خاص . الكاتب الفلسطيني سعيد البرغوثي يكتب: المغرب وقشرة البرتقال! بلد ساحر مفتوح على الشرق والغرب

خاص . الكاتب الفلسطيني سعيد البرغوثي يكتب: المغرب وقشرة البرتقال! بلد ساحر مفتوح على الشرق والغرب

- ‎فيرأي
528
1

 

دمشق – سعيد البرغوثي

 

كتب المبدع غسان كنفاني في رواية «العاشق» التي حال استشهاده دون إتمامها، كتب يقول: «أحياناً ينحرف الماعز الأكبر في القطيع وراء قشرة برتقالة، فيتبعه القطيع بأكمله، وقد يجتاز سياجاً فيشتبك الرعاة بالمزارعين ويموت ناسٌ وتُفقد دوابٌ وتُعقد ولائم الصلح،  فيأكل فقراء القرية ومجانينها وأطفالها العراة وخيلها وبقرها، ويرى مدعو ما فتاة ما هناك فيخطبها ويتزوجها وتُنجب له أولاداً وبناتاً يعيشون ويموتون، ويمشي في جنازاتهم رجالٌ لا يعرفونهم خطوات السنة العشر، ويتحدثون وقد يتفقون على شيء أو يتشاجرون».

قشرة البرتقال أثّرت بل ربما غيّرت مسار حياة معظم  من عرفتهم على غير ما حلموا أو خطّطوا..

كنا مجموعة من الشباب الحالمين، عيوننا وقلوبنا تتوجه إلى فلسطين، وتحكم سلوكنا وإيقاع  حياتنا، ونظرتنا إلى المستقبل..

كنت واحداً بين ثلاثة قرروا عبر حلم طوباوي، تعلّم ثلاث لغات  حية وإتقانها، وشراء ثلاثة جمال،  نمضي بها في رحلة طويلة عبر أوروبا، لنعقد هناك لقاءات ومؤتمرات صحفية،  نطرح عبرها قضيتنا، ونشرحها لأوساط غربية اعتادت في ذلك الوقت سماع القصة من جانب واحد، وكنا على يقين بأننا سنحتل مع جمالنا وحكايتنا العادلة صدر وعناوين الصحف والمجلات والمنابر الإعلامية.. لكن قشرة البرتقال انتهت بكل واحد منا إلى جهة من أصقاع المعمورة ربما لم تكن تخطر له على بال..

الخليل بن الفرج كان واحداً من هؤلاء، وكان شعلة نشاط وحيوية، وكنا الأسدي والراهب وفلاّحة ويعقوب وآخرون نتحلق إلى جانبه ليروي بعضاً من قصّه الطريف، وكان يبدأه دائماً على طريقة الهمذاني بديع الزمان بالقول: حدثنا الخليل بن الفرج قال، ويذهب العيلبوني بروّيه الذي ينوس بين الشعر والنثر والقص، ساكباً الواقع بفيض من الخيال الساحر..

ذهبت قشرة البرتقال بالخليل بن الفرج إلى إمارة «أبو ظبي»، وهناك قطف حقلاً من البرتقال والياسمين، ومن هناك وقد انخرط بالمشهد الإعلامي أعلن بصوته من إذاعة «أبو ظبي» خبر قيام  دولة الإمارات العربية المتحدة، وللدولة الوليدة كتب العديد من الأغنيات، وأخذه الشعر للعمل مع واحد من أبرز شعرائها، ومن  أهم رموزها الوطنية، الذي رسم السياسة النفطية للدولة الفتية لعدة عقود. وقادته رحلة الوفاء مع الرجل إلى المغرب أرض السحر والطيبة والجمال.

هناك سمع نداءً قادماً من بعيد، ناشدني التريث قليلاً لاسترداد أنفاسه، فالصوت غاب عنه قرابة ثلاثين عاماً.. تعال يا صديقي، فروحي ظمأى، تعال نستعيد شيئاً من الماضي الجميل، تعال نستعيد فلسطين، وهل غابت عنه فلسطين؟!

فلسطين التي سكنت روح العيلبوني رغم العهر والخراب والهزائم، سكنت أيضاً أرواح المغاربة وضمائرهم، كانت تتجسد لديهم بالفلسطيني العابر والمقيم والزائر، هناك تغمرك  الابتسامات المشرقة، والاحتضان النبيل، فعبرك يحتضنون فلسطين.

يتذكر، بائع الخضار والفواكه في الجزائر، حيث ذهبت به قشرة البرتقال إلى هناك بمطلع الستينيات، بائع  الخضار والفواكه وقد علم أنني فلسطيني تقدم مني واحتضنني «إنت من القدس الشريف؟ اسمع خُويا كل يوم  تْجي وترفع حْوايجك وما تخلّص والو» كان الرجل يحدثني باللهجة الجزائرية التي تسمى «الهَدْرَه»، ويعني «اسمع يا أخي كل يوم تأتي وتأخذ حاجاتك ولا تدفع شيئاً» ، ولم يُجدِ الحاحي ليأخذ جزءاً من ثمن ما اشتريته، وأضاف: «هيا، ارفع حْوايجك وبالسلامة وتجيني غدوه».

من شارع  ديدوش مراد في الجزائر العاصمة، كان يدلف إلى مكتب فلسطين عبر شارع فيكتور هيجو،  حيث كان العشاق يجلسون على مقاعد خشبية مظللين بسعفات شجيرات نخيل تكاد تلامس الأرض، وتحجبهم عن عيون المتطفلين. وفي مكتب فلسطين التقى للمرة الأولى بالشهيد خليل الوزير، وبترتيب مع السلطات الجزائرية اصطحب عشرات من المعلمين الفلسطينيين إلى معسكر تدريب بجبال الشريعة الشاهقة التي أرهقت القوات الفرنسية أيام حرب الاستقلال، هناك التقى بجموع من الوجوه الإفريقية السمراء الذين كانوا يتلقون التدريب، وعلى أيديهم تحررت أفريقيا السوداء من كل أشكال الاستعمار. قائد المعسكر صافح الفلسطينيين فرداً فرداً مؤكداً أن الجزائر لن تنجز استقلالها الحقيقي إلا بعد تحرير فلسطين..

رحل خليل الوزير كما رحل العديد من المناضلين الفلسطينيين.. جورج حبش، غسان كنفاني، طلعت يعقوب، كمال ناصر، كمال عدوان، فتحي الشقاقي.. والقائمة تطول..

أقف أمام أضرحتهم بمقبرة الشهداء في الشام، وأشعر بصخرة تستوطن حلقي وأنا ألمح الحلم الفلسطيني الذي ضحى أولئك المناضلين من أجله، ينأى وينأى عبر سيل من العهر والقهر والفساد، انتهى بالمفاوضين والمقاومين إلى صقيع شتاء مظلم مديد من غير معاطف!

قشرة البرتقال عادت به إلى الشام، وهناك التقى الجزائري الزاوي أمين حيث كان يعد للدكتوراه، وحيث كتب روايته الأولى «صهيل الجسد»، التي بشرت بواحد من ألمع الروائيين الجزائريين والعرب، وبدعوة من الزاوي وقرينته الشاعرة ربيعة الجلطي عاد إلى الجزائر بعد ثلاثين عاماً من الغياب،  دلف إلى شارع فيكتور هيجو كما كان يفعل أيام زمان، تلاشت مقاعد العشاق، صعّد بصره إلى شجرات النخيل المتعالية، واكتشف كم تقدّم به العمر!

في أروقة «سفارة» فلسطين، التي كانت تعرف بمكتب فلسطين، احتاج إلى كم هائل من التماسك تفادياً للبكاء، فكل شيء قد تغيّر.

يا مغرب.. يا مغرب

من أين أتيت بكل ضحاياك

إن العالم كل العالم يعجب

من أين أتيت بكل ضحاياك

لك مني ملحمة كبرى

يا من ستكون إلى يافا أول عائد

يا من ستخط على قمم الأوراس

اسمك واسم الشعب الخالد

لك مني ملحمة كبرى

ولكل شهيد أغنية

سأظل أسطّر وأمزق

حتى أنقل فيها الفرحة

فالشعب سيبحث عن لحن ليردده

وهو يدق الأرض بأقدام مرحه

غنوا أشعاري يا أبطال

مات الصف الأول

اصعد اصعد لا تتردد

مات الصف الثاني اصعد

دس فوق وجوه أحبائك

واذكرهم بعد النصر(*)

في مراكش النخيل العيلبوني ينتظر، عن بعد لاحت أطياف أبنية المدينة الحمراء،  المحروسة بسبع رجال(**)، كل الحسابات البائسة التي طالت الكثيرين وشوهتهم لم تنل من  الخليل بن الفرج، فالوفاء ما زال هو الوفاء..

مراكش حديقة للروح، المصمم الشهير إيف سان رولان  عشقها، وبنى لنفسه قصراً هناك محاطاً بحديقة من أجمل حدائق الأرض، تجاورها حديقة «ماجوريل» التي تختزل نباتات القارات الخمس وأصبحت ملهمة الفنانين والرسامين ومحجاً للسياح. كانت وصية رولان، أن يحرق جسده عند وفاته على الطريقة الهندوسية، وأن يؤتى برماده لينثر على أصص وتراب حديقته. وقد نفّذت وصيته باحتفال مهيب، حضره طيف واسع من أصدقاء رولان ومن عشّاق الجمال. وفي ركن من الحديقة أنشأ صديقه بيير بيرجيه مثوى رمزياً كتب إلى جانبه «صمت» silence، وجميع الزوار يستجيبون لنداء الصمت ويقفون بخشوع أمام المثوى الرمزي.

في مراكش يتحرر البصر وينبسط أمام عينيك الأفق ويغمرك الفضاء والسماء بزرقة مخلصة، فلا حواجز ولا ناطحات سحاب، ويمضي بك البصر مع الأخضر البعيد إلى الأفق الواسع حيث قمم جبال الأطلس المكللة بالبياض، تنتصب حارسة على المدينة الخلاّبة.

أمسيات فولكلورية للعرس المغاربي تعقد كل ليلة في منطقة «الشعيلي»، ومع وليمة عامرة بأطباق الطعام الخاصة بالعرس تُستعرض أنواع من الفولكلور قادمة من كل جهات المغرب على قرع الطبول والغناء. لم يحل الطقس البارد دون تحلّق مئات الزوار لمشاهدة احتفال الخيول أحد عناصر العرس المغربي.

ساحة «الفنا» الواسعة ذات الوجهين، وجه النهار ووجه الليل، في النهار ينتشر مرقِّصو أفاعي الكوبرا، والمشعوذون والسَحَرة، ويغريك المشهد بالدنو لتمتد يد للترحيب والمصافحة، وتُسأل عن اسمك، وما إن تنطق به حتى يبدأ طقس من الهتاف والدعاء بما يشبه حلقة الذكر، تمد يدك لجيبك وتُسهم بنصيب هؤلاء المفرطين بالترحيب والدعاء ليعودوا بتبشيرك بأنك من أهل النعمة والجاه ويطالبونك بالمزيد!

وفي الليل يتغير المشهد، وتزدحم الساحة الواسعة بالزوار والمحليين حيث تنتشر منصات المأكولات المتنوعة، وحلقات الغناء والموسيقى.. ومن ساحة «الفنا» تدلف إلى أسواق المدينة القديمة حيث الصناعات المغربية اليدوية المدهشة التي تغريك باقتنائها عبر مساومة مُرحب بها من باعة طيبين. وعلى ظهر «حنتور» وعلى إيقاع قوائم الخيل تنهي زيارتك بجولة في المدينة المدهشة بمنازلها وشوارعها وحدائقها.

ومهما امتلأت من مراكش، من العسير أن تغادر قلبك مدن أخرى، أغادير بانتظارك، يهيء لك الخليل بن الفرج أسباب الراحة هناك، ولكن، مع غيابه وقد أدمنت حضوره الجميل، يطال  متعتك شيء من العطب! من شرفتك تُطلُّ على بحر الظلمات، ويفاجئك نجيب سرور لينجيك من شرودك:

البحر غضبان ما بيضحكش        أصل الحكاية ما تضحكش

البحر جرحه ما بيدبلش             وجرحنا ولا عمره دبل

ولكن المدينة التي طالها في الخمسينيات زلزال مدمر، برأت من جرحها، واستعادت شبابها. تزور سوقها الشعبي «سوق الأحد»، وتتساءل، من الذي أعطى للسوق اسمه هذا، وتتذكر سوق الجمعة في الشام، وسوق الأربعاء وسوق الخميس في ضواحيها.. أسواق حملت أسماء بعض أيام الأسبوع، في حين لا تقفل أبوابها على مدار أيامه!

يا لدفء المكان، بشرٌ وجماعات من كل الأجناس، تغمرهم محبة أولئك المغاربة بملء أرواحهم.

على ضفاف تلة مطلّة على أغادير، تقرأ ثلاثيةً عرفتها كل مَلَكيات الأرض، وتتساءل، أهو ترتيب عاطفي أم عقلاني، ويمتد السؤال عن موقع الناس الذين يبكون ويضحكون ويجوعون ويبتسمون.. ويمنحونك كل هذا الفرح!

في الدار البيضاء، في معرض الكتاب المتميّز بحداثيته والناجي من الكتب الصفراء، تلتقي بالكتّاب والمفكرين المغاربة بتواضعهم الملفت، ويحضرك ابن عربي بمقولته العميقة «ما نما ظاهر إلا على حساب باطن».

أحمد غيدان الذي فقد سمعه منذ سنوات يقول في إشارة منه لازدحام البشر والحجر والحافلات، يقول مبتسماً: «الطرش ما هواش عيب، وما هواش نقمة، ماكنش في راسي الضجيج والصخب إلي في روسكم، الطرش نعمة»!! في روحه العذبة مشروع شاعر أو روائي.

لحسن وريغ يمنحك فرصة الإطلال على البيت المغربي من الداخل، حيث دفء العائلة الأم والوالد والزوجة والأطفال.

الشاعر إدريس علوش ينصحك «لا تكتمل زيارتك للمغرب ما لم تذهب إلى فاس ومكناس وطنجة».

المترجم أحمد لويزي يشعرك بالخجل عندما تسأله عن تكاليف الترجمة لديه «أنا مترجم هاوي، الفلوس آخر شي نفكر فيه، المهم نقدم حاجة مهمة للناس».

وإذا كانت مراكش مدينة للروح، فالمغرب بأهله الطيبين، وطبيعته الخلابة، حلماً للعيش والبقاء هناك. المفكر الفرنسي الكبير جان جنيه، اختار المغرب مكاناً لمثواه الأبدي.. جثمانه يرقد بسلام في منطقة العرائش على شاطئ الأطلسي.

يلامسك حزن  شفيف، وأنت بين تردد وإحجام تودّع  أصدقاء، وتغادر بلداً احتل حيزاً عميقاً في قلبك ويحضرك قول شوقي أمير الشعراء:

قد يهون العمر إلا ساعة      وتهون الأرض إلا موضعا

سلاماً يا مغرب!

 

(*) من قصيدة أوراس للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.

(**) أسطورة مغربية.

‎تعليق واحد

  1. سعيد البرغوثي

    شكرا للصديق العزيز مصطفى
    الرادقي، وقد أتاح لي الحضور في هذا المنبر الثقافي الإبداعي…وشكرا للقائمين عليه..
    أعترف، أنا مشتعل بالحنين للمغرب، وأهله الطيبين، ولأصدقائي الأوفياء،
    الذين سكنوا قلبي، ولم يغادروه…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت