القبيلة والطائفية عائقان أمام بناء الدولة الحديثة

القبيلة والطائفية عائقان أمام بناء الدولة الحديثة

- ‎فيرأي
326
6

محمد-بوبكري

محمد بوبكري

يشكل “النظام القبلي” مرحلة من مراحل التطور التي عرفتها أغلبية المجتمعات البشرية، وبالتالي فالقبيلة ليست من خصائص مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها كما يزعم البعض. فهي كيان بشري عرفته أفريقيا وأستراليا واسكندنافيا وأمريكا وآسيا… كما أنها نظام اجتماعي ونسق ثقافي استطاع الاستمرار في مناطق معينة، في حين تمكنت مجتمعات أخرى من التخلص منه منذ مدة طويلة في مناطق أخرى من العالم. وقد قام مفهوم “الدولة الوطنية الحديثة” الذي نشأ في أوروبا على أنقاض القبيلة والطائفة… ثم انتقل إلى أغلب دول العالم. ولا ينفصل هذا المفهوم عن مفهوم “المواطنة” الَّذي يعتمد على معايير أخرى للانتماء تتعارض جذريا مع المعايير المعتمدة في الثقافة القبلية والطائفية وغيرهما من الثقافات التقليدية. ولا جدال في أن المفهومين السابقين قد مكَّنا الدولة والمجتمع في بلاد الغرب من إحراز تقدم هائل. وتكمن مشكلة القبيلة في ثقافتها العنصرية القائمة على العصبية العرقية التي تقوم على مفهوم المغالبة والفخر الذي يقتضي النيل من الآخر، قبيلة كان قبيلة أو جماعة مجاورة أو بعيدة.
لا يمكن حصر مفهوم المجتمع المدني في وجود مؤسسات وتجمعات مدنية، فهو يمتد إلى وجود مجتمع “متمدن” استطاع الانتقال من الانتماء للقبيلة أو الطائفة إلى الانتماء إلى المجتمع، أي التحول من انتماء ضيق إلى انتماء أوسع، وهي عملية تقتضي تنازل أفراد المجتمع عن انتماءاتهم الضيقة لصالح الانتماء «الجمعي» على أساس المساواة في الحقوق والواجبات وسيادة الحرية الفردية والعامة بما لا يخالف القوانين والنظم العامة، وإقامة العدالة بين أفراد المجتمع وتطبيق القانون على الجميع، والمشاركة في اتخاذ القرارات العامة، وإقرار حقوق الإنسان وتوفير شروط الحياةِ المدنية التي تتمتع بها الشعوب المتقدمة والتي أصبحت كونية.
ونظرا للاختلافات المذهبية والدينية والعرقية والسياسية الموجودة في المجتمعات، فالحياة المدنية تظل هي السبيل السليم للعيش المشترك بين الناس، وبدون ذلك لن يكون هناك استقرار للمجتمع، إذ سيحاول كل واحد أن يفرض تصوره للحياة على الآخرين الذين يختلف معهم، ما سيدفع إلى الصدام الذي قد يتحول إلى حرب أهلية كما هو الحال في كثير من بلدان الشرق الأوسط اليوم…، حيث لا صوتَ يعلو على صوت الطائفية والعرقية والجهوية، فأصبح أصحاب الدعوات الضيقة ينادون بالتمركز حول ذواتهم والتكتل حولها، وتم الانتقال من البحث عن الذات إلى البحث عن المُختلِف بغية محاربته، فنشأت صراعات طائفية وقبَلية، وأصبحت الطائفة محوراً له مقوماته ومطالبه الدينية والسياسية والاقتصادية، وصارت القبيلة محوراً له ذات المقومات، وأصبحنا نشاهد على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون زعماء الطوائف والقبائل في جبة سياسيين على نحو يجعل من الصعب الحديث الآن عن وجود قادة سياسيين بما ينسجم مع روح العصر.
