محمد بوبكري
يدل وجود التيارات داخل الأحزاب على تعدد وجهات النظر بداخلها، وعلى اعتمادها النسبية قاعدة للحوار بين مختلف مكوناتها، حيث لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، لأنَّه لا يمكن أن تتطابق النظرية مع الممارسة، ولا الكلمات مع الأشياء… بالتالي، فالاختلاف يفرض نفسه دواما بحثا عن أفكار ومشاريع دون زعم القدرة على بلوغ المطلق، وهو ما يعني ملازمة الاختلاف للحياة.
لا تظهر التيارات داخل الأحزاب امتثالا للأمر: “كن، فيكون”، إذ لا يتعلق الأمر بإرادة شخص، وإنما باتجاهات تظهر كلما توفرت لها ظروف اجتماعية وثقافية… تجعلها ذات امتدادات داخل الحزب والمجتمع في آن. وبتوفر ذلك، تفرض نفسها دون أن يقتضي بروزها أو ضمورها نصا قانونيا.
وعندما نرجع إلى كيفية انبثاق التيارات داخل الأحزاب الديمقراطية في البلدان الغربية، نجد أن هذه الأخيرة تتوفر على ديمقراطية داخلية تمكِّن أعضاء الحزب من إطلاق خيالهم وفكرهم بشكل يساعدهم على اكتشاف آفاق وأساليب وممكنات جديدة، والانخراط المستمر في بناء عوالم جديدة ومتجدِّدة… وهذا ما يمنح هذه الأحزاب حيوية فكرية تُمكِّنها من مراكمة رؤى وأفكار جديدة تفضي إلى بذل جهود فكرية مستمرة تثمرُ تراكما فكريا يدرك الفرد من خلاله طبيعة الأشياء، ويعي ذاته وذات الآخر، ويعرف ما يختلف فيه معه وعنه، ويبحث عن وسائل للتعاون معه بأسلوب حضاري دون التفريط في ما يميِّزه عنه. وبذلك تظهر تيارات داخل الحزب الواحد، تتحاور في ما بينها وتعمل على إنجاز ما يجمعها لأنَّ الجميع يعتمدُ الحوار وسيلة للتواصل والتفكير والممارسة والتطور…
بالتالي، فالتجديد ينبع من حرية الصراع الفكري والاجتماعي المستمرين… ما يمكِّن التيارات من أن تجد لها امتدادات داخل المجتمع الحزبي وخارجه. وعندما تبلغ الأحزاب هذا المستوى من النضج، فهي تكون أكثر ديمقراطية وفعالية، وقدرة على الاستمرار في الوجود… ولا ينضج الحزب ديمقراطيا إلا إذا توفرت داخله تيارات واعية بما يجمعها وما يفرقها داخل وحدتها، حيث تعتبر ذلك طبيعيا يعزز وحدتها ويرسِّخها…
تحتوي أحزاب البلدان الديمقراطية على تيارات مختلفة الرؤى، وتضمن حرية التعبير والاختلاف، وبذلك فهي قادرة على التطور والفعل في الأحداث حسب تغير الظروف والأحوال. وهي تعي أنه بدون ذلك لن تُحقق ديمقراطية، ولا استقرارا، ولا تطورا، ولا انخراطا في التحولات العلمية والوطنية والدولية، إذ لا تجديد ولا تجدُّد بدون اختلاف. تبعا لذلك، فغياب الاختلاف يؤدي إلى الموت، إذ بدونه لن تكون للحزب دورة دموية سليمة، حيث سيتوقف جسده وفكره ووجدانه عن الاشتغال، ما يهدِّده بالفناء. فلا حياة بدون حرية الاختلاف والتعدد، وغيابهما يدلُّ على الجمود والعجز عن التفكير والإنتاج والنمو…
وعندما لا تقبل الزعامة الحزبية بالتعددية، فهي ترفض التطور، وتتبنى الجمود، ومن ثمة لا تعير أدنى اهتمام للبناء المستمر لذاتها وللوطن… هكذا، يصابُ “الزعيم” عندنا بالهلع عندما يسمع أحد المناضلين يطالب بتيارات داخل الحزب، إذ يعتقد أن في ذلك مسًّا بسلطته الحزبية التي يريدها مطلقة. ولاعتقاده بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ورفضه أن تكون آراؤه محط نقاش، فقد تحايل من أجل تمرير نصوص تمنعُ التعددية الفكرية داخل الحزب. وهذا إجراء خطير يحول دون تطور الحزب، ويجعله خاضعا لإرادة “الزعيم” وحده، ويدل على أن “الزعيم” لا يدرك مفاهيم الطبيعة والتاريخ والإنسان والمجتمع، حيث يعتقد أن بإمكانه إيقاف حركة التاريخ عبر وضع نصوص قانونية جاهلا – أو متجاهلا – أن قوة التاريخ تتجاوز قوة النصوص التشريعية، وأن التاريخ هو من يفرض ضرورة تغيير النصوص التشريعية لا العكس.
يريد “الزعيم” أن يكون أعضاء الحزب مطابقين له، أي في صورته. لكن “الاختلاف” ضد التطابق، حيث لا يمكن لأي فرد أن يكون نسخة من الآخر، إذ الاختلاف هو طبيعة الحياة. وبدونه سيموت الإنسان والمجتمع، إذ لا حياة ولا تطور بدون اختلاف. ولكي يعبر الاختلاف عن نفسه، فهو يحتاج لحرية. ومن لا يفهم هذا لا يعي أن الاختلاف شرط للمعرفة والتطور…
يعكسُ رفض “الزعيم” للتعددية الفعلية ما يجري في المشهد السياسي المغربي، حيث تنعدم التعددية بمختلف أشكالها وألوانها، وتغيبُ الأحزاب بمفهومها الكوني، لأنها تسير نحو التشابه والتنميط، ما يقلص فعاليتها. وما دام المجتمع والسلطة غير مؤهلين، فالحقل السياسي سيكون كذلك، وبالتالي فنحنُ نعيش في مرحلة ما قبل المأسسة، ما يُضعفنا ويجعلنا محطَّ أطماع خارجية…