أنشر اليوم صورة رجل تناسلت حوله الحكايات، بعد أن استفزتني صورته بـ “الكمامة”، لأنها تعبر عن تقاليد المؤسسات “الخرساء”، التي تفرض الصمت والبعد عن الإعلام، وعن عالم الصحافة، وقررت، اليوم، أن أستجمع كل ما أعرف عن رجل لم أعرفه، ولم ألتق به قط في حياتي، لكني سمعت عنه الكثير.
منذ سنوات خلت، وبعد أن حاضرت في كلية الحقوق بالمحمدية، اقترب مني شاب، بعد نهاية الحصة، ليسألني. سأل أستاذه عن درس مطالب باستيعابه في أفق الامتحانات.كان الشاب لطيفا جدا، فسألته عن أصوله، ودون تردد، تحدث لي عن قرابته مع عبد اللطيف الحموشي، فحرك في دواخلي الصحافي الذي يلازمني حتى وأنا في مدرجات الجامعة بعيدا عن “الصباح” وصداع هيأة التحرير و”البوكلاج”، وسمعت جزءا من حكاية الرجل الذي لا ينام، من قريب له، كان يحكي عن قريبه، كأنه يحكي عن ولي من أولياء الله، وكيف آثر الرجل أن يهب كل حياته من أجل الدولة، على حساب عائلته وأهله. رجل كثير الصيام والقيام.يحتضن هاتفه أكثر من احتضانه لصغاره. وقته موزع بين أكوام الورق والتليفون. مذكرته بين يديه، يأخذ من أجره ما يكفيه ولأسرته بمفهوم الكفاف ويتصدق بالباقي، ومازال بارا بكل أهله، الذين تنازلوا يوما عن جزء من مصروفهم لتمويل دراسته الجامعية في فاس، وبعد سنوات، تأكدوا من صدق خصال الرجل. تليفونه يرن على مدار الساعة وعندما يرن يغادر مجلسه العائلي ويؤمن الاتصال بعيدا عن أهله وأقرب مقربيه.إنها تقاليد الحفاظ على أسرار الدفاع الوطني.
حكى لي قريبه عن أمنيته الغالية بأن يؤدي فريضة الحج مع أهله، وهو الرجل الذي يسر الحج لمئات رجال الأمن والمخابرات، ولا يطلب منهم إلا دعواتهم لمحمد السادس وللبلد، وأن يُيَسِّرَ له الله أداء فريضة الحج، لأنه لا يمكن أن يؤديها وهو مطالب بان يرد على الهاتف الخاص ككل رجالات الدولة المقربين، الذين يلزمهم أن ينزووا بعيدا عن أعين الناس ليردوا هاتفيا على مكالمة الدولة، فكيف له أن يرد على الهاتف وهو يطوف بالكعبة أو يوم الوقوف بعرفات، والحج عرفات، ويختلي بعيدا عن الناس حيث الحجيج من كل فج عميق؟
إنجاز: د. خالد الحري
كسر صورة رجل المخابرات بالسيكار الكوبي ورسخ صورة جديدة بالسجادة والسبحة وقرآن الفجر
… حدثني قريبه عن أصوله الاجتماعية وطفولته في “بني فْتَحْ” بالبرانس في تازة، باب الريف. حدثني عن عصاميته وعن قوة جلده وهو ينحت مساره على الصخر. كان القريب منبهرا بتجربة قريبه، الذي رغم يتمه، وقلة ذات اليد، وليس وحده فهو حال الجنرال محمد حرمو، الآتي من فج عياش بالبرانس بتازة، وعبد الفتاح الوراق، القادم من حاضرة بن أحمد، وعبد الوافي لفتيت، الآتي من قرية تفرسيت في الريف، وامحمد عبد النباوي، ابن مريزيك فارس قبائل ولاد عبدُون وامزاب وشرقاوة، إنهم وآخرون من المغرب العميق. رجال محمد السادس وعنوان مرحلة في تاريخ المغرب.
استطاع الحموشي ابن الفلاح البرنوصي، كطائر الفينيق، أن ينبعث كل مرة من رماده. لقد ذكرني مساره بمساري، مسار خالد الحري ابن عباس حارس المدرسة الابتدائية بحي المطار، في الحي الحسني في البيضاء، الذي امتهن، وهو يافع، كل الحرف اليدوية وحمل مواد البناء على كتفيه وصناديق الخضر في سوق الجملة بالبيضاء وسوق السمك بالميناء. لقد جربت كل الحرف لأقتصد مصاريف دراستي، والبقية تعرفونها. لهذا أحببت الحموشي ووجدته مثلي آتيا من حيث أتيت. ليس ابن العائلات التي توارثت المجد والمسؤوليات والمناصب، فهو آت من المغرب العميق، ابن فلاح برنوصي، وسوف أخون عهدا ضمنيا التزمت به مع صهر صديقي الذي تعرفت، في بيته لمناسبة عائلية، على أحد مساعدي سي عبد اللطيف الحموشي، كما يقدم نفسه.
استغللت لقاء لن يتكرر، وكانت ملاحظاتي في قالب استفزازي. ورغم أنه فطن أن طريقتي في العمق فيها استجداء لكي أحصل على “شذرات” من الحياة المهنية لرجل المخابرات الأول في المغرب، ابتسم ثعلب المخابرات ابتسامته الماكرة، وفي همسة هادئة تحدث لي عن رئيسه بكلمات مشفرة. تحدث عن بداياته. تحدث عن مسار رجل مخابرات استثنائي، اكتشفه الجنرال لعنيكري في بداية العهد الجديد، وقدمه إلى الدولة باعتباره رجل المستقبل في المخابرات، قال لهم “قد أكون أكثر منه تجربة، لكن خلفيته المعرفية وثقافته الغربية بعمق عربي إسلامي، تتجاوز الخلفية المعرفية للجنرال الذي كان نموذجا لرجل المخابرات الذي عاشر في المخابرات الخارجية قادة المخابرات الغربية بصورتهم النمطية: السيكار الكوبي في الفم، والقلنسوة على الرأس، والمطاعم الفخمة والكافيار والمشروبات الخفيفة والتقاليد الاستخباراتية الموروثة من أيام الحرب الباردة والصراع بين الغرب والشرق، لهذا اصطفاه الجنرال ليكون جنبه ويتيح له التعرف على شبكة العلاقات الدولية. لقد كسر الحموشي البرنوصي الصورة النمطية لرجل المخابرات صاحب السيكار الكوبي ورسخ صورة رجل المخابرات صاحب السجادة والسبحة وقرآن الفجر.. إن قرآن الفجر كان مشهودا.. سبحانك ربي العظيم لا إله إلا أنت “تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..”.
رافق الجنرال كظله في كل سفرياته للخارج للقاء قادة المخابرات العالمية، وأعطاه الكلمة ليتحدث خبيرا استثنائيا في الإرهاب، وتحدث عن القاعدة وقادتها. كان الحموشي قويا بعميله الذي عاش مع بن لادن في “أبو تَباد”، ولم تكتشف المخابرات المركزية الأمريكية أن حامل رسائل بن لادن المجهول (خان ألف) إلى قيادة القاعدة الذي يحمل هوية باكستانية، كان عين الحموشي في الدائرة المقربة من بن لادن وهو صيد كبير لم تعرفه المخابرات المركزية إلا بعد استحواذها على كنز بن لادن في مخبئه بـ “أبو تباد”. لم تكن المخابرات الأمريكية تعرف أن الرجل المجهول الذي يتكلم الأوردو ويطوف باكستان طولا وعرضا لتأمين الاتصال بمبعوث بن لادن وكان يعيش على بعد خمسة كيلومترات فقط من “أبو تباد” كان عميلا للحموشي. كل التسريبات تحدثت عن أبي محمد الكويتي كأنه “خان ألف البشتوني” وهذا خطأ. ولهذا يحتفظ الحموشي في الخزانة المصفحة في مكتبه بالرباط بجواز سفر “خان ألف” الحقيقي.
حكى لي قصة إجلاء الرجل من “أبو تباد” بعد مقتل بن لادن وكيف قاد رجال ياسين المنصوري عملية الإجلاء إلى بلد ثان كان بعيدا عن بلده باكستان للحصول على تقاعد مستحق بعد سنوات من خدمة المخابرات المغربية. الحموشي رجل الميدان تعلم أن يحفظ أولا المصالح العليا الإستراتيجية للبلاد. إنها من ميزات قوة الرجل الصامت. ولكي يعطيني سرا حول قوة الرجل، حكى لي مساعده، الذي أعرف أني فقدته إلى الأبد، عن عملية “عين أميناس”، عندما كان الملك محمد السادس في جولة في إفريقيا، يومها تحركت المخابرات بفرعيها الخارجي والداخلي من أجل تعبئة كل المجهود الاستخباراتي لتأمين الجولة الإستراتيجية لمحمد السادس/الإفريقي في مناطق ساخنة، كان في بلد غير بعيد عن الجنوب الجزائري، يومها أبلغ الجانب المغربي نظيره الفرنسي باستعجال بالهجوم الإرهابي على حقل الغاز “عين أميناس” في جنوب الجزائر بقيادة المختار بلمختار الملقب بـ “لعور”.
لم تكن وقتها أي وكالة أنباء تحدثت عن الأمر. الجانب الفرنسي تفاجأ بالخبر. إنها قوة الحموشي البرنوصي ابن الفلاح، وفيما بعد، فهمت سر موقف المغرب آنذاك حول قضية الشكايات المرفوعة على الحموشي في باريس، التي اعتبرها قضية دولة، فجمد العلاقات مع فرنسا، خصوصا أن الحموشي سبق له أن أخبر القيادة السياسية للبلاد في نوفمبر 2013 بمخطط يقوده شخص بعينه كان يلتقي “الضحايا” في فندق جورج الخامس في باريس، ويوجههم لطلب خدمة محامين بعينهم لتقديم شكايات ضد رجل المخابرات الأول في فبراير 2014.
هذه الجزئية جعلتني أنتبه لبعض التفاصيل اللاحقة كاستقبال أمير قطر للحموشي فور وصوله إلى الدوحة، وزيارة بومبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية إلى مقر المخابرات الداخلية المغربية بعد زيارة مجاملة إلى رئيس الحكومة وجلسة عمل في وزارة الخارجية ثم جلسة مطولة مع الحموشي التي يتذكر الرأي العام حولها صورة المكلفة بالترجمة وهي ترتدي الحجاب. لقد زاره صديقه القديم الرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، كما زار الحموشي روسيا ونزل في ضيافة سكرتير “مجلس الأمن القومي الروسي” نيكولاي باتروشيف، نائب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واستقباله من قبل رمضان أحمدوفيتش قديروف، الرئيس الشيشاني، في الجناح المخصص لإقامته داخل القصر الجمهوري في تخوم جبال غروزني. من البرانس إلى قلب الشيشان.
هذه شهادتي في رجل لم أعرفه وهذه أسباب النزول التي من أجلها اخترت دائما عنوانا رديفا له هو حارس المؤسسات الذي لا ينام ولست وحدي في الساحة الإعلامية الذي كانت له الخلاصة نفسها.
قبل سنوات، تحمل الحموشي مسؤولية جهاز آخر اعتبرته دائما “الرجل المريض”، وبعد خمس سنوات، أترك للرأي العام الحكم على أعماله، أما أنا فالجانب الذي يهمني باعتباري صحافيا هو التواصل.
وأظن أن الإدارة الأكثر انفتاحا على الرأي العام اليوم هي المديرية العامة للأمن الوطني التي اختار الحموشي لتواصلها وجها ألفناه من الشباب الذين التحقوا بالإدارة العامة بعد تولي محمد السادس مقاليد الحكم دون أن ننسى تواصل المكتب المركزي للأبحاث القضائية في قضايا الإرهاب، رغم أن الحموشي هو الذي قاد ويقود بنفسه في الميدان أبرز عمليات مكافحة الإرهاب ويترك الإجراءات المسطرية والتواصل للمؤسسات، كما حدث في قضية “أركانة” التي قاد فيها العمل الاستخباراتي بنفسه، ووضع المعطيات الاستخباراتية بين أيدي الفرقة الوطنية للشرطة القضائية لاستكمال الإجراءات المسطرية والقيام بالإيقافات.
أنا بدوري أشهد أيضا، وكابن لدار بوعزة، جنوب البيضاء، أني عاينت إشراف الحموشي على تفكيك خلية طماريس المسلحة، ورأيت بأم عيني طائرة “الدرون” التي نقلت اقتحام مخبأ الأسلحة، والتي كانت ترسل بثا حيا للتدخل إلى غرفة العمليات المتنقلة التي كانت غير بعيدة عن مسرح العمليات حيث يوجد عبد اللطيف الحموشي البرنوصي.
إنه باختصار سر نجاح رجل وسر اعتماد محمد السادس على أبناء المغرب العميق أبناء القرى والمداشر الذين حملتهم كفاءاتهم إلى المسؤولية.
إنه مغرب الكفاءات.
المصدر/جريدة الصباح