أغمات .. لا تقبل الشعراء إلا و هم أموات

أغمات .. لا تقبل الشعراء إلا و هم أموات

- ‎فيرأي, في الواجهة
237
6

 بقلم علي مفتاح

طرقت اليوم باب اغمات الموصدمنذ الأزل، حتى المعتمد المعتكف داخل طقوس موته أبى أن يفتح باب ضريحه مخافة أن يصاب و زوجته اعتماد بوباء عصر لم يرد قط في سيرة الاندلس و لم يتنبأ شعره بصورة لأغمات و هي تنتشل جرحهامن الصهاريج القديمة ، الشاهد الوحيد على أغمات قد مات و استعذب موته المعمرون الجدد ، بنوا لأغمات ضريحا وسط الضريح ، حتى المعتمد لم يستجب للحَجْر و خرج في حملة شعرية لردع الحَجَر ،جلسنا حيث أُمرنا نحصي كل انواع الفيروسات الممكنة و المتخيلة ،و نحصي عدد الخيبات التي أنعم بها علينا من الوباء إلى الغباء، مرورابتدبيركرنافاليلما أسموه مجازا بالحجر على الحجر .

كيف لي أن أكتب على أغمات الميتة حية قبل الممات، و أن أتحايل على اللغة فقط لأرسم بلون الدمع فمها المبتسم حد البكاء ؟ كيف لي أن أعيش في تربتها اتدبر أمر حجريالصحي و أنا كنت قد وضعت صورة لفمي و معه لسانيفي إعلانات مآوي الصمت ؟كيف لي و انا احمل ببطاقة هويتي اسمك ،اتباهى مع المحتالين و صناع التاريخ بالانتساب إليك ، أصيح من داخل جحري أن أغمات ألبستني توب من ماتوا و هم يرددون كل ترانيم الخلاص ؟ كفن على مقاس الصمت يكفي لكي أزفني إليك، أحمل معي دعوات من سيموتون دونما وداع للفأس و المنجل و لأهازيج صبية اتعبتها العنوسة فارتمت في حضن نتانة المآل دونما حرث أو حصاد .

قاسية أنت يا أغمات ، مثل بردك و حرك ،مثل تجاعيد استوطنت وجوه من حملوا على ظهورهم الملح العمر كله فانتقم منهم ضغط دمهم المرتفع ، تأبين الانصياع، لا تقبلين الشعراء إلا و هم أموات ، أنت مقبرة كل هارب من الحياة ، أنت سيدة ليست كالسيدات ، تمشي حافية و تصفق بحرارة لكل إسكافيي الأحذية العتيقة ،مدي يدك و اكتبي بفحمك الخشبي ،الشاهد على مجزرة غابة لم تطلب سوى وقف اطلاق الدخان ، اكتبي ان الحجر الصحي ميثاق فلسفة لم يستصغهابعد كل هؤلاء الذين عبروا إلى ضفة الوجع المستباح ،اكتبي أن الحجر درس في ميتافيزيقيا الخيال ، فلا عقلك استوعب دروس التقوية من أجل اجتياز اختبار العبور ،و لا المدرس الوحيد تبنى منهجية التبسيط من أجل نجاح بالتقسيط المريح.

أغمات تعرف جيدا أن الزمن تغير و تغير معه حتى شكل و حجم خطورة الوباء ، و أغمات لم تتغير ، قابعة في جحر سذاجة البسطاء ،مازالت ” بغلة المقابر ” ” تاسردونتنيسمضال ” تمارس حظر التجول قبل الحظر الذي فرضه الوباء ،و مازالت الفؤوس تعبث بالأرض، تحفر في العمق عن كنوز نسيها العابرون إلى ضفة النسيان ، و مازال الاعتقاد ذاته راسخا أن التفاضل بين القرى يصل حد الطعن في الحمل و النسل و السلالة  . فأي الألوان اخترت لكي ترسمي لوحتك، و الاسود لون ناسف لكل تلك الألوان؟

أغمات تحمل نعش السؤال عن الواقع عن المآل ،و الأجوبة و إن تناسلت يختلف حولها رواة الأحاديثالمتحلقون حولموائد الأكلات السريعة الجاهزة بسوق اثنين أوريكا، فمن سرق الماء من مساجد راكمت أحجارا باختلاف حجمها من أجل التيمم ؟ و من حفر القبور فقط ليسأل أصحابها عن لون الموت و رائحة الروح و تعفنها قبل الجسد ؟ و من مشى حافي القدمين و البطن فقط لتقليد ” سيدي السايح ” في زهده و تشرده عندما داهمت الفأس خلوته و جردته من أبسط حقوق الموتى ؟ و منمنح الغابة تأشيرة مرور لمتحف الدمار ؟ لم أجد في أغمات و في أسواقها المنتشرة و المتعددة بتعدد ايام الاسبوع حلقة الشعراء أو الفلاسفة ،لم أجد بنية لتكوين العقل لكي نخضعها للتحليل، و لم أجد أيديولوجية أمازيغية أو عربية معاصرة ، وجدت عصبية قبلية تخفي جبالا من الحنين إلى نزعات الغربال و تطهير العرق من العرق ، و الإبقاء فقط على من يمشي حسب اتجاه بوصلة الخرافة و التقديس المتوارث لهذيان الفكر و فكر الهذيان .

أغمات تعي جيدا معنى الانتساب للفنون و الثقافات المدمجة و المندمجة و المدجنة كذلك ،تقيم حفلات الزفاف عل نغمات و إيقاعات العيطةبكل انواعها و تثمل على موسيقى الراي ، و تعد الصفوف من أجل رقصة أحواش بسراويل ” الدجين”،و تتغنى بالمجد لصناع هذا الخليط العجيب للاغتراب و المنفى الثقافيين و الفولكلوريين ، فما أروع أغمات عندما تتجرد من جلدها القديم ،و تلبس جلدا على المقاس ،و قد وشمت على الظهر صورة زينب النفزاوية عارية أمام مقصلة التاريخ ،فالسياف الذي حفر قبرا من الشعر للمعتمد ،و الذي أحرق كل دواوينه، نصب نفسه طرفا في القضية ، فما أروعك يا زينب عندما تقبلين على الموت بكل ما أوتيت من زغاريد ،فطوبى لمن أخذوا مكانهم في الصفوف الأمامية ، طوبى للمتفرجين الذي أتوا من كل جرح عميق ،تركوا نعالهم لكي لا تكون غدا شاهدة عليهم عندما يباغتهم سؤال الكرامة و الإنصاف، حتى يوسف في تربته أوصى كل المؤرخين و صناع الفرجة والتهريج التاريخيين أن يزيلوا من على حرف الغين نقطته البلهاء ، لتصبح ” أعمات ” .

لا توقظوا هؤلاء الحالمين برصيد مضاعف للصبر ، لا توقظوا من يكتفون بحلم لا يتخطى حدود هاته الحقول ، فصبرا أغمات ،استباح دمك الرعاة و المنتخبون الكسالى ،و حتى الراقصات و الراقصون على إيقاع الجوع لم يعد يغريهم هز البطن و هو فارغ ،مات المتفرجون من المشاهد المعادة بكل التفاصيل الدقيقة و البليدة ، نفس الشتاء التي تهطل كل عام لم تعد كافية لغسل العقول قبل الحقول ،أصبح مطرك فارغا من الماء ،و الشمس أبانت عن نية انتقامها من سنوات الغيوم الماطرة ،فمرحبا بك مدينة أثرية ،كل من يتحرك فوقكفهو أثر اركيولوجيحي ينبض بالموت و الاندثار ، فالحفريات في الإنسان الحي أثبتت أنه ينحدر من سلالة نادرة يعرف كيف يكتب حضارة المتناقضات ، حضارة التباعد و التنافر ، حضارة الكيل بمكيال من فراغ .

أغمات،  أيها الجبل الجريح ، أيتها الغابة الشمطاء ، أيا وادي اجوف تقاسم حدوده مع الحجر،حافي بلا ماء، لقد أقسمتِ بكل الآلهات القديمة أن الندى القادم من حر المستنقعات سيغسل وجهك ذات صباح ، و أن عشاقكسيحيون ذكرى ” يوم الطين ” ،حيث لبست الارض كسوة من عنبر و مسك و ماء الورد ، و ستمشين و تخوضين فيه برجليك ، و سيجلس الشعراء فوق قصائدهم المتعفنة،و لروعة المشهد ،سيرسمون لوحات لموت اللغة عندما تهرب منها الحروف ، ما اجمل ان نضعك في سياقك القديم ،حيث كنت القِبلة الأولى لمن رابطوا خلف أسوارك فعزفوا بالصليل أروع سيمفونية تغنت بها كل الأجيال، ما أروع أن نعود إليك في الزمن الذي مضى و تعلميننا كيف ننطق كلمة ” الحلم “دون أن تحاصرنا الحاء في غياهب الاشتهاء و الانطواء ،ما أروع أن نقبض فيك على الزمن متلبسا بتهمة الحياد ضدا في التاريخ الذي كُتب ، و ضدا في الإنسان الذي أبى أن يكتب.

أغمات تحصي الويلات ،و تستعد كما باقي المدن القديمة التي حملت على اكتافها أحجار الفاتحين كما رفاتهم، لتكتب بالصمت تاريخ صخبها الحديث ،تاريخ تواطئ القبور و إيقاعات الموت ،تكتب قصيدتها الأخيرة، حيث الغزل بطعم الرثاء ،غاب الحضور و حضر الغياب، و تناسلت الجمل الشعرية ، و لم تلد القصيدة سوى عقم الرؤى و انبطاح الانزياح، كل دواوينها مرتعا للموت المريح ، فلا الروح غادرت جحرها ، و لا الأنفاس استفاقت و قيمت حجرها القديم/الجديد ، فيا سيدتي يا أغمات ، لا أطلب منك أن تبنيلي ضريحا ،قبر بعمق صورة شعرية يائسة يكفيني ، حفرة في اقصى ركن من جبل محايد تكفيني ،و شبر من كفنلستر عورتي يكفيني .. يكفيني أني مررت من هنا و عشقت أن أكتبك عارية من كل حروفك الشفافة، اني عاشق فوق العادة لكل المدن الموبوءة و المنبوذة ، عاشق للمدن التي تكتب تاريخها بدون فواصل ،بدون استفهام أو تعجب ،ترسم بمرفقهانقطة نهايتها في اقصى ركن  من مذكراتها و تمضي ، إلى أين؟ إلى قصيدة رثاء أخرى خارج إطار الحجر، و تردد خلف شاعر منحها السؤدد أكثر من سجانه : ” رعي الجمال خير من رعي الخنازير ” .

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،