تعتبر حادثة الإستيلاء على المسجد الحرام عام 1979 واحدةً من أهم نقاط التحول في تاريخ المملكة العربية السعودية. فقد هزّ الحصار، الذي استمر حوالي أسبوعين، أسس أسرة آل سعود الحاكمة وكان له تأثيرٌ عميق على المشهد الاجتماعي السياسي للبلاد. وبالنظر إلى حقيقة أن عواقب الحصار لا تزال ملموسة في البلاد والمنطقة، فمن الضروري إعادة تقييم الحدث بعد أربعين سنة من حدوثه.
كان يوم 20 نوفمبر من عام 1979 كأي يومٍ عادي، حيث اجتمع حوالي خمسون ألف مصلٍ داخل أقدس بقعةٍ لدى المسلمين لأداء صلاة الفجر. وبينما كان الشيخ محمد السُبيّل يهمّ للإمامة في الصلاة، سيطرت مجموعة من الرجال المسلحين، باستخدام العنف، على المسجد الحرام. وفي ضوء السمة غير المسبوقة للحدث في ذلك الوقت، وبما أن دين الإسلام يحظر أي نوعٍ من العنف وسفك الدماء في أو داخل الأماكن المقدسة، لم يكن يخضع المسجد الحرام لحراسةٍ أمنية مشددة. ولأنه لم يكن هناك سوى عددٌ قليلٌ من رجال الأمن الذين كانوا يتواجدون، بشكلٍ أساسي، للسيطرة على الحشود الضخمة، سرعان ما تمكن المتمردون، الذين كان يصل عددهم إلى 500 مسلح، من السيطرة الكاملة على الموقع، وبكل سهولة.
وعلى الرغم من أن المتمردين قاموا في نهاية المطاف بإطلاق سراح عددٍ من المصلين، إلا أنهم أبقوا بعضاً منهم كرهائن وحبسوهم في باحة المسجد. كما تمركز القناصة في المآذن، مما جعل مهمة تحرير المسجد الحرام أكثر صعوبة.
خلال المحاولة الأولى، حاول حوالي 100 من ضباط الأمن السعوديين استعادة السيطرة على المسجد الحرام، إلا أن مهمتهم باءت بالفشل ووقعت العديد من الإصابات بالأرواح. وعلى الرغم من مشاركة الجيش السعودي والحرس الوطني على وجه السرعة، ولكن على ما يبدو لم يكن الملك خالد يثق بهم تمام الثقة. فقد دعا كلاً من القوات الخاصة التابعة للجيش الباكستاني ووحدات التدخل التابعة للحرس الوطني الفرنسي لدعم عملية مكافحة التمرد شديدة التعقيد هذه، التي تطلبت إخلاء مدينة مكة بأكملها.
ينحدر جهيمان العتيبي، زعيم المتمردين، من منطقة نجد الشهيرة، التي كانت، تاريخياً، مقربةّ من آل سعود، فقد كان جده مساعداُ لإبن سعود، مؤسس المملكة. بينما كان بعض أفراد عائلته الآخرين أعضاء مهمين في الإخوان، التي كانت ميليشيا قوية ساعدت ابن سعود على هزيمة منافسيه الآخرين على السلطة داخل البلاد.
في البداية، كان العتيبي موظفاً في الحرس الوطني السعودي، ولكن نظراً لاهتمامه العميق بالدين، أصبح واعظاً، كما تتلمذ فيما بعد على يد الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي كان، بالمناسبة، مفتي المملكة العربية السعودية عندما وقع الحصار. أصيب العتيبي بخيبة أملٍ من آل سعود، وفي النهاية، اعتبرهم أسرةً فاسدة لم تحافظ على القيم الإسلامية الأصيلة في البلاد. كان ينتقد سياسات “التغريب” للدولة وعارض إدخال أدوات الاتصال الحديثة مثل التلفزيون؛ كما أنه عارض وصول العمال الأجانب غير المسلمين إلى المملكة العربية السعودية الذين جاءوا للعمل في صناعة النفط المزدهرة آنذاك.
ادعى العتيبي أنه رأى في منامه الله الذي أخبره أن محمد عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر، الذي سيظهر على الأرض لعدة سنواتٍ قبل يوم القيامة. فقد التقى العتيبي والقحطاني في السجن بعد أن اتهما بالتحريض واستخدم العتيبي أجزاء من الحديث لتوثيق ادعاءاته فيما يتعلق بالدور الديني للقحطاني، الذي أصبح أيضاً صهره.
تزامن موعد الهجوم، 20 نوفمبر 1979، مع أول يوم من سنة 1400 في التقويم الهجري. ولربما كان هذا مرتبطًا بشكل متعمد بفكرة المُجدد، الذي، وفقًا للسُنة، هو رجلٌ يظهر في مطلع كل قرن لإعادة الإسلام إلى أصله الطاهر والنقي.
ونظراً للحساسيات الدينية – السياسية المحيطة بالحرم المكي، سعت الدولة السعودية للحصول على فتوى من علماء المسلمين لشن عمليةٍ عنيفة في أقدس مسجدٍ في العالم الإسلامي. التزم بعض العلماء الصمت، في حين لم يعتبر آخرون العتيبي وأتباعه غير مسلمين رغم خرقهم حُرمة المسجد الحرام. وعلى الرغم من أن بعض العلماء منحوا، في نهاية المطاف، آل سعود الضوء الأخضر لاستخدام القوة، إلا أنهم أصروا على أن تعرض الدولة أولاً على المتمردين خيار الاستسلام قبل حدوث أي إراقةٍ للدماء. وعندما رفض العتيبي الاستسلام، كانت لدى الدولة فتوى دينية في متناول اليد للقيام بعمليةٍ كاملة لمكافحة التمرد لاستعادة المسجد.
