بوبكري يكتب ” لا وطن بدون مواطنة”

بوبكري يكتب ” لا وطن بدون مواطنة”

- ‎فيرأي
1025
6

محمد-بوبكري

محمد بوبكري

مرَّ أكثر من ثلاثين عاماً على “الانفتاح السياسي” في بلادنا دون أن يتطور أي شكل سليم من أشكال المشاركة السياسية الفعلية للمواطنين في اتخاذ القرارات المصيرية، ولا تزال التعددية السياسية شكلية، مع هامش حرية تعبير وتنظيم ضيق لا يتغير. وبذلك، فنحن لا زلنا نفتقر إلى نموذج سياسي قادر على بلورة حد أدنى من الإرادة الجمعية، والتعبير عن المصالح المتعددة والمختلفة للمجتمع، والعمل على ضبطها وتقنينها عبر توفير الإطار المناسب الذي يضمن التوافق بينها، ويمكِّن من تدبير اختلافاتها وتناقضاتها بأسلوب حضاري…

ولكثرة المشاكل المؤسسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يتخبط فيها بلدنا، فقد صار بعض المتتبعين يلاحظون أننا بتنا مهدَّدين بدخول حلقة قد تفضي إلى نفق بدون مخرج، إذ لا ينتظرنا من الحاكمين سوى مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي… فهم يقصون كل من يختلف معهم، ولا يقبلون إلا من يمتثل لأوامرهم، ويرغب في أن يكون تحت سيطرتهم، لأنهم يرفضون مبدأ صدور السلطة عن الشعب وحقه الكامل في مراقبتها، ما يعني أنَّ الحياة في بلادنا لا تزال عموما محتجزة وأسيرة، ويفسر صعوبة وجود تنافس حقيقي ونزيه على السلطة أو تداولها.

وبتصرف حكام بلادنا على هذا النحو، فهم يرتكبون خطأً حضارياً فادحا لأنهم يريدون الاستئثار بكل شيء وعدم الاعتراف بالآخر، الأمر الذي يشكل السبب الأساس في ما نعانيه من احتقان شديد وانقسام في صفوف مجتمعنا وغياب أي مشروع ديمقراطي تنموي…

وبسبب التوظيف السياسي للطائفية والقبلية، فقد بلغ الاحتقان عندنا مداه، فأخذت بعض جماعات الإسلام السياسي تستثمره بتكفير كل من يختلف معها، ناسية أو متناسية أن الإسلام هو دين المحبة. يقول المتصوف الكبير محيى الدين بن عربي:”أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني”. لكن هذه الجماعات لا تؤمن بالحب، بل تؤمن بالكآبة والاكتئاب وتشيعهما في المجتمع، فلا يطمئن لأصحابها بال إلا عندما يرون الناس كلهم مكتئبين. والصورة العامة عندنا كلها هي أصلا مكفهرة، إذ يعاني كل المواطنين حالة اكتئاب، وأصاب الكثير منهم اليأس وفقدان الأمل…

يدل التعصب على وجود عيوب في العقل تجسد منتهى التخلف، ما يستوجب التخلص منه. وكلما تخلصنا من هذا المرض العقلي، تقدمت بلادنا، وأُغلِق الطريق في وجه من يخططون لكسر وطننا…

والحالة هذه، ما العمل؟، هل سنظل نتجرع ماسينا ونكتفي بالحديث في بعض المجالس واللقاءات والكتابة في بعض الصحف؟ وهل يجدي ذلك نفعاً على المدى القريب أم أن الطريق مازال طويلاً؟ أظن أن الطريق مازال طويلاً، وأننا نتحمل جميعاً مسؤولية ما نحن فيه.

ينبغي أولا تطوير مشروع ديمقراطي مرتبط بالوطن والشعب، يواكب التحولات العلمية والتكنولوجية والعالمية…، ويجيب على أسئلة المرحلة، ويؤهلنا للعضوية الفعلية في عالم الغد… ويقتضي هذا تحرك القوى الديمقراطية وسط المجتمع بهدف تأطيره ليقبل عن اقتناع على الانخراط في تغيير حقيقي يرمي إلى بناء نظام ديمقراطي فعلي.

كما يستوجب ذلك إصلاح التعليم، بحيثُ يمكننا من اكتساب عقل مستنير، ناقد وواع، لا يتوقف عن التساؤل والإنتاج….

إلى جانب ذلك، لابد من تبنِّي مبدأ المواطنة التي تنظر إلى جميع المواطنين باعتبارهم سواسية، فلا يُمَيَّز بينهم على أساس المعتقد أو الجنس أو الطائفة… لأن دولة المواطنة ترفض هذه الأشياء وما شاكلها. فالمواطنة لا تعني المساواة القانونية فقط، إذ تحتاج إلى جانب ذلك عناصر أخرى تتضمنها مواثيق حقوق الإنسان والدساتير الحديثة التي تعطي أهمية للحقوق الاقتصادية  والاجتماعية…

كما يتطلب الأمر سيادة القانون والتعددية الفكرية والسياسية وتداول السلطة وقضاء مستقلا يتساوى أمامه الحاكمون والمحكومون على السواء. ولا يتحقق هذا بمجرد إعراب عن نوايا أو التعبير عن إرادة، بل يقتضي أن يتحقق على أرض الواقع بوجود قوى مقتنعة به ومستعدة للانخراط في بنائه…

