د محمد فخرالدين
أما ما كان من أمر أبي زيد فإنه صبر حتى المساء و تزيى بزي الأعجام حتى وصل إلى مدينة الأعجام فوجد أبوابها مغلقة بإحكام ،و لم يجد منفذا فرأى دهليزا صغيرا فنزل فيه فرأى جماعته تنتظره ، وأخذ يطوف من زقاق إلى زقاق و يتجول في الحارات والأسواق، و هو يتجسس على الأحوال ويجمع الأخبار و كلما رأى إنسانا تكلم معه بلغة الأعجام بأحسن ما كان..
و مازال سائرا من مكان إلى مكان ، و هو لا يعرف حقيقته أحد من البشر، وسار حتى وصل إلى قصر عالي البنيان شاهق الأركان، فعلم انه للملك الخرمند و نظر إلى شجرة السرو، و قد بلغت أغصانها شبابيك القصر،فصعد عليها بخفة حتى صار عند شباك القصر،و نظر إلى تلك الغرفة فوجدها من أحسن تلك الغرف ووجد فيها قد اجتمع السبع من ملوك العجم يتناولون المدام و يتداولون الأقداح ،و بينهم مارية، و هي جالسة بينهم و هي كأنها القمر في أربعة عشر، و هي لابسة لباسا يذهل البصر، ثم إن الخرمند طلب منها الشرب ومد لها قدح الراح و طلب منها الغناء لزيادة السرور والأفراح ،فامتنعت عن الشرب و زادت في البكاء ، فلم يهن ذلك على الملك النعمان فقال للخرمند :
ـ دعوها فإنها من بيت كبير و أبوها هو القاضي بدير ..
و التمس منها برفق الغناء، فصارت تغني و تطلب من أبي زيد فارس بني هلال إنقاذها مما هي فيه من هوان على أيدي هؤلاء اللئام ..
و لما فرغت المارية من الغناء طربت ملوك العجم طربا كبيرا ما عليه من مزيد، و بلغ الخندريس من نفوسهم كل مبلغ ،و صاروا لا يطيقون له دفعا ويطلبون المزيد، و طلب من الساقي ان يقدم لمارية كأس المدام، فقالت له :
ـ أما تعلم يا سيدي أننا لا نشرب إلا حليب النوق والغنم ، خاصة النساء و البنات فإنه عندنا من أعظم عار ..
فاعتذر النعمان عنها إلى الخرمند و اختلف و صعد بينهم الجدال حول من يظفر بمارية، فدافع عنها النعمان خاصة و أن الحرب لم تتم مع بني هلال ، وطلب الخرمند أن يحتفظ بها في بيته إلى أن تنتهي الحرب و تتبين الأحوال و بعد ذلك يعمل بها ما يريد …فعلم الخرمند أن هو عين الصواب و الأمر الذي لا يعاب ، فأمره أن يحملها معه الى بيته ، ويخفيها هناك حتى نهاية الحرب ..
فأخذ النعمان مارية من يدها ، و سار بها في غاية الاحترام بين الأعجام و لم يعترض لهما أحد منهم ..
فلما عاين أبو زيد أعمال النعمان أعجب به غاية الإعجاب و قال في نفسه:
ـ و لله إن هذا الرجل يستحق كل جميل و معروف.. ثم نزل من أعلى الشجرة و تبع آثار النعمان حتى وصل إلى منزله فسمعه يقول لابنته :
ـ خذي هذه الأميرة إلى بيتك و اعتني بها كل العناية و اتخذي في سبيل ذلك كل وسيلة و غاية غاية ..
و قالت له ابنته :
ـ يا أبتي السمع و الطاعة ..
فرحبت بها بنت النعمان و أخذتها إلى عندها في غرفتها و فرشت لها أحسن فرش و قدمت لها الطعام، و انستها بالحديث و الكلام، حتى ذهبت عنها الوحشة، و صارتا في أحلى انسجام ، أما أبوها النعمان فإنه عاد هو إلى الاعاجم ليكمل سهرته حتى يدركه المنام ..
اما ما كان من أبي زيد البطل الهمام ، فإنه لما اطمأن على مصير المارية، عاد إلى مضارب بني هلال يحث الخطى ليخبرهم بما جرى و صار من أمر مارية ،فلما اقترب من المضارب و الديار سمع أصوات البكاء و الصياح و العويل و النواح لأنهم كانوا يظنون انه مات و انقضى عمره و راح ..
و دخل على الأمير حسن و هو في الصيوان فنهض له على الأقدام ، و حمد الله علي سلامته من الأعداء اللئام، و كذلك فعلت باقي الأكابر و السادات و الأعلام ،و تقدم أبو زيد و تقلد الكلام فأخبر القاضي بدير بما وقع و قص عليه كل ما شهد وسمع و كيف أن ابنته المارية في خير و سلام ..
و في تلك الساعة كتب الامير حسن كتابا الى الخرمند يأمره فيه أن يرجع المارية إلى بني هلال في الحال،و إلا فسيسقيه كأس الذل و الوبال، وأرسله له مع رسول خاص و أمره برجع الجواب في الحال..
و لما وصل الكتاب إلى للملك الخرمند و فتحه و قرأ معناه و ما فيه من التهديد و الوعيد ، غضب غضبا شديدا ما عليه من مزيد، وكاد يقتل الرسول من شدة الحنق و الغيض و التنكيد، لولا مخافة الملامة من سائرالعبيد ،ثم أنه مزق الكتاب في الحال ورمى به إلى الأرض ، و أمر جنود الأعجام والفرسان، أن يستعدوا للقتال ، ويقوموا للحرب والطعان ..