بقلم: د. محمد آيت لعميم
تصوير : أحمد بنسماعيل
اشتغل العرض المسرحي الذي قدمته بمراكش مؤخرا جمعية الائتلاف من أجل تحفير الكفاءة المغربية وشركة سيكلوراما بدعم من وزارة الثقافة تحت عنوان “العابر” على النص الباذخ للشاعر ياسين عدنان “دفتر العابر”؛ هذا النص القوي الذي يلتف حول موضوعة السفر والترحال، وحول اكتشاف الذات عبر المسافة، وتحولاتها في فضاءات مختلفة وجغرافيات متنوعة. وإذا كان العبور بين هذه الجغرافيات المتباعدة يكنفه نوع من متاعب السفر، فإنه في أقاليم القصيدة كان يتمتع بنوع من السلاسة والانسيابية، إذ واقع القصيدة له منطق مغاير للوقائع. كُتِب النص بلغة عربية مُشرقة ورصينة، لا مجال فيها للخطأ، تناسلت فيه استعارات جديدة مدهشة، وزاوج الشاعر في هذه القصيدة الطويلة بين الغنائية والسردية، وكان الحوار بنوعيه يتسلل بين ثنايا النص، مضفيا عليه حيوية الحياة وصخبها.
إن التعامل المسرحي مع نص بهذه المواصفات محفوف بالمخاطر، وهو بالفعل مغامرة، كما جاء على لسان الشاعر ياسين عدنان الذي تحدث في نهاية المسرحية، مُثمنا العمل الذي أقدم عليه المخرج أيوب العياسي. فالنصوص الشعرية لياسين عدنان تغري المسرحيين، هناك أولا قصيدته “في الطريق إلى عام ألفين” التي استلهمتها المخرجة الإيطالية لورا فيلياني في مسرحيتها “الخارج المطلق” ولم تتمكن من عرضها في المغرب إلا مرة واحدة في مهرجان دولي للمسرح كانت تحتضنه بني ملال. أما قصيدته “رصيف القيامة” التي استلهمتها الممثلة المسرحية لطيفة أحرار في مسرحيتها “كفرناعوم”، فقد كانت خلفية فقط من أجل إنتاج قيامة أحرار الذاتية، حيث ذاب النص في الأداء وفي بلاغة التجسيد. لكن في مسرحية “العابر”، اضمحل الأداء المسرحي لصالح النص. حتى ليخيل للمشاهد أنه أمام فرقة لإنشاد مقاطع من ديوان “دفتر العابر”. لدي يقين بأن مخرج المسرحية قد وقع أسيرا لبلاغة النص، لم يستطع أن يتدخل فيه أو يغيّر صياغة بعض مقاطعه؛ رغم أنه انتبه بذكاء إلى المنزع الحواري للنص، ووظفه بشكل جيد. لكن بالنسبة إلي أنا الذي قرأت الديوان منذ مخطوطته الأولى إلى أن استوى في دار توبقال نصا طبع مرتين في سنتين متتاليتين، لم أكن أندهش لما يقال بل كنت أسابق الممثلين إلى نهاية النص. وكنت أنتظر أن تتحول مقاطع النص إلى كيمياء جسد وإلى تجريد تعبيري. لكن الأداء توقف عند عتبة الحاشية ومحاكاة الدلالة النصية بطريقة مكشوفة، أي غاب المجاز في الأداء وتمت الاستعاضة عنه بمجازات القول. في حين أن الديكور، الذي لعبت فيه المسرحية، لم يكن وظيفيا، بل تحول إلى عبء على الفرقة وعلى المسرحية معاً، وتحول إلى عنصر مزعج ومشوش، لتراكمه وثقله. فالحقائب المركومة في خلفية الركح لم تؤد وظيفتها، باستثناء أنها تحيل إلى موضوعة السفر، لكن الطريقة التي ركمت بها توحي وكأنها في سوق لبيع الحقائب، في حين كان من الممكن أن تعوض بحقيبة واحدة كافية على أن تتخذ هذه الحقيبة أشكالا ودلالات تعبر عن تحولات السفر وأقاليمه. البار الخشبي الكبير كان محاكاة زائدة، هناك طرق عديدة للإيحاء به، وأعتقد أن لحظة البار لم تعكس بدقة طبيعة الشخصية بحيث تحولت الشخوص إلى كائنات بوهمية توحي بالتشرد من خلال تلك الباروكات الشعثاء ومن ذلك التلعثم المُوحي بالعربدة. اما الفراغات فقاتلة، إذ بين المشهد والمشهد كان على الجمهور أن ينتظر طويلا قبل أن تشرق الإنارة على الخشبة من جديد.
ضيعت المسرحية فرصة استثمار أصوات الممثلين الجميلة والعذبة، وهي الأصوات التي أمتعتنا خاصة في أداء مقطع من أغنية الغيوان “ونا راني مشيت والهول الداني”. كان بإمكان المخرج أن يستثمر هذه الطاقة الصوتية الهائلة للممثلين ويخلق بذلك نوعا من الفرجة والنشوة. أما بخصوص اللحظة الأندلسية في المسرحية فقد كان بالإمكان استثمار مقاطع من الموسيقى الأندلسية تتصادى مع أجواء ديوان “دفتر العابر” حيث الأندلس المفتقدة التي غاب ترابها وبقي تراثها. أما التركيز على رقص الفلامنكو فهو يزج بنا في اسبانيا المعاصرة التي لم تكن تعني الشاعر في شيء. أما مقطع الحسين السلاوي حول أمريكا فهو قد عمل ضداً عن مُرادات الشاعر، فالسلاوي يتحدث عن دخول الأمريكان إلى المغرب، في حين أن الشاعر هو الداخل إلى أمريكا. كان من الأفصل لو اختار المخرج موسيقى الكونتري الأميكية مثلا لتؤدي بعضا من أحاسيس النص.
أخيرا، نص “دفتر العابر” هو نص لرحالة معاصر من زماننا يبحث عن شيء مستحيل، كانت وجهته الغرب، في ظل تحولات كبرى عولمية، رصد بعضا من مظاهرها، لكنه في العمق سافر ليكتشف أن ما ضيّعه كان معه، دفء الصحراء ولذة الشمس. لذلك ففي خطاب الديوان الخفي تشبث قوي بمفردات الهوية. هوية متشظية ظهرت في نهاية التجربة السفرية حيث تعددت وجوه ياسين وتناسخت أرواحه. فهل حافظت المسرحية على هذا الرهان أم أن تقطيع النص وفق الرؤية الإخراجية الانتقائية ضيع رهان العمل الأصلي؟
قبل النهاية، نشير إلى أن مسرحية “العابر” لأيوب العياسي عمل درامي محترم خاض تحديا صعبا، نجح في جزء منه ويبقى الجزء الآخر يحتاج إلى ترميم حتى يستوي العمل وتكون له كلمته في مستقبل الأيام.