وجدير بالذكر أن الشعب المغربي لم يعش في ظل ديمقراطية حقيقية، وأن الشعوب لا تتعلم الديمقراطية إلا عبر ممارستها في مدرسة الديمقراطية. فالانتخابات  الحرة النزيهة هي بداية ضرورية للبناء الديمقراطي، لكن الديمقراطية لا تتحدد بمجرد  صندوق انتخابات، بل تقوم على عناصر أخرى يتعين تعلُّمها في مدرسة الديمقراطية. فالديمقراطيون يفهمون ما هي الديمقراطية ويدركون تماما عدم جواز الخلط بينها وصندوق الاقتراع. في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال، لازالت تجربة الألمان مع هتلر ماثلة أمامنا. كما أن الديمقراطية حضارة وفكر ومبادئ وقيم وانفتاح ونمو وتطور… وهي تقتضي أن يعرف الفرد كيف يُحافظ على ثقة الناخب الذي أعطاه صوته، ولا يبدد هذه الثقة التي إن فقدها فهي لا تضيع منه وحده فحسب، بل ومن العملية السياسية بكاملها، وهو ما وقع في بلادنا في الانتخابات الأخيرة، ويُنذر بعزوف أكبر في الانتخابات المقبلة.

ومن أهم ما يجب تعلمه في مدرسة الديمقراطية معرفةُ كيفية التحاور وممارسة الاختلاف بشكل حضاري ينهض على الاعتراف بالآخر، إذ لا يتشاجر إلا المتخلفون. أما آلمتحضرون فيعرفون كيف يدبرون اختلافاتهم، لأنهم يعرفون أنه يمكنهم أن يختلفوا حول بعض الأمور مع البقاء متفقين على أمور أخرى، لأن الحياة، بطبيعتها، تنهض على النسبية، وتتعارض مع القطعية والتعميم. والذين يتوهمون أنهم على صواب دائماً، وأن غيرهم على خطأ دائماً، هم بعيدون كل البعد عن إدراك معنى الديمقراطية…

ولكي نكتسب ثقافة الحوار، يجب أن نتعلم أوَّلا كيف نصغي للآخر. يحدث في بعض مجالس الأطر المثقفة نفسها أن يريد الكل أن يتكلم في نفس الوقت، وبذلك ينتهي الأمر إلى ألا أحد يعود يسمع أحدا أو لا يريد ذلك، في حين يجب إجادة فن الإصغاء لاستيعاب كلام الآخر، ثم طلب أخذ الكلمة بعد ذلك إن دعت الضرورة لإبداء ملاحظات. يجب تعلم ثقافة الحوار لكي يكون الحوار مجدياً، ولكي نصل إلى نتائج، قد نتقبل بعضها وقد نرفض بعضها الآخر، لكننا في الحالتين نتقدم فكريا، إذ تتسع مداركنا وآفاقنا، وقد نعيد النظر في ذواتنا، كما أننا نتمكن من بناء رأينا على أساس الإنصات والفهم والحوار والاقتناع….

لذلك، فالديمقراطية هي النظام الوحيد ــ رغم كل ما فيه من عيوب ــ القادر على تصحيح نفسه من داخله وبآلياته نفسها.

قد يحدث أن يفقد الوزير المشرف على الانتخابات مقعده في البلدان الديمقراطية دون أن يلفت غيابه انتباه أحد، لكن إذا حدث ذلك عندنا فقد يكون من علامات الساعة. ويعود ذلك إلى أن وزير الداخلية عندهم يحترم المؤسسات ولا يمكنه أن يضع نفسه فوقها، لكن وزير الداخلية عندنا لا يتقدم للانتخابات لأن أولياء أمره هم أصلا غير مقتنعين بجدواها، كما أن بقاءه في منصبه أهم لهم منها ومن نتائجها، حيث تقوم وزارته بإدارة الانتخابات وما بعدها…. لذلك، فالانتخابات عندنا لا تمنح أية شرعية، لأن السلطة هي التي تمنح هذه الشرعية وتنزعها. وهذا ما يفسر أن النافذين في بلادنا ليسوا أعضاء في «البرلمان»، لأنهم يعون أنه مجرد مؤسسة شكلية لا محتوى لها ولا قيمة.

وإذا كان أغلب البرلمانيين في بلادنا يدخلون البرلمان عن طريق شراء المقعد، فهم يتحولون بدورهم إلى مقاعد يجلس عليها أولياء أمرهم. لذلك فهم لا يدخلون البرلمان للتشريع، ولا لمراقبة الحكومة، وإنما لتنفيذ ما يؤمرون به علَّهم يستفيدون من غطاء السلطة لستر خروقاتهم القانونية أو الاستفادة من الريع….  وبذلك، فالبرلمان لا يراقب ولا يشرع، كما أن الحكومة لا تدبر ولا تفكر ولا تقترح، بل السلطة هي التي  تراقبهما وتقرر في كل شيء. ومن لا يشارك في القرار تنزع منه إنسانيته، ما يسقط عنه صفة المواطنة…

الأصل في الدساتير هو أنها تمكن الحرية من مواجهة السلطة، حيث تُقيِّد السلطة من أجل توسيع مساحة الحرية. وبدون ذلك، لن تكون هناك ديمقراطية، ولا مواطنة، ولا إنسان، ولا وطن… كما أن المواطنة ركيزة أساس للوطن.

يُذكرني الحديث عن هذه الأمور كلها برائعة «أنا مواطن» للفنان التونسي لطفي بوشناق، حيث يقول:

أنا مواطن وحاير .. أنتظر منكم جواب

منزلي في كل شارع .. وفى كل ركن وكل باب

وأكتفى بصبري وصمتي .. ثروتي حفنة تراب

ما أخاف الفقر لكن كل خوفي من الضباب

ومن غياب الوعي عنكم .. كم أخاف من الغياب

أنا حلمي كلمة وحدة يظل عندي وطن

لا حروب لا خراب لا مصايب لا محن

خذوا المناصب والمكاسب، لكن خلوا لي”الوطــــن”.

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت