في الذكرى الأولى لرحيل الدكتور سالم يفوت.. حين يُقزَّم الكبار ويُعملَق الصغار

في الذكرى الأولى لرحيل الدكتور سالم يفوت.. حين يُقزَّم الكبار ويُعملَق الصغار

- ‎فيرأي
468
0
unnamed
اشتغل في صمت ورحل في صمت

بعد مضي سنة كاملة على وفاته (14 شتنبر 2013)، يمكننا التسجيل أنه باستثناء ثلة من زملائه وبعض تلامذته، لم يلتفت أحد إلى رحيل سالم يفوت أحد أعمدة الفكر الفلسفي المغربي المعاصر، أو قل إن هذا الرحيل لم يشكل حدثا هاما أو مادة دسمة للإعلام المغربي بمختلف أصنافه (المكتوب والسمعي البصري…)، هذا في الوقت الذي عهدنا في هذا الإعلام السخاء الكبير حينما يتعلق الأمر ب”أقزام” حقيقية في حالات عدة، إذا ما شئنا مقارنة قاماتها بفقيدنا المفكر الذي كرس جهودا مضنية في سبيل بناء صرح العمارة المغربية الحداثية من جهة الفكر العقلاني النقدي الذي أكسب بلدنا وجها ثقافيا مشرقا سواء في بلاد المشرق أو المغرب، لا سيما وهو الفيلسوف التنويري الذي خدم الفكر المغربي خدمة العالم الصارم الزاهد في كل شيء تقريبا؛ صحيح أن الفقيد يفوت، وعلى غرار طباع الفلاسفة، لم يكن ليعير اهتماما لما يدخل عنده في باب الشكليات التافهة والسلوكات السطحية العديمة المعنى والجدوى، علما أن لحظات العشق الأبدية التي يستعذبها الفيلسوف هي لحظات التأمل والتوجع المبدع حين يكون الناس غارقين في نومهم العميق، بل إن قدر الفيلسوف أن يستطيب العزلة في الحياة كما في الممات؛ لكن ما الذي يمنعنا من إيفاء أمثال هؤلاء الوجوه حقها في التقدير والتكريم المستحقين بكل تأكيد ؟ وما الذي يمنعنا من تكريس مثل هذا الوجه المغربي كقدوة لناشئتنا وأجيالنا اللاحقة ؟

إنه يحز في أنفسنا أن نجد رجالا من طينة هؤلاء العلماء الشرفاء ولا نكلف أنفسنا حتى عناء دعوة الأجيال لاتخاذهم قدوة في حياتهم، سيما وأنه خلال عقود كاملة من التدريس والتأليف قدم سالم يفوت صورة نموذجية لأستاذ الفلسفة الكفء والصارم والجدي في فكره وسلوكه؛ والحال أننا (كطلبة تتبعنا خطواته العلمية عن كثب في مرحلة زمنية محددة) نجد صعوبة بالغة في تذكر الفقيد وهو يضحك أو يبتسم حتى، إذ كانت قسمات وجهه المتجهمة دوما توحي بمزاج غير رائق وتجعل منه شخصا مهاب الجانب من لدن كافة الطلبة، إلى درجة أنه نادرا ما تجرأ الطلبة على فتح حوارات أو نقاشات في حضرته، في وقت يؤكد فيه المقربون منه بأنه كان طيبا للغاية ولا يرد طلب أحد، لا سيما عندما يرتبط الأمر بما له علاقة بالبحث العلمي والمعرفي؛ وربما نتيجة لذلك، ظلت صورته نقية من غير خدوش وفي حِلٍّ من كل الشبهات التي كانت تعلق بأعناق بعضهم.

وفي ذات السياق، تحضرنا حادثة نحب إشراك القارئ في رواية بعض تفاصيلها، علنا نتمكن من تقريب هذه الشخصية أكثر لمن لم يتعرف عليها قيد حياته… كان ذلك في أواسط التسعينات من القرن الماضي، حين أقيمت ندوة بالرباط حول موضوع “الفلسفة والتسامح” من تنظيم الجمعية الفلسفية المغربية (وكان الفقيد أحد أعضائها الفاعلين) بتنسيق مع الجمعية الفلسفية الفرنسية وتعاون مع منظمة اليونسكو؛ وخلال هذه الندوة التي جمعت كوكبة من المفكرين المغاربة والأجانب، في إطار التلاقح الثقافي والحوار الفكري، وطوال المدة التي استغرقتها أشغال هذه الندوة، طفت على السطح مشكلة سيدة (لا يهم من تكون بالضبط) تدعي أن الفلسفة “خرجت من ضلعها”، فلم تترك فرصة من دون أن تتدخل في كل شيء، مما جعل سلوكها سلوكا منفرا ومتطفلا من دون شك، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الحاضرين، ومنهم بالخصوص الراحل سالم يفوت الذي أغضبه الأمر أيما غضب، بحيث لم تفلح نظراته المسننة التي كان يوجهها صوب هذه السيدة كل مرة بغاية الكف عن رعونتها، فكان أن دنا منها في ركن خارج قاعة المحاضرات، وانفجر في وجهها قائلا: “غبري وجهك علينا.. راك شوهتينا… سيري بحالك هادشي مشي ديالك…” !!

الواقع، أن فقيدنا يومئذ لم يتطاول على حق المعنية، بل تصرف وفق سجيته المجافية للعبث ساعة الجد، وقد كان سلوكه نابعا من تقديره لمسؤوليته في إنجاح “العرس” الفكري المغربي أمام ضيوف مفكرين من العيار الثقيل لا تغفل عيونهم عن التقاط “الشاذة والفاذة”، وكذا حرصه على ألا يظهر المغاربة في أعين أولئك الأجانب الذين كانوا حاضرين وقتئذ مجرد “حملان” وديعة لا تتقن سوى الابتسام في وجوههم وحمل حقائبهم وسكب الشاي في كؤوسهم… ومن ثم غير قادرين على إبداع وإنتاج المعرفة الفلسفية والعلمية… وطبعا فهذه هي أخلاق الفلاسفة المخالفة لما جرت به العادة عند جمهور المتحذلقين المنافقين.

وعليه، نرغب في لفت انتباه المدبرين والفاعلين والمهيمنين على الشأن الثقافي والإعلامي المغربي ليفكروا مليا في الأسس التي ينبغي أن تبنى عليها ثقافة المغاربة المشكِّلة لمستقبل وطنهم، وذلك بأن يختاروا بين صورتين أو نموذجين متناقضين: نموذج الفقيد سالم يفوت ومن سار ويسير في فلكه، من قبل ومن بعد، من الوجوه المغربية الكثيرة التي شرفت وتشرف المغاربة في كل زمان ومكان ؟ أو نموذج أصحاب “الشفوي الخاوي” من المتحذلقين الذين باتوا يملأون مختلف الفضاءات بضجيجهم الذي لا يُظفر من ورائه بشيء يذكر.. فتراهم يفتخرون بزعيقهم ويتبجحون بحديثهم عن غير علم، ويتباهون بادعائهم ما ليس فيهم.. وبما لا يملكون…؟

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت