اسماعيل الحلوتي
من غرائب الأمور وأفظع مراتب الغرور، استمرار رئيس الحكومة السيد بنكيران تائها في غمرة نشوة زائفة، كمدرب مغمور استطاع فريقه بضربة حظ نادرة، وبفضل احترام أوقات التداريب المنتظمة، والانضباط لتعليمات المرشدين من المؤطرين في مختلف فروع النادي/الحزب، تصدر قائمة ترتيب الفائزين في سباق غاب عنه الأبطال الحقيقيون، بعدما ضعفت فرقهم جراء انقسامات وصراعات داخلية.
وكسائر المهووسين بحب العلم الوطني، المنشغلين بهموم وقضايا المسحوقة قلوبهم قبل جيوبهم، المتشوقين إلى إشراقة أمل ولحظة انطلاق فعلي لقطار الإصلاح والتغيير، استفزني كثيرا في ضوء إخفاقات الحكومة المتواترة، أن يطل علينا السيد بنكيران يوم الأربعاء: 3 دجنبر 2014، من مجلس المستشارين خلال جلسة المساءلة الشهرية حول السياسة العامة، بخطاب شعبوي غارق في العموميات، زاد النفوس المنكسرة تذمرا، بترديده تلك الأسطوانة المشروخة والمملة، التي تتضمن ادعاءات باطلة عن اجتهادات وهمية تروم التخلص من الاختلالات المتراكمة منذ مرحلة الاستعمار، وزاد قائلا بأن المغرب يعاني من أزمة معارضة وليس أزمة حكومة، طالما أنها تخاطب المغاربة بلغة الحقيقة وأن ذمم أعضائها خالية من الشبهات، ودليله على ذلك أنها مازالت تتمتع بثقة ما يزيد عن 50% من المواطنين، وأن حوالي 30% إلى 40% لم تعبر عن رأيها بعد، حسب ما جاء في استطلاعات للرأي حديثة !
لنترك النتائج جانبا، ونسلم جدلا بأنه على اطلاع بمكونات “الطنجرة”، فما فائدة ذلك إذا كان حظ البؤساء لا يتعدى شم “الروائح” ؟ وهل سيعمل على تدارك الضائع في السنوات الثلاث المنصرمة، ويعود لصون كرامتهم وإيفائهم حقوقهم، قبل أن تعصف به الرياح خارج سدة الحكم، ويصبح على ما قدمت يداه نادما؟ ألم يدع جلالة الملك محمد السادس إلى توزيع عادل للثروات؟
يجوز أنه لم يفسد عليهم -هم أيضا- جميل زمانهم، ماداموا لم يعرفوا للجمال معنى، عدا في سحر الطبيعة خارج فترات غضبها، وفي دواوين فطاحل الشعراء، بل أفسد عليهم انتظاراتهم حينما لم يتردد في إجهاض أحلامهم وتحطيم آمالهم، وبات من الطبيعي أن يستمتع برقصاته على آلامهم وأحزانهم ويعمق جراحهم، في خضم ما تشهده الساحتان السياسية والنقابية من خلافات وتصدعات، وما يقدم عليه البعض في المعارضة من أخطاء تمنحه المزيد من القدرة على “التبوريد”. ومن المؤسف حقا، أن يستمر المتشبع بتعاليم ديننا في التبجح بالصدق والشفافية، بينما ينشر المغالطات ويساهم في طمس الحقائق، عندما يقول على رؤوس الأشهاد أن رصيد حكومته مازال صامدا، اللهم إلا إذا كانت المعطيات تأتيه من كوكب آخر…
وبناء على تلك المعطيات أنى كانت مصادرها، فلا غرو أن يواصل الرجل “غزواته”، وينكب كعادته على محاولة استقطاب النسب المتبقية، من الذين لم يكشفوا عن وجهة نظرهم حيال تدبير حكومته للشأن العام، إلى صفوف مناصريه بما يضمن له إعادة الكرة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. وشخصيا، لست من الذين يسمحون لأنفسهم بالتقليل من قدر الآخرين وتبخيس الناس أشياءها، فالحكومة برئاسة السيد بنكيران بذلت الكثير من الجهد وصرفت ميزانيات مالية ضخمة هنا وهناك، اجتهدت بما فيه الكفاية، إلا أنها لم تستطع إصابة المتوخى من الأهداف، والارتقاء إلى مستوى مطامح الجماهير، والنهوض بأوضاعها المزرية، لأن رئيسها وبسبب افتقاده الخبرة والتجربة، بقي منغلقا على نفسه، أسيرا لعقلية المؤامرة، مما أفقده الثقة حتى في المقربين إليه من حلفائه، وجعله يسقط من حساباته المقاربات التشاركية، لينفرد بقراراته ويسير على غير هدى في الاتجاه المعاكس.
قد لا ينكر إلا جاحد أنه تمكن من الحفاظ على امتداد حزبه داخل الأوساط الشعبية، باعتماده خطابا دينيا معتادا ولغة شعبية مبسطة في التواصل، لكن الأمر لم يعمر طويلا لإخلاله بالتزاماته، وانطلق العد العكسي نحو تقلص شعبيته، فمن أين لحكومته التمتع بثقة أزيد من نصف المواطنين، وكل المؤشرات تؤكد عكس ذلك؟
باستحضار المواطن للقرارات اللاشعبية وانعكاساتها على حياته اليومية، من الصعب عليه تصديق مزاعم السيد بنكيران وفهم سر إباحته لنفسه ترديد ما توسوس له به “شياطينه” من أكاذيب. فهل بلغ به حب السلطة إلى حد العمى وعدم التمييز بين الغث والسمين؟ وحده الله يعلم السرائر. أما الظاهر، فهو أن شعبيته في تناقص منذ أن أخلف الموعد مع استكمال بناء الانتقال الديمقراطي، وصار مستعدا للتضحية برصيد حزبه ومصداقيته، حيث زهد في ممارسة صلاحياته الدستورية الواسعة وعجز عن الوفاء بوعوده الانتخابية، في إرساء أسس حكامة جيدة، تخليق الحياة العامة، مكافحة الفساد والاستبداد وبناء اقتصاد وطني قوي وضامن للعيش الكريم والعدالة الاجتماعية…وكيف لحكومة تفتقد مقومات الابتكار وخلق الثروة، تشجيع الاستثمار، تقليص الفوارق الاجتماعية وتوفير فرص الشغل للعاطلين… ولا تستحي من وضع اليد في جيوب المستضعفين وذوي الدخل المحدود والمتوسط، تجميد الأجور والترقيات وإثقال كاهل المقاولة المغربية، والخضوع الأعمى لإملاءات المؤسسات الدولية المالية… أن تنال رضا المواطن وتحظى بثقته؟ ثم من أين لمن يقتطع من راتبه كلما انخرط في إضراب دفاعا عن حقوقه وحماية مكتسباته، ويرى تقاعده مهددا، بالصبر عما يلاقيه من قهر وتسلط ويسايرها في سياستها؟
أكيد أن النقابات لم تعد بنفس القوة، التي تجعل فرائصه ترتعد لمجرد إصدارها بلاغا إنذاريا، لكن ما لا ينبغي أن يغيب عن ذهنه، أن التاريخ سيظل يحفظ له في سجل “إنجازاته”، أنه بفعل قراراته المجحفة، وفي ظل الاحتقان الاجتماعي والوضع الاقتصادي المقلق، وإغلاقه لقنوات الحوار الاجتماعي، أدى إلى توحيد ثلاث مركزيات نقابية وازنة وجعلها تتفق على خوض إضراب عام يوم: 29 أكتوبر 2014، انخرط فيه آلاف المأجورين والموظفين في القطاعين الخاص والعام، أحزاب المعارضة، جمعيات المجتمع المدني، فئات من الحركة الإسلامية (جماعة العدل والإحسان) وحتى بعض أطر أحزاب الائتلاف الحكومي والنقابة التابعة للحزب الأغلبي، ألا تمثل هذه الاستجابة الواسعة استفتاء شعبيا عن تدني شعبيته، واعترافا بإخفاق حكومته في تدبير الشأن العام، وأن بشراه “السعيدة” التي وعد بالإفصاح عنها مباشرة بعد نهاية الإضراب، لم تكن سوى كذبة مفضوحة، لم تفلح في إرباك الإضراب وإفشاله؟
إن ما يدعيه السيد بنكيران، من حظوة حكومته بثقة أزيد من نصف المواطنين، لا يعدو أن يكون مجرد أضغاث أحلام، أو أن استطلاع الرأي المزعوم هم فقط الميسورين الذين لم تزعجهم قراراته، ممن لم تفرض عليهم ضريبة الثروة، المستفيدين من اقتصاد الريع، وكبار موظفي الدولة الذين لم تخفض رواتبهم، وتقلص تعويضاتهم الخيالية ومعاشاتهم الضخمة، أما باقي الفئات المعوزة والطبقة المتوسطة، فهي الأكثر سخطا على استهدافها بإجراءاته المؤلمة: الزيادة في أثمان المواد الاستهلاكية، الخدمات الاجتماعية والماء والكهرباء والتطهير السائل… ولم يبق أمامها من سبيل سوى الجهر بالقول: “ارحل”