القراءة: صداقة مفتقدة !

القراءة: صداقة مفتقدة !

- ‎فيرأي
1015
0

 

اسماعيل رحوتياسماعيل الحلوتي

أبدا لن يخامر الشك أحدا في كون القراءة، قبل أن تكون متعة ذات سحر أخاذ، وغذاء متنوعا ومتكاملا للفكر، فإنها من أرقى القيم الإنسانية والمهارات الضرورية، التي تلزم الشخص لضمان تعلم ذاتي متميز.. ويتجلى بريقها فيما تمثله من أداة رفيعة للاتصال والتواصل بين الأفراد والجماعات، وهي في رأي الروائي الفرنسي مارسيل بورست “صداقة خالصة”، تساعد على إخراج المرء من وحدته ووحشته، في زمن رهيب عز فيه وجود صديق مخلص، وقد تضفي على النفس انشراحا وطمأنينة، حينما تدفع عنها السأم، وتفيد في توسيع المدارك والقدرات، فضلا عن أنها استثمار للوقت، تهذب النفوس، تحيي الأفكار وتشكل نافذة رحبة على مختلف علوم وثقافات الآخرين…
والقراءة عموما، من أبرز المعايير التي يتم بموجبها قياس نبض المجتمع، ومعرفة درجات رقيه، لأنها ببساطة، لبنة أساسية في صناعة الإنسان وتشكيل وعيه، وجعله قادرا على النهوض بمستوى مجتمعه وتشييد حضارته. فمن لا يهتم اليوم بتنمية رصيده المعرفي، لا يستطيع استيعاب النصوص، ولا تفكيك مضامينها، وربطها بواقعه السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، أو التعبير عن نفسه والتجاوب مع غيره، مما قد يؤدي إلى اعتماده العنف أسلوبا للتحاور وإثبات الذات.. وإذا كان جيلنا في خمسينيات القرن الماضي، إبان تلك الحقبة الذهبية من تاريخ تعليمنا، قد استفاد كثيرا من أولئك المعلمين المخلصين، الذين صهروا أروع مراحل أعمارهم في العطاء المثمر، لما عرف عنهم من شغف بالمهنة ونكران الذات، بأن وثقوا صلتنا بالكتاب من خلال خزانة الفصل، التي كنا نسهر على تعبئتها بقصص شخصية متنوعة، وبشكل دوري يستفيد كل تلميذ من قراءة أكثر من عشر قصص في الشهر نظير نسخته الوحيدة، ناهيكم عن تلك المسابقات الثقافية حول أحسن ملخص لكتاب، أو أجمل النصوص الإبداعية في: الشعر، القصة، المسرح… وتخصيص جوائز رمزية لإذكاء روح التنافس الشريف بيننا.. فإننا اليوم وبعد كل الذي عرفه العالم حولنا من ثورة رقمية ضخمة وهائلة، نجد الناس تائهين بين شعاب التطور التكنولوجي، الذي دمر سوء استغلاله العديد من القيم والمهارات، ولم يعد هناك من فسحة تتسع للكتاب الورقي. انحرفت دور الشباب عن وظائفها الحقيقية، تراجعت أدوار المكتبات البلدية، غاب تأطير الهيئات السياسية والنقابية ودعم الجماعات، توارت اللقاءات الثقافية والأدبية، اختفت المجلات الحائطية، وضاعت منا صور كل الأشياء الجميلة، في زمن أريد له ألا يكون إلا رديئا وبدون ملامح…
إن المراحل الأولى من التعليم الأساسي، تعتبر بوابة رئيسة لكل إعداد جيد، يساعد على حسن تنشئة التلميذ صحيا، وجدانيا، عقليا، أخلاقيا واجتماعيا، ومن تم تأهيله لعبور موفق صوب أسلاك التعليم اللاحقة، التي لا ينبغي إخلاء مسؤوليتها من أي تعثر، ما لم يصبح متمكنا من نحت مساره الدراسي والاجتماعي، بالقدر الذي يوفر له شروط الاندماج الطبيعي الفاعل والفعال… وتعتبر المكتبة المدرسية من أنجع وسائل التكوين، التي تلعب دورا حاسما في حياة المتعلم، وتضمن له تنوعا ثقافيا رائدا، إذا ما استثمرت بطريقة علمية دقيقة، وتوفر لها المخزون الكافي من: كتب وقواميس متنوعة بمختلف اللغات، مراجع متعددة، صور شفافة، وأشرطة مسموعة وسينمائية… باعتبارها رافعة تساعده على الارتقاء بمهاراته وتعزيز مكتسباته، انطلاقا من ترجمة أهداف القراءة إلى مصادر للتفكير والابتكار، وهي المكان الأليق بترسيخ هذه العادة الحميدة، التي تعمل تدريجيا على إثراء رصيده اللغوي، تنمية رغبته في الاستكشاف والتمحيص، إنجاز العروض والبحوث… مما يؤهله لمزج المخبوء من الأفكار بمخيلته وتحويل تراكماته المعرفية إلى ثقافة شخصية، تمنحه القدرة على خوض نقاشات رصينة ومقنعة، وتكسبه حصانة فكرية تحول دون استغفاله سيما في الاستحقاقات الانتخابية…
إن ما بتنا نرصده من تجاهل لأهمية القراءة، ينذر بعواقب وخيمة على أطفالنا وشبابنا، بعد أن أدرنا لهم ظهورنا، وجفونا تلك الممارسات الجميلة المتمثلة أساسا في جلب الصحف اليومية، المجلات الأسبوعية والروايات إلى البيت وتبادل قراءتها بين الأزواج، مما كان يجسد سلوكا حضاريا يتأثر به الأبناء ويتفاعل معه، فيتسارعون إلى إشباع فضولهم المعرفي، وإرواء عقولهم المتعطشة إلى تنوير أفكارهم. ومن غريب المفارقات، أن هناك من أعدم مكتبة بيته وأطمر أشلاءها في أسواق الخردة، في وقت هو أحوج ما يكون إلى أنس كتاب، والاستفادة مما يضمه بين دفتيه من كنوز، لأنه بأسف شديد لم يطلع على قول الرائع عبد الله كنون: ” المكتبة هي معبد الفكر ومعتكف المفكرين، وهي المعمل الذي تصنع فيه العقول وتصاغ الأذواق” أو لم يستوعبه. رب قائل إن العزوف عن اقتناء الكتب بمختلف اتجاهاتها الفكرية والعلمية مرده: تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ارتفاع نسبة الأمية، البطالة..و..و… إلا أن ذلك كله لم يحبط إرادة أولئك الذين يتذوقون طعم القراءة، ويقدرون قيمتها الأدبية والعلمية، فقد ظل الكتاب لديهم مقدسا باعتباره من أهم المصادر الرئيسية للمعرفة الشاملة… أما الحديث عن الصحف اليومية، فإنها خارج دوائر المقاهي، التي تتناوب ثلة من الزبناء على تصفح بعض موادها باستعجال، فما أعتقد أن صدور البيوت مازالت تتسع لاحتضانها بنفس الحماس، علما أن كلفتها جد محدودة. أين نحن من المعارض ذات الجاذبية الحقيقية؟ أين ما كان يعرف باتفاقيات الشراكة بين فروع اتحاد كتاب المغرب والنيابات الإقليمية لوزارة التربية الوطنية؟ أين النوادي التربوية والثقافية التي كانت تصقل المواهب: نادي القراءة، نادي الصحافة، نادي السينما…؟
إن الانصراف عن القراءة لا يرتبط – كما يزعم البعض – بتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، بقدر ارتباطه بفشل منظومتنا التربوية، وبعقم السياسات المنتهجة، المتجلية في غياب برامج تكوين حديثة وآليات متطورة وقادرة على ترسيخ وتكريس هذا الفعل النبيل، خاصة في وزارتي التعليم والثقافة، فضلا عن إخفاق كل من: الأسرة، المجالس الجماعية، فعاليات المجتمع المدني، الهيئات السياسية والنقابية… في الاضطلاع بمهام التأطير التربوي والدعم المادي. فلا يجوز بأي حق التخلي عن المطالعة، وحرمان أنفسنا وفلذات أكبادنا من تنمية أرصدتهم المعرفية والاطلاع على ثقافة الآخر… إننا اليوم نفتقر وبشدة إلى كل ما يلزم من مبادرات حقيقية، تعيد للقراءة سحرها المفقود، فهل من ثورة حقيقية في هذا الاتجاه؟

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت