السياسة واقع وخيال

السياسة واقع وخيال

- ‎فيرأي
366
0

image

محمد بوبكري

لا جدال في أن المغرب ليس منعزلاً عمّا يجري من تغيير وتطور في محيطه الإقليمي والدولي، ما يفرض عليه تطوير مفهومه لأمنه القومي وتعزيزه في جانبه الاقتصادي عبر تحقيق إنجازات مهمة وواسعة في مجالات الإنتاج واكتساب القدرة على التنافس انسجاما مع المعايير الكونية الحالية…

أما على المستوى الأمني، فقد كان بلدنا – ولا يزال- مستهدفاً من جهات خارجية، فأضيفت إليها تنظيمات إرهابية ترفض فكرة الوطن والولاء له، ما يفرض إدخال عناصر جديدة، ضمن مفهوم الأمن القومي، لأن قوة الدولة وفعالية سياستها الخارجية ومكاننتها عالمياً تنهض على تماسك بنائها الداخلي ووحدته… وهذا ما يستوجب الانخراط الجاد في تحديث الدولة والمجتمع وبنائهما ديمقراطيا…
لذلك، لا بد من مواكبة تحولات العصر عبر إعادة النظر في المفاهيم القديمة للأمن القومي واحدا تلو الآخر، ما يساعد على تجنب تجميد قدرات الدولة وتمكينها من التطور المستمر عبر جعلها قادرة على ملاحقة طبيعة العصر ومتطلباته التي تتغير باستمرار.
لقد أدخل عصر العولمة وثورة المعلومات تغييرا جوهرياً على فكرة الديمقراطية، حيث اتسع مضمونها لتتلاءم مع عالم جديد أصبح يفرض رؤية إستراتيجية تتداخل فيها القضايا الداخلية والخارجية، حيث يوجد اليوم تداخل بين الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والأمن القومي. لذلك صارت الديمقراطية مدخلا لاكتساب القدرة الاقتصادية، وضمان الوحدة الوطنية والأمن القومي… فالديمقراطية هي التي تمكن من وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ما يمكن من معرفة الواقع وتطوير المشاريع عبر آليات الديمقراطية ودولة القانون. وبما أنها تقتضي التنافسية والشفافية، فإنها تؤدي إلى قفزة في مجال التعليم والبحث العلمي، وما يقتضيه ذلك من فكر ورؤى ومشاريع متعددة ومتنوعة، وتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصة في اختيار المشاريع وتطويرها وإنجازها. إضافة إلى ذلك، فقد انتقل خط المواجهة من وراء الحدود إلى داخل الوطن نتيجة التغير الذي طرأ على مفهوم الأمن القومي لدى القوى العظمى التي لم تعد تعمل فقط داخل مساحة أوطانها، بل امتدت مساحة اشتغالها إلى داخل دول أخرى، ما يجسد أطماعها فيها. لكن مساحة اشتغال هذه القوى لا تمتد إلى داخل الدول الديمقراطية، لأن النظام الديمقراطي لهذه الأخيرة يمنحها المناعة ويحصِّنها من تلك الأطماع لكونه يشكل خط مواجهة داخل هذه الدول. تبعا لذلك، يتقوي هذا الخط بالممارسة السياسية الديمقراطية ويتحصَّن بها، حيث تتعزز نزعة الانتماء إلى الوطن، ويصبح كل مواطن منخرطا في الدفاع عنه على امتداد كل خطوط المواجهة، ولن يكون مجرد شخص غارق في اللامبالاة.
لقد أبدع المفكرون على الدوام تصورات جديدة للحياة عبر اختراق التوجهات الفكرية المهيمنة والانتصار عليها، إذ يؤدي ذلك إلى مجاوزة الذات والواقع في آن واحد. فقد ساعد خيال هؤلاء وقدرتهم على الحلم والتخلص من الأفكار التي فرضها واقع تاريخي جامد، فتمكنوا من القيام بدور كبير في مجتمعاتهم، حيث أثرى خيالهم المجتمع وخصَّبه.
وبذلك، عندما يتأمل المرء التطور التاريخي الذي عرفته الأفكار والمنظومات السياسية يجد أن الخيال قد لعب دروا كبيرا في هذا التطور. وقد أشار “كارل مانهايم”في كتابه “الأيديولوجيا واليوطوبيا” إلى الدور الدائم للخيال في تجاوز النظام السائد عبر كل مراحل التاريخ، كما شدَّد على قيمة ما ينتجه من أفكار، وأوضح الظروف التي أحاطت بتحول الفكر الذي كان في البدء منسجما مع نظام فكر القرون الوسطى القائم على أسس إقطاعية ودينية، وأصبح بعد ذلك مناقضا للوقع الذي ولّده.
إذا كانت السياسة تنفتح على الخيال وتحتويه، فإن هذا يقتضي الانطلاق من الواقع لكي نتمكن من تحدِّيه، حيث تعود الكلمة الفصل إلى علاقة الخيال بالواقع في المجال السياسي، إذ يعسر الاكتفاء بالخيال أو تصور غايات مستقلة عن الوسائل لأنه لا يمكن الفصل بينهما، بل ينبغي أن يكونا منسجمين. لذلك فعندما تحدث قطيعة بين الخيال والواقع تصبح التصورات الطوباوية في السياسة غير منسجمة مع الواقع وجامدة، ما قد يُسقط في العنف، فتصبح ذات بعد دموي، ويتحول الحلم إلى كابوس.
ولسوء الحظ، يبدو أن عصرنا عرف مثل هذه التهديدات والمخاطر المتمثلة في معاداة الإنسان، خاصة عبر هيمنة التعصب والإرهاب التكفيري على بقية جوانب الوجود الإنساني الفردي والجماعي. ومن الأكيد أن الشخص المتعصب يشتغل انطلاقا من وصفات جامدة، حيث يعاني من فراغ فكري مهول يجعله لا يعي ما يؤسس لتفكيره وحريته. وهذا ما يقتضي تمكينه من الخروج من وضعيته المأساوية عبر تمكينه من امتلاك تفكيره وحريته… الأمر الذي يستوجب خيالا يمكِّن من بناء مجتمع ودولة ديمقراطيين حداثيين…

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت