أدريـان مـتـشـيـل
سياتل :الحبيب الواعي
بينما كنت أشاهد الفيلم الوثائقي القصير” المناولة الكلية لفت ٳنتباهي شاعر ملتزم لم يلتفت إليهم الناقد العربي كما التفت إلى شعراء الكلاسيكية و الرومانسية و الحداثة الانجليزية. يتعلق الأمر بالشاعر الانجليزي أدريان متشيل الذي سيلقي قصيدته المشهورة “إلى من يهمه الأمر” إلى جانب شعراء مرموقين قد أبانوا منذ عقود عن التزامهم بالدفاع عن الحريات المدنية و وقفوا ضد كل أشكال التفرقة العرقية و العنف و الحروب الدائرة آنذاك.
يعتبر هذا الفيلم الوثائقي-“المناولة الكلية”- من أبرز الأفلام الوثائقية التي تؤرخ لبداية الحركة المناهضة للثقافة النخبوية و التي زرع بذورها الأولى شعراء و كتاب و فناني “جيل البيت” أو ما يطلق عليه “جيل الإيقاع”بأمريكا خلال فترة الخمسينات. ويوثق هذا الفيلم لقراءات شعرية لشعراء من الولايات المتحدة ( غريغوري كورسو و لورنس فيرلينغيتي و ألين غينسبرغ) والمملكة المتحدة( هاري فنلايت ومايكل هوروفتز و أدريان ميتشل) و النمساوي ٳرنست ياندل وقد استضاف هذا التظاهرة مدمن المخدرات الأسطوري الاسكتلندي ألكسندر تروكاي.
استمعت باهتمام كبير للقراءات المختلفة والأخاذة لكل من غينسبرغ و كورسو و فيرلنغيتي غير أن انتباهي قد جذبه لأول مرة شاعر انجليزي لم يشار إليه في أنثولوجيا الشعر الانجليزي المدرس في قاعات الجامعات الرسمية. بدا أدريان متشيل على الخشبة مطمئنا مثل شخص يتوجه بخطاب نحو جمهوره الذي كان ينتظره وعلى وجهه علامات الأسى و التحسر و اتضح لي على محياه عمق انشغاله بالقضية التي يتناولها في قصيدته عندما بدأ يلقيها دون أن ينظر إلى كراسته. لم يحرك الأسلوب الفكاهي المتهكم ، و الذي يمزجه بعبارات تنم عن معانات الحرب القاسية، شيئا من رباطة جأشه.
ولد أدريان متشيل عام 1932 بهامبستيد هيث شمال لندن في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى حيث كان أبوه يشتغل باحثا كيميائيا وكانت أمه تشتغل مدرسة. تلقى متشيل تعليمه الابتدائي بمدرسة مونكتن كومب و انتقل بعد ذلك إلى مدرسة دونتسيز حيث سيؤدي الخدمة العسكرية قبل أن يلتحق بجامعة أوكسفورد التي و تقلد منصب رئيس جمعية الشعر بنفس الجامعة و عمل محررا لمجلتها الموسومة بٳسيس. و بعد تخرجه عمل متشيل مراسلا صحفيا لقنوات وجرائد عدة من أهمها أوكسفورد ميل و ساندي تايمز قبل أن يتفرغ تماما في منتصف الستينات لكتابة الشعر و المسرح و الرواية. من أهم مؤلفات متشيل نذكر
“قصائد حب للحرب العالمية الثالثة” ، “امتطي الكابوس”، ” الظل يعلم: قصائد 2001-2004″ و”قلب في الجهة اليسرى: قصائد 1953-1984″. و من رواياته نذكر ” الحارس الشخصي” و “زمن الحرب” و” إن رأيتني قادما”.
لعب الوسط العائلي الذي ترعرع فيه الشاعر متشيل دورا كبيرا في بلورة وعيه السياسي حيث تلقى مبادئ الشيوعية من أمه التي “شجع[ته]على الجدال”منذ نعومة أظافره نتيجة فقدانها لاثنين من أشقائها خلال الحرب العالمية الأولى، كما استفاد كثيرا من تجربة والده الذي عانى أيضا من مآسي الخنادق، والذي قال عنه أدريان “أرسل-أي أبوه- من قبل الملك إلى الجحيم في تنورته”. يلتزم ميتشل بكتابة شعرية متميزة تسمح بانضواء جميع الفئات الاجتماعية تحت لواءها وربما اشتهر أكثر بقوله في مقدمة أول ديوان له و المعنون ب “قصائد” أن “معظم الناس يتجاهلون معظم ما كتب من الشعر لأن معظم ما كتب من الشعر يتجاهل معظم الناس”. وهكذا فأعمال أدريان متشيل تتناول مواضيع مشتركة بين أفراد الثقافات المختلفة في قالب لغوي واضح وحديث يستمتع القارئ بإيقاعاته القوية و التي تشبه في كثير من الأحيان موسيقى البلوز و البوب كما تستمد قواعدها من موروث القانون الشعري السابق.
