العروي وتجديد الكتابة التاريخية المغربية *الحسن إدوعزيز

العروي وتجديد الكتابة التاريخية المغربية *الحسن إدوعزيز

- ‎فيرأي, فن و ثقافة
665
0

 

عبد الله العروي

 

يرى الأستاذ العروي، في إحدى دراساته القيمة، بان تجديد وإعادة بناء تاريخ المغرب يستلزم، حسب رأيه، توفر ثلاثة عناصر أساسية يراها ضرورية لنهضة البحث التاريخي المغربي؛ وهي أولا: إعادة النظر في المناهج التاريخية وتحديثها، باستلهام وتعميم المناهج الحديثة. ثانيا: ضرورة تأسيس مدرسة وطنية مغربية للحفريات والأركيولوجيا. ثالثا: الاهتمام بتدريس اللغات، واللهجات المحلية المغربية على اعتبار أنها المفتاح الأساس لفهم المجال المغربي تمهيدا لإعادة بناء وتركيب مختلف فتراته وحقبه التاريخية.
ولعل هذه الإشكالية، التي يطرحها مفكرنا، تجد سياقها التاريخي العام في السنوات الأولى لمرحلة المغرب المستقل؛ في ظل الجدال الذي أثير، إبانئذ، حول الإرث التاريخي الاستعماري من طرف جل باحثي المدرسة التاريخية الوطنية الصاعدة. ذلك أن هذا الإرث، في نظرهم، كان قد كُتب بأياد غير مغربية، وبرؤى غير عربية إسلامية، تماشيا مع الأفكار القومية التي سادت الوطن العربي أنذاك، والتي لم يكن المغرب بمنأى عن تأثيراتها. لقد كان ذلك الرعيل الأول من المؤرخين يرى بأن الرؤية الغربية تُخالف رؤانا وثقافتنا وهويتنا كمسلمين وكمغاربة؛ على اعتبار أن العلوم الحديثة التي جاء بها المستعمر، بمحتواها وبمناهجها، وبتنوعها من “اثنولوجيا” و”انثربولوجيا” و”علم اجتماع”…وغيرها ظلت ملطخة بـ”الايديولوجيا” الاستعمارية التي كان هدفها، غير المعلن، هو “التقسيم” و”الهدم” وليس “البناء” و”التشييد”.
لقد أعاقت هذه النظرة، ولمدة طويلة، الانفتاح بين التاريخ (كعلم) وباقي العلوم بالمغرب. وكان قد فُرض على البحث التاريخي المغربي أن ينتظر مرحلة السبعينيات من القرن الماضي. ففي هذه المرحلة ستأخذ الأبحاث التاريخية المحلية منحى أخرا، بعد بروز بعض الدراسات الرصينة التي حاولت الانفتاح والاستعانة بالمناهج الحديثة، كـ”اينولتان” للأستاذ “محمد التوفيق” (1976)، “تافيلالت” للأستاذ “العربي مزين”، و”ايناون” للأستاذ “عبد “الرحمان المودن”…وغيرها. فهذه الدراسات كانت من المحاولات الأولى التي استطاعت أن تُدافع وتُقعد، بشكل مثير، لإعادة كتابة تاريخ المغرب. ذلك أنها عادت لتنطلق بهذا التاريخ من جوانبه التي أُغفلت لسنوات طويلة…من جوانبه الاجتماعية والثقافية والذهنية. بل استطاعت أن تُقنع الجامعة المغربية بإعادة فتح النقاش حول المواضيع الكلاسيكية للتاريخ الوطني المغربي.
وإذا كان “المعهد الوطني للآثار والتراث” بالمغرب لم يتأسس إلا أواخر الثمانينات من القرن الماضي (1986)، وإذا كان ما توصل إليه، منذ ذلك الحين، من دلائل وحفريات، لا يكفي لسد فراغات تنويع مصادر البحث. فإن جيلا آخرا من الباحثين، حاولوا سد هذه الفراغات بمواصلتهم مسيرة بناء القناعات التي أرساها جيل السبعينيات…وهي أن “إعادة بناء التاريخ المغربي لن تتأتى إلا بفهم المجتمع المغربي بكل تناقضاته وأبعاده، بهزائمه وانتصاراته، بذهنياته وتقاليده وأنماط عيشه وأشكال استغلاله للمجال”…فدشن هذا الجيل مرحلة جديدة من بناء أركان البحث التاريخي ببعض المواضيع التاريخية الجديدة التي بدأت تُزعزع أركان التاريخ السياسي الرسمي والعسكري للمغرب الوسيط.
لقد كان موضوع “الماء” من أهم المواضيع التي اهتمت بها الدراسات التاريخية الحديثة بالمغرب. فهذا العنصر الهام، جذب اهتمام أغلب الدارسين الذين حاولوا الوقوف على جميع التجليات المرتبطة به…من تقنيات ونظم وأعراف وأشكال استغلال، وبمناهج حديثة تنطلق من الواقع بوضع فرضيات تؤدي إلى استنتاجات علمية، بعد مُساءلة كل الجوانب المتدخلة (اقتصادية كانت أو سياسة أو اجتماعية أو دينية أو شرعية أو عرفية… أو غيرها)؛ وعبر تنويع “الاسطغرافيا” التاريخية بالانفتاح على ما تُتيحه بعض المصادر غير المباشرة (أو “الغميسة” كما يسميها بعض الباحثين) ككتب التراجم والسير، وكتب النوازل الفقهية، والحوالات الحُبُسية، وكتب الكرامات…وغيرها. مما أدى إلى إغناء المكتبة التاريخية المغربية ببعض الأطاريح الجادة، والمقالات العلمية الرصينة التي اهتمت بـ”التاريخ الاشكالي”: كالأستاذ “الحسين بولقطيب” في كتابه “جوائح زمن الموحدين” الذي عالج فيه اشكالية الماء والجفاف والمناخ والأوبئة بمغرب العصر الوسيط. والأستاذ “محمد استيتو” في “مغرب القرن 16 في مواجهة الكوارث الطبيعية” التي جعلها منطلقا لتفسير الوضع الاقتصادي والسياسي للمغرب أنذاك. والأستاذ “محمد أمين البزاز” في “تاريخ الأوبئة والمجاعات بمغرب القرنين 16 و17” الذي ربط فيه بين الأوبئة والمجاعات ومسألة نذرة المياه، وأثر ذلك على الاقتصاد والسياسة والمجتمع…
لعل هذه النماذج من الدراسات كلها كانت قد أعلنت القطيعة مع الكتابة التاريخية الكلاسيكية بالمغرب. حيث اعتمدت على مناهج ومصادر جديدة للبحث التاريخي. كما بدأت بمعالجة الظواهر التاريخية من خلال الجمع بين الإشكال والمعرفة والمنهج، كعناصر ثلاثة فاعلة في بناء الحدث، وبالنظر للتاريخ المغربي من زواياه الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية…ومن مختلف التجارب التي مر منها إنسان هذا المجال من أجل الخروج برؤى جديدة للماضي، تفسر حاضر المغاربة وتستشرف مستقبلهم.
وعموما، فإذا كانت الرؤيا لم تتضح، فيما يتعلق بمسألة اللغات الوطنية، في العقود الأخيرة…لكونها مسألة ارتبطت بالجانب الثقافي في إطاره العام، والذي بقي جامدا لأزيد من نصف قرن (منذ استقلال المغرب) في سياق جهود الحركة الوطنية التي اتجهت نحو توحيد النظام والدين واللغة. فإن الدراسات التاريخية المغربية، وإن لم تستطع تكريس تلك المبادئ الثلاث التي اشترطها الأستاذ العروي، فإنها حققت قفزة نوعية على مستوى التجديد المنهجي، على الأقل. فلم يعد المؤرخ المغربي، اليوم، على الوثيقة الرسمية المكتوبة فقط، بل نوع مصادره. ولم يعد اهتمامه ينصب على تأسيس وانهيار الدولة وانتصاراتها وهزائمها، بل نزل إلى مجتمع الناس بتناقضاته وتجلياته…كما انه أصبح يُمارس النقد التاريخي، حيث ابتعد عن زملائه من الأدباء والشعراء ليقترب، أكثر فأكثر، من علماء الفيزياء وعلماء الاجتماع…فأخرج معه، بذلك، تاريخنا عن حيز اللسانيات لينتمي إلى الطبيعيات…فتاريخنا، على مستوى المنهاج، لم يعد تاريخ أشخاص وسلالات، بل تاريخ بنى وتنظيمات…
* طالب باحث في التاريخ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة القاضي عياض، مراكش

3

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت