علي أنوزلا
ألقى الزميل، وائل قنديل، عدة ورود على ما أسماه “الربيع المغربي الصامت”، وهو يتحدث عن الحالة المغربية. جاء ذلك في مقاله “التنظيم الدولي للثورات المضادة”، في “العربي الجديد” في 3 سبتمبر/أيلول الجاري، وخلاصته تريد القول إن هناك ثورة هادئة في المغرب حصلت، حتى قبل هبوب رياح “الربيع العربي”، وإن “التجربة الديمقراطية في المغرب” تواجه، مثل مثيلاتها في دول أخرى استعرضها المقال، “تحرشاً”، تقوده فلول الثورة المضادة وأباطرتها في وسائل إعلام تمهد للانقلاب على “الربيع المغربي الصامت”!
مثل هذا الكلام كثيراً ما نسمعه في المغرب، على لسان أقطاب حزب “العدالة والتنمية”، الذي يترأس الحكومة في المغرب، وهو، بالمناسبة، خطاب تبريري لموقف العاجز، الذي وضع الحزب نفسه فيه، عندما اختار الاصطفاف إلى جانب السلطة القائمة ضد الحراك الشعبي، الذي خرج بتأثير من “الربيع العربي”، ينادي بإسقاط الفساد والاستبداد.
“التكتيك” نفسه الذي اتبعه “الإخوان المسلمون” في مصر، عندما تحالفوا مع “المجلس العسكري” ضد الثوار، وأسقطوا الشرعية الثورية لصالح الشرعية المؤسساتية، نهجه حزب “العدالة والتنمية”، في المغرب، مع التحفظ على فروق القياس بين الحالتين، عندما تحالفوا مع القصر ضد الشارع، ودعوا إلى الإصلاح من داخل المؤسسات، بدل النضال من أجل تغيير المؤسسات الفاسدة نفسها.
مقولة إن النظام في المغرب استبق موجة الربيع العربي بحزمة إصلاحاتٍ وتغييرات جذريةٍ في منظومة الحكم، مجرد فرية كبيرة تروجها الدعاية الرسمية للنظام في المغرب، ظل يرفض إدخال أي تعديل بسيط على الدستور، الذي ورثه الملك الحالي، محمد السادس، عن والده، الذي حكم المغاربة زهاء أربعة عقود بالرصاص والجمر، وعندما نزلت المظاهرات إلى شوارع المدن والقرى المغربية، تطالب بـ “إسقاط الفساد والاستبداد”، اضطر الملك إلى تقديم وعود بإصلاحات دستورية، اتضح، فيما بعد، أنها مجرد إصلاحات شكلية، للالتفاف على مطالب المتظاهرين. واليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على تلك “الإصلاحات”، ما زالت كل السلطات المهمة مركزة في يد الملك، وهذا باعتراف من رئيس الحكومة الإسلامي نفسه، عبد الإله بنكيران، الذي صرح، أخيراً، أن الملك هو من يحكم في المغرب وليس رئيس الحكومة، لأن “الصلاحيات الأساسية للحكم في المغرب توجد بيد المؤسسة الملكية”. وهذا الوضع كان، وما زال، قائماً قبل وبعد وصول الإسلاميين إلى رئاسة الحكومة.
ما حصل هو العكس تماماً، إذ تقوى النظام، واكتسب مناعة أكبر، بعد أن اعتقد أنه نجح في تجاوز العاصفة، وعاد إلى طبيعته القديمة، المتمثلة في التحكم والتسلط، لكن، هذه المرة من وراء واجهة شكلية، الحزب الإسلامي، الذي يقود الحكومة، هو مجرد إحدى ديكوراتها البارزة، بل هو صمام أمانها الذي اختار أداء هذا الدور طواعية. ومن ضروريات الانسجام مع الدور تحمل هجوم نوع من الإعلام المحسوب على السلطة، على الحكومة ورئيسها. وليست هذه هي المرة الأولى، التي يتولى فيها هذا النوع من الإعلام الهجوم على رئيس حكومة، فقد سبق أن تعرض رئيس الحكومة السابق، الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، للهجوم نفسه، عندما كان على رأس الحكومة في بداية الألفية الثانية. فقواعد اللعبة في المغرب تقتضي أن يتجنب الإعلام الرسمي، وشبه الرسمي، انتقاد الملك، الذي يملك مفاتيح السلطة الحقيقية، والتوجه بالنقد إلى “صمامات الأمان”، الذين يقبلون بأن يضعوا أنفسهم كأكياس للملاكمة، لتلقي الضربات وامتصاص الصدمات!
“ما زالت كل السلطات المهمة مركزة في يد الملك، وهذا باعتراف من رئيس الحكومة الإسلامي نفسه، عبد الإله بنكيران، الذي صرح، أخيراً، أن الملك هو من يحكم في المغرب، وليس رئيس الحكومة.
”
فما وصفها الزميل قنديل بظاهرة “العكشنة” موجودة في المغرب، بل، وحتى في إعلامه الرسمي، الذي يقع تحت وصاية رئيس الحكومة ووزيره في الاتصال، فما الذي يمنع رئيس الحكومة ووزيره في الاتصال من التدخل لفرض استقلال هذا الإعلام الممول من دافعي الضرائب؟ فلا يُفهم أن يكتفي رئيس الحكومة ووزراء حزبه بانتقاد انحياز هذا الإعلام، وكأنهم جزء من المعارضة، فيما هم يتحملون مسؤولية الوصاية عليه، وبالتالي، يتقاسمون مسؤولية تجاوزاته!
أما القول إن هذا الإعلام جزء من الثورة المضادة للتمهيد للانقلاب على “التجربة الديمقراطية في المغرب”، فهو كلام يتطلب توضيح الصورة أكثر للزملاء في المشرق. فما يمكن أن نصفه بـ “الثورة المضادة” في المغرب، لم تبدأ اليوم مع وصول أول حكومة إسلامية إلى رئاسة الحكومة، فقد سبق لأول حكومة ترأسها الاشتراكيون، وبإرادة من الملك الراحل، الحسن الثاني، أن تعرضت لـ “المقاومة” نفسها، كما كان يصفها الاشتراكيون. وهي “مقاومة” تحركها الدولة العميقة التي يلخصها مصطلح “المخزن” في المغرب، أي السلطة المركزية التي يجسّدها القصر. والقصر، الذي لا يقبل أن يشاركه أي أحد في سلطته، وبالأحرى مقاسمته هذه السلطة، يسعى، عبر أدوات الدولة العميقة، إلى إفشال كل تجربة في هذا المجال، حتى لو كان هو من يقف وراءها، ويحتاج إليها من أجل بقائه، ليظل هو الملاذ والمُنقد والضرورة التي لا بد منها.
وكان حزب العدالة والتنمية الذي يصور نفسه ضحية لهذه “الثورة المضادة” هو نفسه جزءاً منها، عندما وقف أمينه العام، الذي يترأس الحكومة حالياً ضد الحراك الشعبي في المغرب عام 2011، ووصف متهكما شباب “حركة 20 فبراير” الاحتجاجية بأنهم مجرد مجموعة من “الطبالة والغياطة”، أي، كمن يشبّه ثوار ميدان التحرير بـ “فرقة حسب الله”، لتقريب الصورة أكثر من الزميل المصري.
أما الحديث عن “التجربة الديمقراطية في المغرب”، فهو توصيف نسبي يجانب الواقع، لأنه، في ظل هذه التجربة، ما زال الملك صاحب السلطات كلها، وما زال الشباب الناشطون يعتقلون، وتقارير المنظمات الحقوقية تتحدث عن استمرار التعذيب في المغرب، وأنشطة الجمعيات الحقوقية المغربية والدولية ذات المصداقية تُحاصَر وتُمنَع، ونشطاؤها يتعرضون للتعنيف والمتابعات، ويخضعون لمحاكمات غير عادلة، والحق في التنظيم ممنوع على كل صاحب رأيٍ مخالف لرأي السلطة، وما اسمها الصحافة الحرة تم القضاء عليها بصفة نهائية.
الأكيد أن حزب العدالة والتنمية يتعرض لحملة شرسة من إعلام محسوب على السلطة، يريد إفشال تجربته في الحكومة، لا لشيء إلا لأنه حزب إسلامي، لكنه الذي اختار الاصطفاف إلى جانب السلطة، التي تحاربه اليوم، ضد إرادة الشعب. فهو الذي اختار، وعليه أن يكون مستعدا لتحمل مسؤولية اختياره.
أما مصطلح “الربيع الصامت” فيصلح عنواناً للوحة تشكيلية من الفن الانطباعي، لكنه أبعد ما يكون عن توصيف حالة مغربية معقدة.
العربي الجديد