ناصر المنجي / كاتب من سلطنة عمان
في قديم الزمان حدث أن المجاعة أهلكت الزرع والنسل، أصبح وجه الأرض قفى” للموت، القحط سيد الأرض جميعها، لم يكن في صحة جيدة من مخلوقات الله سوى الشيطان، الذي قام يبكي ويرثي كل من يموت من الجوع أو الأمراض، فمن سيغوي الشيطان إن لم يبقى على الأرض كائن .. هل سأغوي نفسي؟! .. هكذا تساءل، كائنات كثيرة أنقرضت جوعاً وعطشاً والشيطان يندب حظه إنقراضاً تلو الإنقراض. وبينما الشيطان يتفكر، كان كبير الذباب قد قرر أن ينتحر هو وأفراد رعيته بأن يلقوا بأنفسهم في البحر جميعاً هرباً من الموت جوعاً ذبابةً ذبابة، الذباب في تلك الفترة كان من الكائنات الجميلة كالطاؤؤس ومحبوبةً من مخلوقات الله جميعها حتى ليقال أن حتى الصخور تحبها، وافق الجميع على أمر كبيرهم بأن يموتوا جميعها غرقاً وأرتواءً من البحر لا جوعا وعطشاً على الأرض الفقيرة، طاروا جميعاً للبحر مودعين الحياة وجوعها. في الطريق صادفهم الشيطان الذي يأكله هّم فناء من على الأرض، سأل الشيطان كبير الذباب: – إلى أين أنت متوجه بالذباب؟فأجابه كبير الذباب ودموعه تروي قحط الأرض الثكلى:- كل الكائنات تهلك من العطش والجوع ..الإنسان .. الحيوان .. الطيور .. النبات .. كل الكائنات ..يقتلع عيّنيّ أن أرى أفراد شعب الذباب يحتضر، لذا قررنا الانتحار جميعاً في البحر في نفس اللحظة حيث سنموت دون أن يتسنى للآخر أن يحزن أو يبكي على موت أخيه الذباب ولا توجد طريقة أذكى منها للموت.
نظر الشيطان الى عيني كبير الذباب الحزينتين وقال : يا سيدي يا كبير الذباب .. ما هذه الزندقة التي تتفوه بها، الخير موجود وكثير، وما عليك سوى التفكير والغذاء والطعام ما عليك سوى أن تبحث عنهما، لا أن ترمي بعرشك وشعبك إلى التهلكة، وإذا فُني الذباب من على الأرض فسيتسارع فناء الكون لأنكم محبوبون من الكائنات جميعاً، ومن لم يقتله القحط الحالي سيقتله الحزن جراء فقدكم ، لذا فكّر في بقية الكائنات التي تحبكم وماذا سيحدث لها جراء إنتحاركم .. سيدي ..، أرجوك .
نظر كبير الذباب لشعبه المحبوب، ونظر للشيطان الحكيم سأله : أين المأكل والمشرب، وهل سيعجب بقية الكائنات التي تحبنا أن يموت الذباب بالعذاب جوعاً. أجابه الشيطان بقلب أخٍ محب: سيدي أنظر للكون وسترى الخير .. أنظر لذلك الطفل الذي يستيقظ الآن من نومه .. أنظر إليه ما على ذبابة من رعيتك إلا أن تأكل من القذى المتساقط من عينيه وستشبع،،.. وإذا ما قضى ذلك الطفل حاجته فعلى ذبابة جائعة أن تحوم وتقتات من بقاياه … أو أن تشرب من مخاطه قليلا وسترتوي .. صحيح أن الطفل سوف يتضايق ويبكي وهو يهش الذباب عن عينيه وأنفه، ولكن الذباب سيأكل وأيضا سيساعد في غسيل عيني وأنف ومؤخرة الطفل، أنتم معشر الذباب قوم محبوبون جداً من الكائنات جميعاً فلا تحرموا الكائنات منكم وإن أكلتم القاذورات فأنتم تضحون ببعض جمالكم لتبقوا أحياء وتسلون الآخرين، لا تظن الطفل يتضايق بل أنه سيلعب معكم، وإذا ما رأيتم حيوان ما فمارسوا معه نفس اللعبة، وأذهبوا للمزابل لا لتأكلون فقط بل لتنبهون الكائنات جميعا بأنكم تنظفون الأرض كي لا تزيد وساختها وتنقذونهم من الأمراض، وإذا كنتم الآن محبوبين فغداً ستكونون محبوبين أكثر لا عندما تنتحرون.
الشيطان ساق ألف سبب وسبب لكبير الذباب مقنعا أياه بعدم الإنتحار غرقا مع أفراد رعيته، وبالفعل بكلام الشيطان، وأكل الذباب وشرب من وصفاته.. قذىً ..قاذورات، بقايا آدامية، ولكن تلقائياً تحول حب الكائنات للذباب إلى بغضٍ شديد، وأصبح الذباب ملاصقاً لجميع الكائنات ولكنه مكروه أينما حل وأرتحل وطار، ولا يستطيع كائن أن يذهب لأي مكان ليقضي حاجته دون أن يفاجأ بأن الذباب وصل قبل وصول الحاجة، وتبدلت الأزمان والأحوال وما مات في الأرض شيئاً أو وُلِد إلا وكان للذباب منه نصيب، عندما لا يجد الذباب شيئا كان يفكر وهو يتذكر الشيطان: هل سيأكل الذباب من جسد الذباب بعد أن تفنى الكائنات؟ بعدها بآلاف السنين مرر الإنسان سلاحه، أطلق طلقات كثيره ، ولكنه لم يصب شيئاً، لأن كل كائنات الأرض قد ماتت أو قُتلت، صرخ فلم يهرب أحد فلا احد سواه في الكون .. نظر الإنسان حوله، بحث عن الشيطان فلم يجده، بحث عن الموت وعن الحياة فلم يجد سوى السلاح وذبابة واحده أدمنت أكل القذارة..وكانت تلك الذبابة من أحفاد الجوع الدائم بقيت في الكون لتهرب من ذلك الإنسان، يطاردها ليستأنس بها عن وحدته هي التي ظل يكرهها وأجداده، لكنها تهرب بجوعها عن فضلاته وجروحه، وكان الإنسان أول وآخر وجبةٍ عافها الذباب، خاف من أن يبقى وحيداً في هذا الكون، طاردها وهي تفضل الموت على أن تأكل من فضلاته أو ترتوي من دموعه المسكوبة على وحدته. ماتت، ورأى نفسه وحيدا في الكون صارخاً: أينك .. أينك يا إسرافيل.
* إسرافيل عليه السلام – الملاك المكلف بنفخ الصور يوم القيامة.
تعليق واحد
شريفه
استمر