المنظومة التربوية والاحتراق الداخلي_ مقالة تحليلية‎

المنظومة التربوية والاحتراق الداخلي_ مقالة تحليلية‎

- ‎فيرأي
1111
6

عبد الرحيم الضاقية (*)

بحلول سنة 2014  يكون قد مرت 20 سنة على تقرير البنك الدولي الذي شخص حالة المغرب العامة ومنها المنظومة التربوية ، وقد اشتهرت خلاصاته باعتبار المغرب على شفى السكتة القلبية الاجتماعية والسياسية ، وكان لموضوع التربية والتكوين أهمية كبرى في التقرير بوصفه رافعة للتنمية ومؤشرا من مؤشرات التغيير المنشود في القرن 21 . ورغم التلكؤ الحكومي آنذاك فإن الوزير  السابق/ الحالي رشيد بلمختار كانت له الشجاعة للحديث لأول مرة عن ” أزمة للتعليم في المغرب “( معالم تربوية –عدد 8 ص 10) . هذه  السنة (2014 ) كذلك حملت معها رحيل الأب الروحي للسوسيولوجيا المغربية د. محمد جسوس الذي ألهم كثيرا من الأبحاث والدراسات حول المنظومة التربوية ، وهو الذي اعتبر أن التعليم يعد ” العلبة السوداء ” للمجتمع حيث يختزن مجموعة من المعطيات المصيرية والتي يمكن دراستها منذ بدايات التشكل  ثم أثناء انتقالها الى الظاهرة القابلة للدراسة والبحث ( عالم التربية، عدد 1/1996).

هذان المؤشران الزمنيان أفضيا بنا الى التأمل في حدثين بسيطين حملتهما قصاصات الأخبار وعالجتهما إعلاميا الصحافة الوطنية بكل حواملها .                                                                                الحدث الأول : إحراق مدرسة الحريشة بأولاد تايمة بنيابة تارودانت  وكانت الوقائع كالتالي :  

ابتدأت الفكرة   في رأسي طفلين اثنين ،أحدهم  من ذوي السوابق ويبلغ 13 سنة من العمر ، سبق له أن قام بسرقة عدة حنفيات من مدرسة الحريشة بمعية صديق لهما وقاما بالاتصال  بالقاصر الثالث  وتلميذ رابع   يبلغ 18 سنة كان يدرس بالمستوى السادس ابتدائي . وكانت الخطة اقتحام المؤسسة وسرقة الحنفيات . وفي طريقهم لتنفيذ الخطة التقوا تلميذا آخر طرحوا عليه الفكرة ، لكنه رفضها جملة وتفصيلا ، وقامت المجموعة بتسلق عمود كهرباء محاذي للمدرسة ولسورها ، وعندما وجدوا أنفسهم داخل المدرسة اكتشفوا عدم وجود الحنفيات ، فقاموا بتكسير زجاج نافدة أحد الأقسام واقتحموه ليسرقوا بعض الأشياء ومن بعد عبثوا بمحتويات خزانة مدرسية، وعندما اكتشف أحدهم دفترا قديما له لازال في الخزانة قاموا بإحراقه ثم  بإضرام  النار بواسطة ولاعة وجدوها في القسم لتنتقل النيران من الخزانة الى الخيوط الكهربائية ليقع تماس كهربائي ولتندلع بعد ذلك النيران في بقية الأقسام ،ومن تم هربوا. وعند اعتقال الجناة عثرت الشرطة على  المحجوزات  التالية : عدة أقلام جافة 2 لعب أطفال ،الة حاسبة ،ولاعة.          

الحدث الثاني :قيام أساتذة بالتشهير بزملائهم/ن الذين اجتازوا مباراة للترقية .

نظمت وزارة التربية الوطنية مباراة انتقائية في مختلف الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين للترقية بناء على الشهادات الجامعية . وقد تزامن ذلك مع احتجاجات أساتذة يطالبون بالترقية المباشرة . وفي خضم هذا الصراع تفتقت موهبة بعضهم  بتصوير زملائهم وزميلاتهم بواسطة الهواتف ووضعها على الشبكة العنكبوتية مصحوبة بتعليقات مكتوبة ومسموعة تشهر بهم وتخونهم وتحط من كرامتهم بشكل جد مقزز…  لأنهم قبلوا اجتياز المباراة . وقد كان لهذا الحدث تأثير بالغ على الذين شهر بهم وكذا على المقبلين على اجتياز المقابلات .                   

بغض النظر عن الموقف من الحدثين وحيثياتهما ، اخترنا أن يكون تناولهما في سياق تحليلي عام يلقي الضوء على الوضع الذي وصلته المنظومة التربوية أملا في استعادتها لعافيتها . بالنسبة للحدث الأول يحيل على استفحال ظاهـرة الهدر المدرسي والذي تناوله أكثر من تقرير تشخيصي : حيث أن المنظومة أصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بالتلاميذ لإتمام مشوارهم وولوجهم عالم الشغل . فتلاميذ في سن 13/16/18 سنة هم تلاميذ هذه المؤسسة الذين لفظتهم بدون تأهيل مهني ،أحدهم من ذوي السوابق والآخرين دأبوا على سرقة الحنفيات من المؤسسة وهم جزء من 400 الف تلميذ يلقون نفس المصيرعلى الصعيد الوطني( المجلس الأعلى للتعليم – تقرير سنوي 2008 – ج 2). هذا الفعل الذي يصنف ضمن تخريب ممتلكات عامة والسرقة الموصوفة يحيل أولا على السلوكات اللامدنية التي يمارسها هؤلاء التلاميذ وفشل المناهج والبرامج التربوية على غرس قيم المواطنة والمحافظة على المرفق العمومي أو على الأقل أملاك الغيركما أن هؤلاء التلاميذ ينتمون الى جيل الإصلاح التربوي الذي كان من عناوينه الكبرى المراهنة على التلميذ/ة كمحور للعملية التربوية وعلى قدرة المناهج والبرامج الجديدة الفعل المباشر في التربية على القيم وبث السلوكات الإيجابية. إذن فمنتوج هذه المدرسة يتقن استباحتها وممارسة العنف المادي والرمزي عليها حد الإحراق .ثم يحيل أيضا على اهتراء وضعف البنيات التحتية المدرسية على مستوى الأسوار والأبواب والأقفال والمراحيض والحراسة …  والتي جاء البرنامج ألاستعجالي بحزمة ملاييره لإصلاحها ،ويأتي حادث مدرسة الحريشة ليفضح هذا الواقع بدون حاجة الى افتحاص ولجان تدقيق الحسابات …يظهر الحادث كذلك الإهمال والتهميش الذي يطال بنايات المؤسسات التعليمية والتي يتواجد أغلبها في أماكن مهجورة وبعيدة عن مراقبة المجتمع . فإذا كان تلاميذ/ات السبعينيات والثمانينيات يحولون أجسادهم الى دروع بشرية لمنع قوات الأمن من انتهاك حرمة المؤسسة التعليمية مؤمنين بأن مكان تلقي العلم له حرمة مثل المسجد . فإن هذه العينة التي أحرقت المدرسة مستعدة لتسلق السور وإضرام النار في الدفاتر والسبورات والمقاعد والطباشير والأقلام و..و..والتي هي أدوات محاربة الجهل واللاأخلاق .

أما الحادث الثاني فيحيلنا على تحليل بنية أخرى تتمثل في مسار القرار التربوي على مستوى الوزارة الوصية وبنياتها المحلية ، ذلك أن هذه المباراة ، بغض النظر عن مشروعيتها والموقف منها، هي ناتجة عن الارتجال والتخبط الذي تلى مباراة ولوج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين والتي أفرزت مجموعة من الاحتقانات ، لسبب بسيط هو عدم ضبط شروط اجتياز المباراة والآثار الجانبية التي يمكن أن تترتب عنها . يبين الحادث كذلك المعضلة التي تتمثل في تدبير الموارد البشرية : بعدم ضبط الخصاص ولا الوفرة ضمن الخريطة التربوية الوطنية . فهذه الموارد تتحكم فيها عوامل غير مفهومة مما يفرز الفائض الغير مشغل، والخصاص الذي يضرب مبدأ تكافؤ الفرص ، بل والموظفين ألأشباح أحيانا . ليكون الخاسر الأكبر التلميذ/ة  مباشرة ،والمجتمع  كله من خلال هدر المال العام .ثم يكشف الحدث كذلك عن  المستوى الذي وصله تدبير المسارات المهنية في القطاع فكيف يعقل أن يتحول استاذ/ة للسلك الابتدائي أو الإعدادي اجتاز مقابلة شفوية من 45 الى 50 دقيقة بدون إطار مرجعي الى أستاذ/ة للتعليم التأهيلي سوف يكلف بمستويات التأهيلي في شتنبر القادم بدون تكوين ولا تدريب على المنهاج والطريقة وأساليب التقويم و.و.و.. التي يتم الاشتغال بها في الثانوي التأهيلي . تكشف الوقائع أيضا المستوى الذي وصلت إليه شريحة من المدرسين/ات في علاقتهم بزملائهم ، المنتمون  لجسم واحد يشكل صفوة الصفوة في المجتمع . فإذا كان مدرسوا/ات الماضي يعتبرون المساس بأحدهم خطا أحمر ويمكن أن  يفدوه بأرواحهم ، كما وقع بالفعل أثناء الاحتجاجات والمتابعات التي طالت المدرسين خلال سنوات الرصاص . فكم منهم فقد منصبه أو أعتقل دون أن يؤدي به التحقيق الى (( حرق )) زميل له، أي الاعتراف بمشاركته في أنشطة كانت تعتبر محظورة آنذاك .وإذا كانت هذه العينة تتعامل بهذا المستوى مع رفاق له/ن في المهنة ، فكيف سيتعاملون مع تلاميذ/ات ينتظرون منهم غرس القيم الايجابية ؟ لعل التحليل  السيميائي للصور المعروضة على المواقع الاجتماعية وقراءة مستوى الخطاب المصاحب لها ليحيل فعلا الى مقولة المربي/ة الذي يحتاج الى  تربية ، فقد سب زملاء وقدفت محصنات بأنذل النعوت ، وشهر بهم/ن لا لشيء إلا أنها/ه فضلت اختيارا دون آخر . فهل يمكن أن يثني هذا الأمر مدرس/ة قطع مسافات لاجتياز المباراة؟     

  بناء على هذا التحليل يبدو أن الحديث عن أزمة المنظومة قد تجاوزناه بكثير . فهذه المنظومة –للأسف – أصبحت تنتج عوامل دمارها الداخلي – بتحليل الراحل جسوس – وأضحت في هاتين الحالتين أعلاه تنتجان الاحتراق الذاتي المادي والمعنوي : فبالنسبة للحالة الأولى فإن التلميذ عندما تعرف على دفتره القديم في خزانة القسم قام بإشعال النار فيه لكي يمحوا/ يحرق ذاته وانتمائه للمدرسة، ومنه انطلقت النار التي حولت المدرسة الى هشيم محترق : أي رمزيا من الذات الى الموضوع /المدرسة. وفي الحالة الثانية فالسب والشتم في العامية المغربية يعبر عنه بفعل            (( الحرق )) وإن هؤلاء المدرسين /ات الذين سبوا وأهانوا زملائهم /هن مارسوا”ألحرق”على الذات ولم يتركوا للمجتمع أي أمل في الثقة فيهم من أجل  تأمين عبوره من الجهل الى نور العلم . بقي لنا أن نشير  الى أن تلاميذ الحريشة قد اعتقلوا بناء على إفادات زميل لهم لم يقتنع بفكرة انتهاك حرمة المدرسة . وأن عددا من الفاعلين التربويين من أطياف مختلفة شجبوا سلوك زملائهم مما أدى الى سحب الصور من المواقع الاجتماعية ، هاتان الإشارتان تشعلان شمعة مضيئة وسط العتمة السميكة لإحياء الأمل على انقاذ المنظومة اعتمادا على بعض البذور النافعة المتناثرة هنا وهناك .     

 

(*) كاتب وباحث في علوم التربية     

 

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،