يوميات الصحفي يونس الخراشي بروسيا. الحلقة (06)..”زوربا الروسي”..

يوميات الصحفي يونس الخراشي بروسيا. الحلقة (06)..”زوربا الروسي”..

- ‎فيإعلام و تعليم
342
0

يونس الخراشي

 

 

سائق الطاكسي، الذي قادنا من مركز سان بتيرسبورغ إلى المطار، يشبه شخصية روائية. وكأني بنفسي لم أركب معه في السيارة، بل قرأت عنه. فهو وسيارته عالم عجيب. إنه زوربا روسي حقيقي. كله يوحي بماض مثير، رجراج، لم يستقر فيه على حال. أما حاضره ففيه الكثير من البحث المضني عن المال، فقط لشراء قنينة جديدة، أو قطعة حشيش. وهلم دينا على دين. فلتضحك الحياة، وليبقى الموت بعيدا.

كنا نقف فوق الرصيف في انتظار سيارة أجرة. ولأن الرجال أمثال هذا فطنون أكثر من اللازم، فقد توقف فجأة، كما لو أنه سقط من عل. خرج برشاقة من سيارته. قال لنا:”أنتم بحاجة إلى طاكسي؟”. وقبل أن نرد عليه، بادرنا:”أنتم أكثر من أربعة، إذن سيارتا أجرة، وليست واحدة”. ثم نهر سائقا آخر توقف يقترح سيارته علينا. قال إنه لا يحبذه. كما لو أنه من سيذهب إلى المطار، ولسنا نحن. سرعان ما صار يقرر.

حين وضع حقائبنا في صندوق سيارته، نصحنا بالمسارعة إلى الركوب. اشترطنا أن يحدد الثمن. ثم صعدنا. فإذا به يتوقف بعد مسافة غير بعيدة، وينزل. أزال علامة الطاكسي من فوق سيارته. وضعها بالداخل. وحين عاد إلى مكانه قال لنا وهو يضحك، فتبدو أسنانه مرصوفة رغم حياته الصعبة:”الآن باي باي، وليشبع صديقنا نوما (السائق الثاني)”. وانطلق كما لو أنه في سباق حقيقي. السرعة القصوى. يا للعجب.

لأول مرة، منذ جئنا إلى روسيا، أشاهد سائقا بهذا التهور. الأول الذي تجاوز السرعة المفترضة. الأول الذي تخطى الضوأ الأحمر. والأول الذي استخدم المنبه، والأول الذي قرر أن يختار طريقه نحو المطار البعيد من حيث يريد. اتجه نحو الطريق السيار. وما أن اقترب من محطة الدفع حتى قال:”ستزيدونني مائة روبل مقابل الأداء. ألستم ترغبون في الوصول بسرعة؟”. فهمنا جميعنا ذلك، رغم أنه كان يتحدث بالروسية.

في لحظة من اللحظات، وكان السائق مهتما بالطريق، قال كأنما تذكر شيئا:”من أي البلاد أنتم؟”. قلنا نحن من المغرب. قال:”مزولمانو”. قلنا نعم. قال:”أنا مزولمانو”. وراح يغني لنفسه. وبين الفينة والأخرى يقول كلمة أو كلمتين. يضحك أو يغرق في التفكير. ثم يصرخ في وجه سائق يرى أنه يعطل حركته السريعة. ولا يقف به الأمر عند ذلك الحد، بل يغضب، فتراه يتجاوز من أمامه دون أي حساب لما قد ينجم عن ذلك.

بدا في حدود الستين من العمر. وجهه الحليق ما يزال شابا. عيناه يقظتان، بلا نظارات. جسمه النحيل رياضي بحث. أسنانه تدل على رجل مدخن وسكير. يلبس قميصا عاديا وسروالا مصنوعا من ثوب رخيص. لكنه أنيق، ويأسر من حوله بثقته في نفسه. طريقته في السياقة تؤكد أنه يعرف كل خبايا المدينة، بأهلها وبنيانها؛ خاصها وعامها. ولا شك أن الناس في سان بتيرسبورغ يعرفونه. وحتى من لا يعرفه فلابد أن يكون سمع عنه، وتمنى لو يشاهده مرة.