لقد حاولت بعض النخب الوطنية المغربية في بداية الاستقلال أن تتجه نحو بناء “دولة حديثة”، حيث أرادت التخلص من الأشكال التقليدية للاجتماع الإنساني، وفي مقدمتها “القبيلة”، لكن تطور الأحداث أجهض كل المحاولات التي كانت تريد السير في هذا الاتجاه، حيث تأكد بعد مرور عقود كثيرة على الاستقلال أن جذور “القبلية” و”الطائفية” لا زالت راسخة في المجتمع المغربي، ما جعلهما عصيتين على الاقتلاع، لأنهما تشكلان جزءا أساسا من بنيته الاجتماعية وثقافته. وبالرغم مما يبدو أحيانا من غياب أو تغييب لهما، فهما لا زالتا في خلفية المسرح السياسي، تلعبان دورا مهما في السياسة والسلطة، إذ نشهد حضورا لهما في قلب كل من المجتمع والسلطة، ما يطرح سؤال أسباب ذلك وكيفية استمرار معاناة المجتمع والسياسة في بلادنا اليوم من عصبيات قبلية وطائفية في عصر العولمة وانهيار الحدود والولاءات الضيقة…
ورغم التغير والتطور الملحوظين اللذين عرفتهما القبيلة، إذ أخذت شكل وحدة اجتماعية مختلفة عما كانت عليه تاريخيا، حيث كانت في الماضي وحدة اجتماعية ذات تركيب خاص ينهض على الاقتصاد الرعوي، لكنها اليوم فقدت مكونها الاقتصادي وأصبحت ذات وظائف اجتماعية أخرى، ما أعطاها شكل وحدة اجتماعية أخرى تكاد تختلف تماما عما كانت عليه تاريخيا… رغم ذلك التغير والتطور، فالقبلية لا زالت مستمرة في مجتمعنا.
ويعود ذلك إلى أن السلطات الاستعمارية كانت تخاف من القوى السياسية الوطنية الحديثة، فلجأت إلى استعمال بعض القبائل ضد تلك القوى لإقامة توازن مجتمعي في المغرب على نحو يُمكنُ الاستعمارَ من إيقاف تطور القوى الحديثة الناشئة وإعاقة نموها حتى لا يؤدي ذلك إلى تطوير مشروع سياسيي يفضي إلى بناء دولة وطنية حديثة مستقلة فعلا عن القوى الاستعمارية ومناهضة لها. وقد نهجت السلطات المغربية الأسلوبَ نفسه بعد الاستقلال، حيث وظفت القبائل والعصبيات القبلية والعرقية والطائفية ضد القوى السياسية الحديثة للحيلولة دون تطوير أي مشروع معارض للسلطة. لذلك كلما تطورت الحركات السياسية الحديثة وحصل تقدم في تحديث المجتمع والدولة والاقتصاد ضعفت أهمية القبلية والطائفية اللتان تحولان ضد وجود أي تماسك وطني قائم على أساس المواطنة، إذ يستحيل إحراز ذلك اعتمادا على القبلية والطائفية اللتان تفرقان ولا تجمعان.
يرى المؤرخون والأنثروبولوجيون الذين اشتغلوا على القبِيلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن القوى الاستعمارية قد لجأت إلى استخدام القبائل التي لم تواجهها لعدم ثقتها في المدن ورغبتها في إيجاد توازن بين البنيات الاجتماعية القبَلية في البوادي ونظيراتها في المُدن، فاستخدمت شيوخ القبائل لضبط القبيلة وإدارتها بما ينسجم والمصالح الاستعمارية، كما جعلت من هؤلاء الشيوخ جهازا أمنيا وقضائيا لفض المنازعات بين أفراد قبائلهم وجماعاتها….، على نحو مكَّنها من السيطرة على البلاد بأسلوب غير مكلف. وقد تحول الشيوخ إلى إقطاعيين مقابل خدماتهم للاستعمار….
اتبعت السلطة بعد الاستقلال في علاقتها بالقبيلة النهج نفسه، فاستقطبت القبيلة، وساهمت في بقاء شبكات القرابة قوية أيديولوجيا، ما يعني استمرار وجود قبَلية ثقافية Tribalisme culturel تتجسد في قيم ومنظومات ثقافية دون أن يوجد تنظيم قبَلي كما كان عليه الحال سابقا، حيث بقي قسم من القبيلة يمارس الزراعة، وهاجر قسم آخر إلى المدينة أو إلى الخارج، وبقيت بين الطرفين بعض العهود والتعاون في حالة الوفاة والزواج والوساطة… التي نلاحظها اليوم في المدن.
وتجدر الإشارة إلى أن القبَلية والطائفية ما تزالان حاضرتين سياسيا واجتماعيا في الانتخابات التي عرفتها بلادنا، ما يغيب معه مفهوم المجتمع المدني، لأنَّ القبيلة تعد نقيضاً للمجتمع المدني، إذ بينما تكونُ تكتلات هذا الأخير مفتوحة وفق نظم اختارتها لنفسها تبقى القبيلة تكتلا مغلقا لا يمكن أن ينتسب إليه إلا من انحدر من هذه القبيلة أو تلك، كما لا يحق لعضو قبيلة أخرى أن ينتسب إليه، وهذا مناقض تماما لمفهوم المجتمع المدني الذي يتساوى فيه المواطنون بصرف النظر عن المعتقد أو الجنس أو العرق أو الانتماء. ولذا فإن اعتماد القبيلة في السياسة يلغي وجود مجتمع مدني فعلي، حيث تكون القبيلة مؤسسة مجتمعية تفرض انتماء ضيقا على أعضائها، وتحول دون اختيارهم الانتماء إلى الوطن. وإذا كانت القبيلة قد شكلت حضورا في المجتمع والانتخابات، فإن الطائفة قد شكلت الحضور نفسه.
وإذا كانت الأغلبية الساحقة لا تذهب إلى صناديق الاقتراع فمعظم أفراد الأقلية التي تقترعُ لا تفعل ذلك إلا مقابل المال ولاعتبارات قبلية وطائفية. وهكذا، فإن أغلبية أعضاء “البرلمان”هم هناك لاعتبارات قبلية وطائفية، ما يجعل الحكومة تتسم بطابع طائفي وقبلي.
ويعود نجاح السلطة في توظيف القبائل وعرقلة تحديث البلاد ودمقرطتها إلى تقريبها لشيوخ القبائل واعتمادها عليهم ومكافأتها لهم.
لقد عرفت بلادنا تيارات ماركسية وليبرالية وغيرها، لكن القبلية والطائفية ظلتا راسختين في مجتمعنا، بل لقد بقيتا لحد الآن الثابت الوحيد الصامد بخلاف سائر الإيديولوجيات تقريبا.
تعني الحداثة السياسية وجود شعب يعتمد على المواطنة، لكن الاستبداد لا يقبل المواطنة لأنها تتعارض معه من حيث الطبيعة. لذلك تساهم السلطة في ترسيخ التركيب الاجتماعي والسياسي الذي يشجع العصبيات الإثنية والعائلية والقبلية، ناسية أو متناسية أنها بقيامها بذلك إنما تعرض نفسها لخطر التقويض؛ إذ عندما لا يجد الناس منظمات مدنية تدعمهم ويحتمون بها ضد السلطوية والإقصاء، فإنهم يُجبرون على اللجوء إلى العصبيات الإثنية والعائلية والطائفية. وإذا كانت القبلية لازالت موجودة، فلأنَّ السلطة تقوي العصبية…
يمكن تفسير هذا النهج للسلطة بكونها ترفض قيام أي مؤسسة تعارضها. فهي ترفض وجود أي مجتمع مدني حقيقي، لأنها لا تقبل بوجود قوى أخرى قادرة على تأطير المجتمع، إذ تعتقد أن التثقيف الفعلي للمجتمع يؤدي في غالب الأحيان إلى التنوير الذي يوسع الأفق الفكري للناس ويجعلهم قادرين على التفكير في أشياء ترفض السلطة أن يفكروا فيها أصلا.
لذلك، عندما تتم الحيلولة دون تحديث المجتمع وقيام مؤسسات المجتمع المدني التي تشكل التعبير عن انتماء الفرد إلى مجموعة، أو طبقة، أو تنظيم مدني….، فالنتيجة تكون هي خلق فراغ بين الدولة والفرد، ما يفسح المجال لشبكات التضامن الأسرية والقبلية والطائفية لكي تملأ هذا الفراغ…
وبما أن السلطة توظف كلا من القبيلة والطائفة للوقوف في وجه التحديث والبناء الديمقراطي معتقدة أن ذلك سيمكنها من الاستئثار بالقرار السياسي والاقتصادي، فإنها تغفل أنها بذلك تمنح فرصة لأعداء الوطن داخليا وخارجيا لكي يفتِّتوه… لذلك فإن التحديث والبناء الديمقراطي هما ضمانة الوحدة الوطنية والاستقرار والاستمرار…

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،