محمد أولـوة
(عضو المجلس الإداري للوكالة الوطنية لمحاربة الأمية)
لا أحد يجادل في كون التعليم هدفا فى حد ذاته قبل أن يكون وسيلة. فالإنسان المتعلم الممتلك لمهارات القراءة والكتابة على الأقل، يشعر بعدم ارتكانه إلى أحد أو احتياجه لغيره، كما يحس بأنه يزداد ثقة بالنفس وله شخصية مستقلة قادر على إحداث فرق في حياته وفي المجتمع، ناهيك عما للتعليم من ضرورة اجتماعية على كل المستويات، بل يعد أساسا لأي نهضة حقيقية وسبيلا وحيدا للنمو والازدهار والاستقرار.
وفي هذا السياق يأتي الورش الوطني لمحاربة الأمية وتعليم الكبار كحق أساسي من حقوق الإنسان وحق دستوري فى التعليم لكل مغربية ومغربي باستمرار مدى الحياة، وذلك ليس فحسب لما لمحو الأمية من أهمية لتحقيق التنمية البشرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المستدامة… ولكن لما لآفة الجهل والأمية كذلك من خطورة في زمن الكوارث والجائحات. حيث يتطلب الأمر لمواجهة هذه الأخيرة ومقاومتها تنمية الوعي وثراء المعرفة وإلا سيقف الجهل حائلاً أمام كل محاولات للفهم الصحي والعلمي لها ولآثارها الفتاكة، وبالتالي يقع الإنسان فريسة الشعودة والتضليل والخرافة التي يتخذها ملاذا فيكون هلاكه محققا.
فالأزمات بما فيها الأوبئة التي تصيب بين الحين والآخر أي مجتمع، تقاس بها متانة المجتمع وتلاحمه في التفاعل مع أصوات ونداءات حملات التحسيس والتوعية لمقاومة الوباء، ومواجهته بالاعتماد على وعي المواطنين، ورقيهم في المعرفة وتحررهم من الجهل. ذلك أن المجتمعات التي تتفشى فيها الأمية، كمجتمعنا، بل والذي لازالت فيه للأسف الشديد نسبة مهمة من أشباه المثقفين الذين تغزو أذهانهم المعتقدات الخرافية، فإن الوباء كلّما كان خطيراً بسبب سرعة انتشاره وفتكه بالمصابين به، وطالت المدة الزمنية بلا علاج واضح وفعال أو لقاح ضده، فإن الساحة تبقى متروكة للاجتهادات الفردية والاجتماعية المنافية للعقل والمنطق.
ذلك أنه عادة ما يصاحب تلك الأوبئة وقلة المعلومات عنها، موجة من الإشاعات لتوصيف الداء وظواهره التي يطلقها البعض وينجرف خلفها الملايين، بحيث تعد الأمية المتفشية خلال هذه الفترات بيئة مشجعة للاستخفاف بإجراءات الحجر الصحي وتدابير الوقاية والاستهانة بالتعليمات الاحترازية لمنع انتشار الفيروس وتجنب عدوى الإصابة بالمرض، وبيئة خصبة لتصديق كل ما يمهد السبيل للأساطير ولازدهار الخرافة والإشاعات التي تنتشر بسهولة فائقة، كالتسليم والإذعان حاليا لدى البعض بأن كورونا تمثل نهاية للعالم، أو انتشارا للسحر أو غضب سموي ما، أو أنها ابتلاء وقدر لا راد له ولا ينفع معها الاحتياط والحذر… فتنتعش هنا وهناك طفيليات الفكر والعلم والفتوى والطقوس الغريبة التي تمنح للإنسان شعورا زائفا بالأمان وتعيقه عن فعل ما يجب فعله حقا، فيعم التهور وتظهر بعض السلوكات الشادة المتمردة على قانون الطوائ الصحية، مع العلم أن البشر يعرف منذ قرون أن الجوائح تستوجب تجنب المجامع والجوامع واللقاءات العامة، لئلا تنشر العدوى بين الناس، كما أمر الإنسان بالحفاظ على النفس البشرية، وعدم تعريضها للهلاك.
فبهذه الخرافات المتنوعة بين المبالغة والتسخيف، والتي تتفق جميعها على غياب العقل يصير “وباء الأمية” توءما وحليفا لكورونا، هذا الاسم الجميل الذي يليق بحسناء فاتنة وليس بمرضٍ فتاك. وهنا يمكن القول أن التغلب على انتشار هذا المرض أو غيره من الأمراض الفتاكة رهين كذلك بمحاربة الأمية المعرفية والصحية وسط مجتمعنا، لكي تتمكن عامة الشعب بما فيه الفئات المهمشة من التعامل مع هذه الظواهر الصحية والأوبئة بعقلانية ومن التفاعل الإيجابي مع تعليمات المؤسسات الصحية بعيدا عن الاستهتار والاستهانة بمخاطر الوباء حتى تكون أضراره أقل مما كانت ستبلغه لولا احترام الإجراءات المتخذة واتخاذ الاحتياطات الضرورية. ذلك أن الأمية ينتج عنها بكل تأكيد الجهل الصحي والمعرفي اللذان لا يقلان خطورة عن وباء كورونا في حد ذاته.
لكن من المؤكد أيضا أن فيروس “كوفيد-19” مهما كان نوعه وخطورته وتداعياته الكارثيية، فإنه سيزول وينذثر، لكن سيبقى داء الأمية التي لم تعد تقتصر في عصرنا الحالي على عدم القراءة والكتابة بل وأيضا عدم معرفة استعمال التكنولوجيا، وسيظل وباء الجهل في حاجة إلى تعبئة وطنية قوية لإسناد المهمة الطموحة للوكالة الوطنية لمحاربة الأمية، الرامية إلى اجتثات آفة الأمية وتجفيف منابعها، وهي المهمة التي تقتضي من كافة مكونات المجتمع الدعم المطلق لعمل أطر الوكالة الدؤوب ولتفانيهم ومجهوداتهم الجبارة من أجل ترسيخ الإنجازات الهامة لهذه المؤسسة وإيقاظ الوعي الجماعي لدى الرأي العام الوطني بمخاطر وباء الجهل على الفرد والمجتمع على حد سواء، مما قد يجعل المواطن يحرص على السعى إلى محو أميته.
وفي هذا السياق، تجدر العودة إلى حالات الطوارئ الصحية، وما قد يكون لها من تدعيات على التعليم وخاصة على برامج محو الأمية، إذ يبدو أن إغلاق المراكز يمثل حلًا منطقيا لفرض التباعد الاجتماعي، ولكن إغلاقها لمدة طويلة يمثل الأمر الأكثر إثارة للقلق لما قد يسببه من ارتداد ولما سيكون له من تأثير سلبي على المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في مجال محاربة الأمية وتعليم الكبار. وبالتالي فإن الأمر يتطلب وبإلحاح اجتهادات انطلاقا من عبر ودروس هذه الأزمة الصحية المفاجئة، لتدشين مشروع استراتيجية جديدة تروم إبداعا لخيارات بديلة عن التعلم الحضوري عبر استخدام التكنولوجية الرقمية كوسيلة موازية لتنفيذ أنشطة وبرامج محاربة الأمية عن بعد، وإنتاج مناهج ومواد تعليمية تفاعلية للدارسين بأقسام افتراضية لمحو الأمية، كآلية بديلة للدروس الحضورية في ضوء الإجراءات الاحترازية المتخذة لمواجهة فيروس كورونا المستجد. وهو ما يقتضي بالطبع تدريب المكونات والمكونين على استخدام تلك التكنولوجيا بفصول محو الأمية وتعليم الكبارعن بعد، وتمرينهم على الطرق المناسبة لإعداد الدورس وعلى تحديد الأساليب التي تتناسب مع المستفيدات والمستفدين تيسيرا عليهم، وعلى منهجية فتح الأقسام الإفتراضية لبث لتلك المواد التعليمية المنتجة سواء عبر منصة رقمية تستخدم على الهواتف الذكية أو عبر الموقع الرسمي للوكالة أو مواقع التواصل الإجتماعى أو بشتى الطرق الممكنة بما فيها القنوات التلفزية…