي و المحدد المتمثل في التحول البنيوي في النظام الرأسمالي من رأسمالية صناعية الى رأسمالية مالية، أضحت في غير حاجة للسيطرة العسكرية و السياسية على المستعمرات، و هذا ما جعل غالبية الشعوب تشعر بعد مرور أكثر من نصف قرن من “استقلال” ، بأن لا شيء تغيّر في ظروفها المعاشية و أحوالها الاقتصادية و أوضاعها السياسية ، إن لم تزداد سوءا على ما كانت عليه في عهد الاستعمار المباشر.