محمد أولـوة*
يحل الثامن من شتنبر، اليوم الدولي لمحو الأمية هذه السنة في ظل وضع صحي مفاجئ الذي أرخى بظلاله على العالم أجمع بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد. ما جعل العالم يخلد هذا اليوم من عام 2020 مركزا على موضوع “محو الأمية تعليما وتعلما في أثناء كوفيد-19 وما بعدها”، وخاصة محو أمية الكبار والحرص على مواصلة تعلمهم مدى الحياة. وهي فرصة للوقوف على ما تحقق في مسيرة القضاء على الأمية الهجائية التقليدية والرقمية، واستلهام الدروس التي غمرتنا بها “كورونا”، حيث لا مستقبل لبلدان تتفشى فيها الأمية بكل أنواعها، خاصة وأنه لم يعد تعريف محو الأمية مقتصر على عدم القراءة والكتابة فحسب، بل اتسع مع تطورات العصر واحتياجاته ليشمل الأمية الإلكترونية. كما يعد أيضا هذا اليوم مناسبة لاستشراف الآفاق المستقبلية في إطار مواصلة العمل الدؤوب لشحد الهمم وتقوية الإرادة المجتمعية، ومضاعفة الجهود الكفيلة باجتثات آفة الأمية وتجفيف منابعها ومحاصرة “جائحة” الجهل التي تعتبر أخطر من كل أنواع الفيروسات، لأنها تقتل الشعوب وتفتك بمستقبلها. وتفاعلا مع موضوع اليوم الدولي لمحو الأمية لسنة 2020، وما يسم ظرفيتها الوبائية الاستثنائية، فقد أبانت جائحة كوفيد-19، عما لآفة الجهل والأمية من خطورة في زمن الكوارث والجائحات، بحيث يقف الجهل حائلا أمام كل محاولات الوعي الصحي والفهم العلمي لها ولآثارها الفتاكة، والاقتناع بوجود المرض وخطورة تداعيات انتشاره، فيقع الإنسان فريسة التضليل والإشاعات والخرافة التي يتخذها ملاذا، ناهيك عما تشكله الأمية من بيئة مشجعة للتهور وللسلوكات الشادة المتمردة على قانون الطوائ الصحية، وللاستهانة بمخاطر الوباء والاستخفاف بالتدابير الوقاية والتعليمات الاحترازية لمنع انتشار الفيروس… واعتبارا أيضا لما لمحو الأمية من أهمية لتحقيق التنمية البشرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية فقد جعلت منها الأمم المتحدة قضية تشكل عنصرا جوهريا في أهدافها للتنمية المستدامة.
وفي هذا السياق فقد سجل اليوم الدولي لمحو الأمية في عام 2020، أن أزمة جائحة كوفيد-19 قد كشفت عن التباين الكبير بين الخطاب الرسمي وحقيقة الواقع القائم أصلا قبل الجائحة على مستوى التعاطي مع تنزيل برامج محاربة الأمية والذي لا يرقى إلى ما هو مأمول للقضاء على هذه الآفة.
وتزامنا مع اليوم العالمي لمحو الأمية، عقدت الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية دورة مجلسها الإداري السنوية السادسة يومه الثلاثاء 08 شتنبر 2020، تحت رئاسة رئيس الحكومة، بصفته رئيسا للمجلس الإداري للوكالة، حيث تمحورت أشغال هذه الدورة حول اختتام الموسم القرائي 2020/2019 وتقييم حصيلته، وانطلاق الموسم القرائي 2021/2020، وفق تطوات جائحة كورونا وما تقتضيه من تدابير وقائية واجراءات احترازية ضمانا لصحة وسلامة المستفدين والمكونين، وتقديم برنامج عمل الوكالة للفترة الممتدة ما بين سنة2021 وسنة 2023، كما وقف أعضاء المجلس عند مختلف أنشطة الوكالة برسم الموسم القرائي المذكور مشيدين بتنوع إنجازاتها ومنوهين بغنى حصيلتها، المتمثلة، على سبيل المثال لا الحصر، في تجاوز المليون مستفيذ(ة) من برامج محو الأمية، وتزايد أشكال الشراكة والتعاون الدولي من خلال مواصلة إبرام اتفاقيات شراكة مع الجمعيات والمجالس المنتخبة والمنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية بالقطاعين العام والخاص، كأطراف مساهمة لتنزيل استراتيجية الوكالة وبلوغ أهدافها. كما اتسم هذا الموسم بدينامية جديرة بالتنويه على العديد من الواجهات. فبالموازاة مع مواصلة التفعيل لآليات اللاتمركز الإداري بإرساء هياكلها مركزيا وجهويا وإقليميا، ساهمت الوكالة بتنسيق مع شركائها الوطنيين والدوليين وجمعيات المجتمع المدني في إنجاح مجموعة من المبادرات، من ضمنها تنظيم ندوة دولية حول التجديد في مجال محاربة الأمية من أجل الارتقاء بالتعلم مدى الحياة، وندوة وطنية حول إدماج مقاربات حقوق الإنسان في برامج محو الأمية، وندوة حول مشروع “مدن التعلم”، وأخرى تحضيرية لانضمام 04 مدن مغربية لشبكة اليونسكو العالمية “لمدن التعلم”، وإطلاق مركز الموارد والخبرات لمحو الأمية، واحتضان لقاء دولي للإعلان عن الانطلاقة الرسمية لمرصد التعلم مدى الحياة، بالإضافة إلى انخراط الوكالة في ورش التحول الرقمي، وتنظيم ورشات عمل تقنية تهم البحث الإجرائي حول قياس تعلمات المستفدين من برامج محو الأمية، وأخرى خاصة “ببناء الفريق” لتعزيز الانسجام وروح التعاون بين أطر ومستخدمي الوكالة. