عبد الرزاق القاروني
ويترجل فارس آخر عن صهوة جواده، في غفلة منا، في عز جائحة كورونا، ويسلم الروح لبارئها، عشية يوم الأربعاء 02 شتنبر 2020 بمراكش. إن هذا الفارس هو عبد الجبار الوزير، أيقونة المسرح المغربي وشيخ الفنانين على صعيد الوطن، الذي غادرنا إلى دار البقاء عن عمر يناهز 88 سنة، جراء مضاعفات مرض السكري، وذلك بعد مسار حافل بالعطاء الفني الخصب.
لقد عانى الفنان الراحل من داء السكري، الذي يعتبر داء العصر، منذ سنة 2004 حيث تم اكتشافه لديه، بمحض الصدفة، بواسطة الدكتور منير بازي، أحد معارف الأسرة. ومنذ ذلك التاريخ، وهو يكابر ويقاوم في صمت سطوة وتبعات هذا المرض، لأنه متعود على السرية بحكم تربيته الوطنية في صفوف المقاومة.
وذات مرة، صرح لنا ابنه أحمد، الذي يعتبر الناطق الرسمي باسمه بعد محنة المرض التي ألمت به، أن والده ظل يعاني من هذا المرض الذي يلاحقه مثل ظله، حيث ولج المستشفى بسببه عدة مرات في وضعية صحية صعبة، مضيفا أن وفاة الوالدة رقية القرشي، التي قضت معه 57 سنة من العشرة الزوجية، قد شكلت صدمة قوية ضاعفت من تطور مرضه.
وأضاف أن وفاة الوالدة أحدثت شرخا وفراغا كبيرين في حياة الفنان الراحل، حيث كانت الفقيدة إنسانة فنانة وسنده في الحياة، تسافر معه وتوفر له جميع المتطلبات التي يحتاجها، لكن بفقدانها لم يعد يحلو له أي شيء، مشيرا أن الفنان هو مثل الوردة التي إذا انقطع مصدر تغذيتها تذبل، وأن الوالدة كانت هي تلك الروح التي يتغذى منها معنويا.
وفيما يتعلق بسيرة والده التي ألفها الباحث والصحفي عبد الصمد الكباص، والموسومة بعنوان: “حياة في ثلاث طلقات ونكتة وحلم كبير”، أسر أن أحسن ما قام به هذا الصحفي، الذي يحترمه ويجله كثيرا، هو أنه جالس والده لمدة طويلة تصل إلى 11 شهرا تقريبا، تارة في صالون منزل الأسرة، وتارة أخرى في حديقة المنزل، وتمكن، في آخر المطاف، من إخراج هذا الكتاب الذي قدم فيه نبذة عن المحطات البارزة في حياة الوالد، بدءا بالصناعة التقليدية، ومرورا بالرياضة والمقاومة، وانتهاء بالفن، لكن بقيت بعض الجوانب خفية في هذه السيرة، لم تتطرق إليها، مثل حياته الشخصية والاجتماعية.
وذات مرة، قال الفنان الراحل عبد الجبار الوزير في حق ابنه أحمد، صاحب التصريحات هاته: “من بين كل أبنائي، أحمد هو الأكثر انفتاحا على عالم المسرح، تشرب ثقافته بحكم احتكاكه واهتمامه بالأسئلة الحارقة للفن. يرجع ذلك إلى أيام طفولته، حيث كنت أصحبه معي للتداريب، فعايش عن قرب التفاصيل الصغيرة التي تجتمع لتصنع الفرجة”.
ويذكر أن الفنان عبد الجبار الوزير، ولد سنة 1932 بدرب الكزا بمراكش. وكان في طفولته شقيا جدا، مما جعله يغادر صفوف الدراسة مبكرا، ويعانق عالم الحرفيين، حيث عمل “شكايريا” (صانع الحقائب التقليدية) و”شراطا” (صانع الحبال) ودباغا (معالج الجلود ومصلحها). وفي سن 15 سنة، التحق بفريق الكوكب المراكشي لكرة القدم إبان تأسيسه سنة 1947، حيث لعب في مركز حراسة المرمى بفريق الفتيان.
ويعتبر هذا الفنان من كبار المقاومين ضمن خلية حمان الفطواكي، الذين دافعوا باستماتة عن حرية المغرب، حيث حكم بالإعدام خلال فترة الحماية الفرنسية. وفي سجن لعلو بالرباط، تعلم قواعد الكتابة والقراءة وعلوم اللغة والفقه والاجتماعيات من مقاومين مغاربة كبار كانوا معتقلين معه في ذات الزنزانة مثل العلامة المختار السوسي، ليلتحق بعد ذلك بالقوات المساعدة، قبل أن يتفرغ نهائيا للتمثيل والفن سنة 1961.
وكان أول عمل مسرحي شارك فيه الفنان عبد الجبار الوزير هو مسرحية “الفاطمي والضاوية” سنة 1951، رفقة الفنان الراحل محمد بلقاس، التي عرضت في عدة مدن مغربية، ليشارك، بعد ذلك، في العديد من المسرحيات والمسلسلات والأفلام التي لاقت ترحيبا وإعجابا من مختلف طبقات الشعب المغربي، من قبيل “الحراز” و”سيدي قدور العلمي” و”حلاق درب الفقراء” و”دار الورثة”، إضافة إلى “ولد مو”.
وفي سنة 1957، قدم هذا الفنان المقتدر، ضمن فرقة الأطلس، عرضا مسرحيا مقتبسا من مسرحية “الفاطمي والضاوية” أمام أنظار المغفور له الملك محمد الخامس بقصر الباهية بمراكش. وحضر هذا العرض، أيضا، ولي العهد، آنذاك، مولاي الحسن والأمير مولاي عبد الله، إضافة إلى مجموعة من أعيان الدولة. وعن علاقته بالمرحوم الملك الحسن الثاني، فقد كانت له معه صلات فنية وثيقة، حيث عرض أمامه، ضمن فرقة الوفاء المراكشية، عدة عروض كانت دائما تنال إعجابه.
ومن النصوص المسرحية التي ألفها الفنان الراحل: “دردبة عند الغشيم” و”عطيل بين الحلقة والأوطيل” والمسلسل الإذاعي “كنوز الفضايل”. ومن مجموع المسرحيات التي أداها طيلة مساره الفني الحافل بالعطاء، تبقى مسرحيتا “سيدي قدور العلمي” و”الحراز” هما الأقرب إلى قلبه والأكثر حضورا في ذاكرته. والاسم الحقيقي لهذا الفنان هو عبد الجبار بلوزير، وليس عبد الجبار الوزير، الذي أطلقه عليه الصحفي والفنان إدريس العلام الملقب بـ “باحمدون”، خلال إحدى الجولات المسرحية في ستينيات القرن الماضي.
وفي 15 يونيو 1957، تزوج الفنان الراحل عبد الجبار الوزير من رقية القرشي ابنة أحد أصدقاء أبيه بحي الزاوية العباسية بمراكش، وأحيا حفل زفافه جوق، رفيع المستوى، يترأسه بعض رموز الموسيقى المغربية مثل عبد الله عصامي والعربي الكوكبي، ورزق من هذه الزيجة أربعة أبناء، هم : سعاد، أحمد، محمد وعبد الحكيم. ومن غريب الصدف أن زوجته قد توفيت يوم 15 يونيو 2014، في ذات اليوم الذي يصادف تاريخ زواجه منها !
وأذكر أنه، على إثر بتر رجل الفنان الراحل، جراء مضاعفات مرض السكري خلال سنة 2014، وباقتراح منا، قامت المدرسة المغربية لعلوم المهندس بمراكش، في إطار مقاربتها المواطنة والمنفتحة على المحيط، بتكريم هذا الفنان، يوم السبت 06 دجنبر من ذات السنة بأحد الفنادق السياحية الفخمة بمراكش، حيث تكفلت ببعض مصاريف علاجه، وقدمت له تذكارا يخلد هذه المناسبة، علاوة على شهادة تقدير عرفانا بمساره الفني الطويل الحافل بالعطاء. كما كانت هذه المناسبة فرصة لعرض شريط قصير حول مساره الفني يحمل عنوان: “عبد الجبار الوزير، وزير كل الأزمنة”، الذي يؤرخ لأهم المحطات البارزة في حياته الإبداعية. وقد مثل الفنان الراحل، في لحظة التكريم هاته، نجله أحمد، الذي دأب على تمثيله في مثل هذه المناسبات، بعد محنة مرضه.
وبرحيل عبد الجبار الوزير، نكون قد ودعنا أحد أبرز الأعمدة والأهرامات في المجال الفني والمسرحي المغربي، الذي يشكل رفقة صديقه الراحل محمد بلقاس مدرسة فنية تتميز بالفرادة والطرافة، وتحتاج للتأمل والدراسة، لأنها رغم بساطتها ومحليتها أعطت للفرجة بعدا وطنيا إن لم نقل كونيا.