وبينما كان المسجد تحت سيطرة العتيبي، استخدم المتمردون مكبرات الصوت في المسجد، التي كانت متصلة بشوارع مكة، لتبرير تصرفاتهم بانتقاد آل سعود والمطالبة بتنفيذ مطالب معينة، والتي شملت الإنهاء الفوري لصادرات النفط إلى الولايات المتحدة وطرد المغتربين من البلاد. استمر الحصار لمدة أسبوعين تقريباً إلى أن تمكنت الدولة أخيراً من استعادة السيطرة على المسجد الحرام. ولا تزال الأرقام الدقيقة غير معروفة، ولكن زعمت الدولة أن الحصار أسفر عن مقتل “255 حاجاً وجندياً ومتشدداُ،” فضلاً عن “560 جريح.” كما قُتل محمد عبد الله القحطاني، ”المهدي المنتظر“، في تبادلٍ لإطلاق النار، في حين تم القبض على العقل المدبر العتيبي و67 من المتمردين الآخرين وتم قطع رؤوسهم.
فقد قال الدكتور أفشين شاهي، كبير المحاضرين المختص في دراسات الشرق الأوسط في جامعة برادفورد، في مقابلةٍ مع فَنَك، “صحيحٌ أن الاستيلاء على المسجد الحرام كان نقطة تحولٍ في تاريخ المملكة العربية السعودية، ولكن إذا ما أردنا حقاً تفهمّ أهمية هذا الحدث، يجب علينا أن ننظر إلى السياق الإقليمي الأوسع في ذلك الوقت. ما الذي كان يحصل في المنطقة عندما استولى جهيمان العتيبي على المسجد الحرام؟”.
عن موقع فنك
فقد أوضح، “بالفعل، كان عام 1979 لحظةً محورية في تاريخ الشرق الأوسط لأسباب مختلفة، إذ مهدت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل واعتراف الرئيس المصري أنور السادات بإسرائيل، أخيراً، الطريق أمام زوال القومية العربية. وبدورها، مهدت نهاية القومية العربية باعتبارها قوة حشدٍ مؤثرة، الطريق نحو تمكين الإيديولوجيات الإسلامية، التي بدأت تغير المشهد السياسي-الاجتماعي للعالم العربي بشكلٍ جذري. في هذه المرحلة، بدأنا نرى المزيد من التسييس واستغلال الإسلام لملء هذه الفجوة الأيديولوجية. والأهم من ذلك أن الثورة الإيرانية حدثت عام 1979 وأسفرت عن سقوط شاه إيران العلماني القومي. استوعبت الثورة الإيرانية الإمكانات السياسية الهائلة للإسلام في العصر الحديث، كما أن إظهار الثورة الإيرانية للقدرة السياسية للإسلام كسى الثقافة السياسية الإقليمية بطابعٍ عسكري، مما أدى إلى المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. فقد كانت حركات الناشطين، سواء ذات الأجندات السياسية أم الدينية، مقتنعةً الآن بأن الإسلام ورقتها الرابحة التي يمكن توظيفها كآليةٍ فعالة لتسييس وتعبئة الجماهير وتطرفها من أجل مواجهة الدول السلطوية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.”
ويضيف الدكتور شاهي أن “الدولة السعودية، التي كانت سعيدة برؤية زوال القومية العربية، أصبحت الآن تشعر بقلقٍ بالغ إزاء ما كان يحدث في إيران. كانت الثورة تعم الأرجاء، وكان القادة السعوديون – إلى جانب نظرائهم الإقليميين الآخرين- يخافون من الآثار غير المباشرة في بلدانهم.”
تابع الدكتور شاهي شرح الأمور، إذ قال “كان حصار المسجد الحرام بمثابة صدمةٍ كبيرة للنظام السياسي، في المملكة العربية السعودية والمنطقة ككل على حد سواء. ونتيجةً لذلك، وبعد التغلب على الحصار في نهاية المطاف، قررت المؤسسة السياسية السعودية زيادة اعتمادها على الوهابية للحفاظ على الوضع الراهن. ومنذ ذلك الوقت، بدأنا نرى المزيد من التمكين للعلماء الوهابيين في المملكة العربية السعودية والتنفيذ السريع للسياسات الاجتماعية المتطرفة، التي دافعت بشكلٍ رئيسي عن وجهات النظر الدينية المتشددة وغير المتسامحة. كما شرعت المؤسسة السعودية بضخ ملايين الدولارات في مؤسساتٍ دينية داخل المملكة وخارجها، الأمر الذي سرعان ما غيّر المشهد الديني عبر العالم الإسلامي. فقد تم استثمار مليارات الدولارات في بناء المدارس الدينية والمساجد للترويج للنسخة السعودية من الإسلام. وفي الداخل، تغير المنهاج الوطني السعودي، وبالتالي، خصص جزءٌ كبير من وقت الدراسة للدراسات الدينية التي روجت لنسخةٍ متعصبة جداً من الإسلام؛ المعادية للشيعة وغير المسلمين على حد سواء.”
وخلص إلى أن “الحصار كان بالفعل نقطة تحولٍ رئيسية في المملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي ككل، كما يتضح في حقيقة أنه على الرغم من مرور أربعين عاماً على الحادثة، إلا أننا لا زلنا نعاني من عواقبها.”