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى اختيار المغرب، بفضل جهود الوكالة، لاستضافة النسخة السابعة من المؤتمر الدولي لتعليم الكبار 2022، كحدث عالمي يتم خلاله تبادل التجارب الدولية في مجال تعليم الكبار والتعليم مدى الحياة, وإلى انضمام الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية للجنة الوطنية لتتبع ومواكبة إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وتعزيزها لتركيبة اللجنة الدائمة لدى اللجنة الوطنية لقيادة الإطار الوطني للإشهاد… وعقب مناقشة أعضاء المجلس للعروض المقدمة أمامهم وتداولهم في مختلف التوصيات والمقترحات، صادق المجلس بالإجماع على ميزانية الوكالة برسم السنة المالية 2021، والبيانات المتعدد السنوات وكيفية تمويل برامج محاربة الأمية للفترة الممتدة ما بين سنة2021 وسنة 2023، كما صادق على مسطرة الشراكة مع هيئات المجتمع المدني، وعلى مشاريع العديد من قرارات الدورة السادسة للمجلس، واتفاقيات الشراكة الموقعة من طرف الوكالة .
هذا، وقد توقفت العروض والمداخلات خلال اجتماع المجلس الإداري للوكالة عند جانب من تداعيات جائحة كوفيد-19 وما كان لها من تأثيرات سلبية على العملية التعليمية في مجال محو الأمية، جراء إغلاق المراكز كتدبير وقائي واحترازي لتجنب تفشي هذا الفيروس. ولعلى من بين الدروس الواجب استخلاصها من ذلك هي الحاجة الملحة إلى اعتماد خيارات تعليمية نظيرة للتعلم الحضوري وإبداع أنماط تعليمة مكملة له، وإلى تطوير استخدام التكنولوجيا الرقمية كوسيلة موازية لتنفيذ أنشطة وبرامج محاربة الأمية عن بعد، كآلية ضامنة للاستمرارية الأندراغوجية ومكملة للدروس الحضورية وليست بديلا لها، على اعتبار أن التعليم والتربية عميلة تواصلية بامتياز ولا تقبل أن تكون افتراضية بالكامل، لأن العملية التواصلية تفترض التماس الصوتي والبصري والفيزيقي والوجداني ليقع التفاعل المباشر ويحصل التلقي المناسب بمختلف الجوارح والملكات. ولكي يضطلع هذا الأسلوب التعليمي المستجد بما هو موكول له لإسناد العملية التعليمية الحضورية بشكل فعال، وارتباطا كذلك بالأدوار التي يضطلع بها المكونون والمكونات على مستوى تعليم الشباب والبالغين واستدامة التعليم مدى الحياة، كما جاء في موضوع اليوم الدولي لمحو الأمية هذه السنة، فالأمر يقتضي بالطبع التكوين الناجع، الفعال والمستمر للأطر قصد تمكينهم من الكفايات والقدرات والمهارات البيداغوجية والمؤهلات للتعامل مع هذه الفئة الخاصة من المتعلمين الكبار، ولإعدادهم لمواجهة المستجدات المفاجئة والتأقلم مع الطوارئ غير المسبوقة وبناء قدراتهم على الصمود في وجهها، كما هو الحال مع وباء كوفيد-19 وما تطلبته من إجراءا ومبادرات لاحتواء أثار التوقف المفاجئ للعملية التعليمية الحضورية لمحو الأمية. وهذا يستوجب من بين ما يستوجبه، الرفع من ميزانية الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية والإنفاق بسخاء على تطوير استراتيجيتها وتجويد مناهجها، وتوفير الأدوات والوسائل الكفيلة بتمكينها من إدماج التعليم الإلكتروني الرقمي في منظومتها التعليمية، وإنتاج عدة بيداغوجية متجددة ومواد تعليمية تفاعلية للدارسين بأقسام افتراضية لمحو الأمية، وابتكار طرق ومنهجيات فعالة في التدريس وتدريب المكونات والمكونين على استخدام تلك التكنولوجيا بفصول محو الأمية وتعليم الكبارعن بعد، وتمرينهم على الطرق المناسبة لإعداد الدورس وعلى تحديد الأساليب التي تتناسب مع المستفيدات والمستفدين، وعلى منهجية فتح الأقسام الإفتراضية لبث لتلك المواد التعليمية المنتجة سواء عبر منصة رقمية تستخدم على الهواتف الذكية أو عبر الموقع الرسمي للوكالة أو عبر مختلف الوسائط الإلكترونية وأرضيات المشاطرة بما فيها القنوات التلفزية…
وفي هذا السياق، تجدر الإشادة بما أبان عنه وجسده أطر الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية من إيمان عميق بقداسة رسالة محاربة الأمية، وروح المسؤولية المواطنة والتضحية التي يتحلون بها كعادتهم في جميع الحالات والظروف، عادية كانت أو استثنائية، بحيث قامت الوكالة بعمليات التسجيل التلفزي لحصص دروس محو الأمية وما بعد الأمية عن بعد وفق القواعد والمعايير التربوية المطلوبة، وأطلقت بثا للبرنامج التلفزي لدروس محو الأمية “أجي نتعلمو”، إضافة إلى ما قامت به أطر الوكالة مركزيا وجهويا من مجهودات جبارة بكل تلقائية وطواعية، لإنتاج موارد رقمية ودروس مصورة وإبداع آليات للتواصل، من أجل تمكين المستفيدات والمستفيدين من استمرار تحصيلهم التعلمي عن بعد خلال هذه الظرفية العصيبة، تفاديا لأي تأثير سلبي على المكاسب التي تحققت في مجال محاربة الأمية وتعليم الكبار. فبالرغم أيضا من التهام كورونا لما تبقى من الموسم، فإن النسبة الكبيرة من البرنامج القرائي قد تم إنجازها، كما سيتم استكماله مع استئناف دروس برامج محاربة الأمية حضوريا ابتداء من 13 أتوبر 2010، بالتدرج حسب الوضعية الوبائية بكل منطقة، مع اعتماد صيغة التفويج وحصر العدد في 10 مستفيدات ومستفدين في القسم الواحد قصد الاستدراك وإنجاز حصص التعلم المقررة والوحدات المتبقية، وتنظيم التقويم النهائي والإشهادي، وذلك بتشارك مع إطارات المجتمع المدني وتنسيق تام مع السلطات المحلية، بالإضافة إلى الاستئناس بالدروس التعليمية المصورة والموارد الرقمية التي توفرها الوكالة، وذلك قبل إطلاق الموسم القرائي الجديد ابتداء من شهر يناير 2021 والذي ستبقى انطلاقته الفعلية رهينة بما قد تفرضه التطورات المستقبيلة لجائحة كورونا في ظل التزايد الحالي لعدد الإصابة بها بشكل مخيف. وبالتالي فالانطلاقة سيتم تحديدها أيضا بتنسيق مع الدوائر المعنية وضمنها السلطات المحلية على ضوء الإجراءات الاحترازية والتدابير الصحية الوقائية الكفيلة بجعل المستفيدات والمستفدين في مأمن من الداء، وبتيسير متابعة تعلمهم في أجواء من الطمأنينة والأمان والسلامة.
وعلى أساس كل ما سلف استعراضه، يمكن القول بأن الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية قد كسبت رهان التعليم عن بعد كصيغة وآلية تعليمية جديدة، كما يمكن اعتبار منتوج أطرها وابتكاراتهم وتجربتهم قبل وإبان الحجر الصحي الناجم عن تفشي فيروس كورونا، أرضية مرجعية للتعلم عن بعد تقتضي الإغناء والتطوير والتجويد المستمر. وقد يكون اليوم الدولي لمحو الأمية فرصة أيضا للتفكير الجاد في وضع إستراتيجية مستقبلية تروم، كما سلف الذكر، طرق ومناهج فعالة للتدريس والتكوين المتجدد والمستمر للمكونين والمكونات وتنمية قدراتهم على مواجهة المستجدات المفاجئة درءا لأي توقف أو تعطيل لبرامج الورش الوطني في مجال محو الامية. ولقد كان أيضا لجائحة كوفيد-19، أثرا إيجابيا في تقوية حافز وظيفي لدى الكبار وترسيخ اقتناعهم بضرورة التعلم لاكتساب المهارات القرائية وبعض المعارف الأولية في استخدام التطبيقات التي تقتضيها الحاجة، كم أن استفادة العديد من الأسر من برامج محو الأمية وتعليم الكبار مكنتها من القدرة، ما أمكن، بمعية أساتذتهم على مسايرة التحصيل الدراسي لبناتها وأبنائها وتعليمهم عن بعد، والذي أصبح بالنسبة إليها تعليما عن قرب، وبالتالي فإن هناك حاجة ملحة إلى تعبئة وطنية قوية لإسناد المهمة الطموحة للوكالة الوطنية لمحاربة الأمية، الرامية إلى تخليص المجتمع من الأمية. وهي المهمة التي تقتضي من كافة مكونات المجتمع الدعم المطلق لعمل أطر الوكالة الدؤوب من أجل ترسيخ الإنجازات الهامة لهذه المؤسسة وإيقاظ الوعي الجماعي لدى الرأي العام الوطني بمخاطر وباء الجهل على الفرد والمجتمع على حد سواء، مما قد يجعل المواطن يحرص على السعي إلى محو أميته.
*(عضو المجلس الإداري للوكالة الوطنية لمحاربة الأمية)