من عبد الواحد الطالبي- مراكش– كشفت جائحة كورونا في المغرب معادن بعض الناس الذين لا يُفَوتون الفرصة دون انتهازها لمصلحة خاصة في عز الحاجة للإيثار وللتضامن والتلاحم من أجل الصحة والحياة.
كما كشفت معادنَ آخرين انطوَواْ على أنفسهم وبلعوا ألسنتَهم وجعلوها في أمعدتهم وكانوا بالثرثرة مشغولين في مقدمة الصفوف واعظين مرشدين مُفتين ما تنقصهم سوى الرسالات ليصيروا أنبياء.
وهؤلاء مثلُ أولئك ومعهُم رهْطُ انتهازيين تفقَّعوا مثل الفِطر في السهل الضحْل تناسلوا بَكتيرْيا جائحة في زخم الوباء يسابقون الفيروس للالتصاق كما يلتصق الذُّباب بِذائبِ حُلوِ الْعفَن، كلُّهم سواء.
فمنهم مراوغٌ جبانٌ كذاكَ الذي صار يحرض على العصيان يدعو نساء ورجال التعليم لمقاطعة إنجاز دروس التعليم عن بعد، متحججا بخصم مبلغ من راتبه وكأنه يوما لم يَغْنَ في بلد غضَّ عنه للغياب عن العمل في مهام لم ينجزها وتلاميذ لم يدرسهم وواجب لم يقم به وشغل لم يحسنه وترقية لا يستحقها.
وكذاكَ المنافقُ المحْتال الذي يخادع الناس بالعمامة على الرأس والمِئزر على الكسدة والسبحة بين السبابة والإبهام، يختلف بين البيوت الى كل وليمة يَضْرع الى الله بيدين مرفوعتين وقلب خبيث وعينين زانيتين وفي وجهه ضوء من هاتف مُشرَّع على سوق المتاجرة بالدِّين، حتى إذا وقعت الواقعة بُهت وارتجف وأصابه العي، لا أكفٌّ يرفعها الى السماء ولا لسان يلهج به خاشعا ذاكرا متوسلا، ولا خروج الى الناس بما كان يفعل مُطِلا من شاشة او مُرتقيا منبرا بلحية أو حليقا يخطب بفصاحة منقولة او منحولة.
والكذاب الأشِر توارى متخفيا بالحظر يتحين الساعة الأخيرة متربصا متوثبا للانقضاض على الفريسة عند لحظة الانتصار الذي لم يصنعه ليظهر بطلا بربطة عنق وبدلة ظلت طي الدولاب على مدى صراع الشعب مع الموت والفيروس؛ أمام الأضواء والعدسات يفضح وجه منتخَب جفَّ كزيتونة ضربها الصقيع من بهتانٍ وزيفٍ ومكرٍ واحتيالٍ.
ومنهم الأهْوَج الأرْعَن الذي يتعيَّشُ من الهشاشة يقْتاتُ بفقر الشعب ويغتني من معاناتهم كِسوَتُه من حرير العرق المجفف على جسدٍ منهكٍ فَتَكَ به الأجر الزهيد، يُدَفئُ الناس بشعارات الأفْق الذي يفقأ النظر ويسقيهم شَهْد البيانات التي تتقطَّر بِمُرِّ العسل ويطعمهم ضريع الكلام الذي لا يقبَل ان يكون ممارسة واقعية، ذلك السياسي الذي انفضح عِنّيناً بلا فحولة وانكشفت مواقفه على حقيقتها في طريق البحث عن النجاة سراباً مُخادعا.
ومثلهم النجم الذي افتقدته الليلة الظلماء، والحنجرة التي بحَّتْ في يوم الحشر عن النداء، والجسدُ الذي تمطّى كَسَلًا والشعب بالأثقال أناءَ، والثريُّ الذي لاذَ برغْد العيش في فِناء ودونَهُ مُعدَم بلا سقف يأويه ولا ما يشبعه من إدامٍ في إِناء…جميعهم تخلفوا عن موعد وطن يلْأمُ الجرج ويَكْمدُ الألم ويُليّن البأس ويرفع الغمة عن الأمة تَعبَّأ المواطنون المخلصون فيه لتطويق الجائحة شعارُهم نموت ويحيا الوطن.
أين من هؤلاء الأطباء في المشافي بين أنياب الفيروس ينهش مرضاهم على أَسِرَّةٍ تتأرجح بين الْهُنا والْهُناك تداعبها ملائكة من لحم ودم تقبض على الرَّدى بأناملَ لا ترتعش.
أين منهم جنود السلطة والأمن والإدارة في مطاردة الخفافيش وتقصير أجنحة السنونو، ما يكادون يَطمئنون على الأكنة حتى يفتنهم الريش يَغْدون ويُمسون ثِقالاً بِهَمٍّ يبيتون عليه في شوارع ودروب مدنٍ تعشق الصخب والازدحام والموت في الضوضاء…
أين من هؤلاء رسل التربية الذين ائتمنوا أطفالنا على مستقبل بلادنا يحرسونه بالعلم وحسن الأدب، هَبّوا طواعية يُشَيّدون فصول التعليم الافتراضية ويلقنون المعرفة بما تيسر لديهم من وسائل ينهجون كل السبل متجنبين حسابات الأرقام للربح والخسارة تسعدهم فقط كلمة شكر.
أين منهم افراد جالية المغرب بالخارج، وليس للوطن عليهم في رقبتهم سوى دَيْن الانتماء، فيهم الرياضي والفنان والعامل والكادح وذي السلطان غنيهم وفقيرهم كلُّهم قلبٌ على البلد ينبض عطاءا وفيرا وخيرا كثيرا من المال أو الحب أو التضامن او الدعاء مما جَمَّ من أقوى الإيمان او مما نَذَر من أضعف الإيمان…
أما الذين سبق عليهمُ الْقولُ وهُم دائماً من مُعْتَلي المنصات فيهم العلماء الفقهاء الأغنياء الأثرياء الموظفون الوزراء سامي الشخصيات سياسيون ونقابيون وفيهم الفنانون المطربون المغنون المادحون والرسامون التشكيليون والنحاتون والراقصون والراقصات والممثلون والممثلات…فقطعوا أيديهم لا هم من القوم الذين غلوها إلى أعناقهم ولا من القوم الذين بسطوا أيديهم.
حين استصرخ الوطن بأبنائه لنجدة ما تبقى من روح الانتماء، سمع الشعب لدى فئات منه رجع الصدى كدوي الصوت بين الفجاج لا من يرد النداء سوى أولئك الذين أنعموا بقليل الفيئ الذي توزع بينهم وغير بعض ذوي الأريحية من نبتة ثرى الأحرار ومشرق الأنوار…
ليس كل حاجة الوطن من المال وإن كان ضروريا لربح رهان الصحة والحياة في مواجهة الوباء العالمي كوفيد-19، فالمغرب متوقف اليوم وأكثر من أي وقت سبق في تاريخه، الى بعث روح الانتماء في مَنْ تبقى من شعبٍ نهشته التفاهة والاتكالية والجشع والفقر والجهل والاستغلال على مدى نصف قرن ونيف، ثلثا أفراده أحياء ولا يعيشون والباقي كأنهم جِيَفٌ، أجسامٌ بلا أرواح.
حاجة الوطن اليوم إلى إرادة الموج الذي يتناثر على الصخر رذاذا وما يفتأ يعيد الكرَّة ثم يتفتت الصخر ويستحيل رملا والموج على الساحل كَرَّةً بعد كَرَّةٍ، هكذا يحتاج الوطن الى لملمة كل إراداته الصادقة لتجاوز ستين سنة من عمر لا يقاس بالسنين لتجديد الحياة بالتنمية الحقيقية وبناء صروحها بالسواعد المخلصة لاقرار العدالة المجالية والاجتماعية والانسانية في مختلف نواحي الحياة التي ورطت كورونا بلادَنا امام هشاشة بنياتها.
وطني! نِداكَ جوابُهُ عند الذين تراهم اليوم في المستشفيات وفي الشوارع والحواري وداخل بيوتهم وفي الفصول والأقسام ولدى كل من مد اليك اليد البيضاء فعساك غدا ألا تتنكر إذ يحكم القضاء وتلقى الخُلّصَ من أبنائك لقاء الغرباء!
(انتهى)