عندما يتصفح القارئ بعض كتابات متشيل يلاحظ أن العديد من قصائده ومسرحياته تسلط الضوء على مواضيع البراءة والتجربة في مرحلة الطفولة سابرة أغوار الخطوط الفاصلة بين مصلحته الشخصية ومصالح الآخرين. وقد شارك ميتشل في قراءات شعرية عديدة، وخاصة تلك التي تتعلق بقضايا لها علاقة بالتوجه اليساري و كان الهجاء من السمات المميزة لشعره. و يذكر انه كلف بكتابة قصيدة عن الأمير تشارلز وعلاقته بشعب الغال باعتباره أمير بلاد الغال فكان رده موجزا وبليغا: “الملكية عصاب. أتمنى لك الشفاء العاجل.” وهكذا فمتشيل تميز بوضوح مواقفه السياسية و لم يتوانى قط عن التأكيد على اختياراته السياسية كما في قصيدته “ورقة الشجر الطليقة” حيث يقول:
دماغي اشتراكي
قلبي فوضوي
عيناي مسالمتين
دمي ثوري
ويرتكز الالتزام السياسي لمتشيل على التأكيد على أهمية السلم و السلام في حياة الإنسان الذي يعتبره كائنا مقدسا وقد برز للأنظار و جذب انتباه الجمهور أثناء الاحتجاجات الكثيفة ضد الأسلحة النووية في ساحة ترافالغارسنه1964 وحرب الفيتنام خلال سنة 1965 مما دفع بمجلة “الـريـد بـيـبـر” المستقلة إلى انتخابه شاعر الدولة. وجنبا إلى جنب مع أصدقائه يفغيني ييفتوشينكو و أندريه فوزنيسينسكي و كريستوفر لوغ و كتاب ” جيل البيت” وموسيقيي الروك كان ميتشل من الشعراء السباقين الذين أعادوا للشعر الانجليزي المعاصر صوته وجسده وموسيقاه وقلبه الذي يحيا به. يمكن أن نصف أدريان متشيل بترسايتس العصر الحديث نظرا لكونه يعبر في مجمل كتاباته عن مناهضته للحرب و الاستغلال بشتى أشكاله.
و من أهم اللحظات التي ميزت حياة متشيل الإبداعية تلك التي شارك فيها في تظاهرة الشعر العالمي في قاعة رويال ألبرت عام 1965 فقد أثارت قصيدته “لمن يهمه الأمر” وطريقة إلقائه مشاعر زملائه و الحضور الكبير الذي بلغ 7000 شخص. يقول متشيل عن قصيدته “إنها حقا هجاء لأولئك الذين يفرون و يقولون من فضلك لا تريني صور وأفلام حرق الناس، ذاك ما يؤلمني …. إن الفرار هو ما نميل جميعا إلى القيام به، وكما تعلم، أنت تفعل ذلك، وأنا أفعل ذلك. هناك ما يستحق الهجاء في كل شخص منا”(ميتشل). و قد أصبحت قصيدته “لمن يهمه الأمر”، بلازمتها التي تذكر بلازمة يرددها الصبية للإعلان عن المنهزم، نشيدا وطنيا يردده أنصار حركة “أوقفوا الحرب ” و مثلت كذلك دليلا صارخا على التجديد الذي شهده الشعر. يعكس متشيل في قصيدته “لمن يهمه الأمر” رد فعله الساخر اتجاه أهوال حرب الفيتنام المدمرة التي ينقلها التلفزيون ببرودة دم كما أراد كذلك أن يعبر عن سخطه اتجاه قوانين التجنيد الإجباري التي تفرضها الحكومة الانجليزية و التي قال عنها في مقابلة له بأنها ترسل أبنائنا ” ليقاتلوا في حرب الرجل الأبيض- وهو ما يحدث الآن في الفيتنام- وستقود إلى حرب عالمية من المحتمل أن تستمر لعشرون أو ثلاثون سنة إن حالفنا الحظ”.
تتناول قصيدة متشيل “لمن يهمه الأمر” تفاصيل حياة الجنود العائدين من حرب الفيتنام الطاحنة خاصة أولئك الدين لم يستطيعوا نسيان ذكريات الحرب المؤرقة. ويظهر الجندي العائد من الحرب علامات الإجهاد والكرب حيث لم يعد يستطيع أن يقوم بأبسط أمور حياته الشخصية التي تحولت إلى كابوس. أصبح الاستيقاظ على رنين المنبه حدثا يعيده إلى ضوضاء وغوغاء ساحة الوغى حيث ترمى القنابل على الشعب الفيتنامي وأصبحت رائحة النعناع المحترق تذكره بالجثث المتلاشية في ساحة المعركة. وهكذا أصبح الجندي العائد من حرب الفيتنام غير قادر على التأقلم والتعامل مع الأشياء البسيطة في حياته اليومية ويبدو أن الحل الوحيد أمامه هو أن يتجرع آلامه بمشروب الويسكي كي ينسى كابوس الدمار. كان لقصيدة متشيل وقع جميل و مؤثر على المتلقي لأنها اعتمدت أسلوب الغنائية عبر اللازمة التي رددها الشاعر كلما أنهى مقطعا من قصيدته و بذلك منح للمستمع الفرصة كي يتتبع الروتين اليومي المجهد للجندي العائد و يتفاعل مع تجربته الشخصية. لم يتوانى أدريان متشيل في التعبير عن نبذه للعنف و الحروب فقد قرأ في مناسبات عدة قصيدته ” لمن يهمه الأمر” و لعل من أهم هذه المناسبات المحزنة الحربين الأخيرتين التي شنتهما الولايات المتحدة الأمريكية على العراق و أفغانستان