إنه من ذلك النوع من الرجال الذين يبغضون تحمل المسؤوليات. يعيش دون أي حساب لما سيأتي. يبقى شابا باستمرار. قد يغير كل شيء في لحظة من أجل حلم نزق. يرحل من مدينته. يترك المسكن. يتخلى عن الزوجة والأولاد. يبيع سيارته. ينام حتى منتصف النهار. يعطي عابرا كل ماله. يبيت في ملابسه. يعود إلى المنزل الأول فجأة، ودون أن يقدم اعتذارا. يجرب مهنة أخرى. يعشق مجددا. يغير القطار. يحارب. يناضل. يسجن. يغيب بلا وداع. وينقذ شابة من براثن مجرم خطير. يطفئ حريقا. يشعل سيجارة ليست له.

قال فجأة:”أريد أن أسمع الموسيقى المغربية”. أطلق أحدنا قطعا للعيطة من أجله. أمال لها رأسه، وراح يهمهم. ثم إذا به يستخرج هاتفه المحمول من جيبه، ويربطه بمكبرات السيارة. يطلق العنان لموسيقى طاجيكية. يرفع الصوت إلى الأقصى. يشرع في الغناء. يمرح ويفرح ونحن نشرع في تصويره. يحرك كتفيه راقصا. ويسرع أكثر فأكثر. يلتفت. يركز. يحك جبهته وصلعته. يقول شيئا ما يبدو أنه عبارة عن تهنئة لنفسه كونه تفوق على السائق الثاني.

بقي الصوت مرتفعا ونحن نخترق الطريق السيار، ومن حولنا الكثير من المساحات الفسيحة. وكلما جال النظر داخل السيارة، اكتشفنا إلى أي حد تشبهه في نزقه. فهي مهملة، ومع ذلك أنيقة. وهي قديمة، ولكنها شابة. وهي بلا إكسوزارات، غير أنها تفي بالغرض. وهي بوجه فيه صدأ وخدوش، ولكنها تغلب سيارات أخرى غيرها سرعة وحضور بديهة. وهي بلون أبيض، وكأنها بلا لون. أو لنقل إن لونها يحتج كون صاحب السيارة لا يهتم بغسلها وبصباغتها.

عدنما انتهت الرحلة، وحصلنا على متاع السفر، قال الرجل وهو يحصل على ماله:”أعطوني مائة روبل أخرى من فضلكم”. ثم إذا بوجهه يكفهر وقد قال له زميل:”نحن نفذنا ما اتفقنا عليه. فلا داعي لأن تطلب شيئا آخر”. زاد الغضب الصامت. وما أن أُعطي المائة، حتى ضحك مثل طفل. بل وقال:”مزليمانو رجل حقيقي”. ثم اندس مثل قط في السيارة العجيبة، وانطلق كما لو أنه يسابق في رياضة الفورمولا وان. تاركا لنا قصة مثيرة، لرجل نزق لم نر مثله في مدينة سان بتيرسبورغ الهادئة الوديعة.

في المطار، بقي شيء من “زوربا الروسي” في حديثنا. كل منا لاحظ شيئا يخصه في الرجل وسيارته. أما زملاؤنا الذين وصلوا لاحقا، فقد فاتهم أن يلتقوا بالبطل في روايتنا. قلنا لهم إننا كنا مع رجل استثنائي. ورحت أحكي لهم، حتى ظننت أن الأمر يتعلق فعلا بشيء لم يحدث. تخيلته فقط. إنه فعلا خيال. ولا أشك لحظة أن سان بتيرسبورغ كلها تعرفه. ومن لا يعرفه يتمنى لو يعرفه.

 

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت