نحن لم نكن يوما في عداد المشركين ولا من جاحدي نعم المولى عز وجل، حتى يجوز فينا قوله تعالى: “والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم” (سورة محمد، الآية 8)، لينزل بنا اللعنة والبؤس والتعاسة، قد تكون جريرتنا الوحيدة أننا لم نتخلص بعد من طيبتنا، أغرانا بريق مصباح يحمل شعار “العدالة والتنمية” واندفعنا وراء عواطف خادعة نحو نور زائف، لذلك يمكن أن ينطبق علينا ما جاء على لسان الأديب خليل جبران: ” باطلة هي الاعتقادات والتعاليم، التي تجعل الإنسان تعسا في حياته، وكذابة هي العواطف التي تقوده إلى اليأس والحزن والشقاء…” في مؤلفه الرائع “الأرواح المتمردة”، ذلك أننا ولشدة تعطشنا للتغيير ازدادت شحنة الأمل في نفوسنا، حين رأينا رئيس الحكومة السيد: ابن كيران منتشيا بلذة “النصر”، يردد على مسامعنا: “بمجرد تولينا للحكومة انتظروا منا المفاجأة السارة”، ومن غير أن ننتظر طويلا، بدا الرجل لاهثا بدون بوصلة، خابت النبوءة، وجاءت المفاجأة صادمة وغير سارة، ليصاب الشعب بالإحباط الشديد… حقيقة فاتنا أن نتساءل: “كيف لمن فشل في بيع الكتب، أن ينجح في قيادة حكومة بلد من مستوى المغرب؟”
السيد ابن كيران، لم يستطع الصعود إلى مستوى رئاسة الحكومة كما قال غريمه السيد: شباط، بل هي من جشمت نفسها عناء النزول إليه دون أن يحسن احتضانها، معتقدا أنه مازال في المعارضة أسير الأمانة العامة لحزبه “العدالة والتنمية” ذي المرجعية الدينية، ولبث على الدوام رافعا سيف الطهرانية والالتزام، بمكافحة الفساد والاستبداد توعد، لكنه أخلف الوعود ولم يتمكن من الوفاء بتعهداته، كان أضعف مما يكون المنهار في منازلة من اعتبرهم من الأشرار، بعد أن وجدهم شيدوا قلاعا حصينة من النار، بل لم يقدر حتى على تخليق حياة بعض أعضاء حكومته، بدليل إقدام السيد: عبد العظيم الكروج، إبان انتدابه لحقيبة وزارة الوظيفة العمومية في النسخة الأولى من الحكومة، على إرسال هدية بمناسبة ازدياد مولود، وهي عبارة عن علبة من نوع “الشوكولاتة” الرفيع، إلى المصونة زوجته بإحدى المصحات الراقية، كلفت ميزانية الوزارة 33 ألف درهم، ويروج أيضا أن وزيرا آخر من نفس الحزب وصل إلى موقع المسؤولية عبر مبلغ خيالي كرشوة لإحدى الوسيطات من “المناضلات” الشهيرات، وكل ذلك مجرد شبهات في نظره… إن ما يستنزفه الضيوف الأجانب والرواتب الشهرية للوزراء والبرلمانيين الحاليين والمتقاعدين، وما تمتصه سنويا كلفة المحروقات وصيانة وإصلاح أسطول سيارات الدولة، الذي يتجاوز عددها 140 ألف سيارة، متجاوزا بذلك سيارات الدولة في اليابان، كفيل بجعل المغرب في غنى عن نهج سياسة التقشف في مصاريف الإدارة وتجميد ترقيات الموظفين… وعن تلك الهجمة الشرسة على القدرة الشرائية للبسطاء عبر الزيادة في الضرائب ورفع أسعار المحروقات وما نجم عنها من غلاء فاحش، والانقضاض دون سابق إشعار على مبالغ هامة من معاشات بعض فئات المتقاعدين، لسد عجز الميزانية وفتح دائرة الخيال وآفاق التفكير…
ما كان المغرب ليصل إلى هذا المستوى الرهيب من الهشاشة والفقر، لو بترت الأيادي الخفية التي تمتد إلى خيراته، فهو إلى جانب ما يجنيه من أموال عبر مؤسساته العمومية وشبه العمومية، الضرائب المباشرة وغير المباشرة والمساعدات الخارجية، غني بثرواته الباطنية والسطحية وإمكاناته البشرية، إذ يعد خزانا كبيرا للعقول واليد العاملة المدربة والمؤهلة، التي أثبتت جدارتها في الداخل والخارج، ويشكل بموقعه الاستراتيجي ومكانته المتميزة، قبلة للاستثمار الخارجي ولفتح مناطق حرة في الشمال والجنوب، وبثراء تراثه يعتبر مهدا لأعرق الحضارات الإنسانية، له روافد ثقافية أصيلة ومتعددة، معالم تاريخية ومآثر عمرانية، وله أيضا فنون ساحرة في المعمار، الطبخ، الفلكلور والصناعة التقليدية… وقد حباه الله بموارد مادية وطبيعية هائلة، وبمناظر وجنات خلابة تجلب آلاف السياح، فهذا البلد الآمن الذي يزعم السيد ابن كيران السعي إلى إنقاذه من السقوط في الهاوية بتخريجاته الغبية، يتبوأ رتبة متقدمة بين الدول العربية من حيث وضع أموال أثرياء الأسر المخملية في البنوك الغربية بسويسرا وبريطانيا، دون الحديث عن الملايير المهربة والتي لا يخفى عليه بعضها كما اعترف بنفسه في جلسة بالبرلمان أواخر سنة 2013. إن بلدنا من أغنى بلدان شمال إفريقيا على مستوى الأراضي الصالحة للزراعة، ويحظى في ما يتعلق بالصيد البحري، بموقع جغرافي هام يجعله منفتحا على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، ويملك ثروة سمكية كبيرة، غنية ومتنوعة، ما يسمح له دوما بإبرام اتفاقيات الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي واستفادة الخزينة العامة من الملايير بالعملة الأجنبية، ولمن يجهل مقدراته فإنه يتوفر على الرمال والمياه الجوفية والسطحية، يأتي في المرتبة الثانية لتصدير الفوسفاط، وله ثلاثة أرباع من الاحتياطي العالمي، ثم هناك حقول اليورانيوم، الحديد، الرصاص، المنغنيز، الكوبالت، النحاس والفضة والذهب… فضلا عن الصناعة الغذائية، والكيميائية، والصيدلية والبتروكيماوية، والنسيج، صناعة السيارات والطائرات، تركيب السفن، والإسمنت ثم الصناعة الميكانيكية والإلكترونية… أما بالنسبة للطاقة، فقد انخرط مؤخرا في مشروع طموح يهدف إلى توليد طاقة نظيفة ومتجددة، شمسية وهوائية، في انتظار نتائج البحوث الجارية عن الغاز والآبار النفطية…
عوامل كثيرة ساهمت في إفقارنا وضياع حقوقنا، يرتبط جلها بسياسات عمومية متخلفة، تفشي ظاهرة الرشوة، إلغاء الرسوم الجمركية، تبذير المال العام في مناسبات غير مجدية، إعفاءات ضريبية لفئات معينة، التملص الضريبي، تعويضات وأجور خيالية، التهريب بمختلف أنواعه، استنزاف الثروات عبر الامتيازات واقتصاد الريع، سوء التسيير والتدبير وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، انعدام الشجاعة الأدبية في اتخاذ القرارات وغياب الإرادة السياسية… ويبقى الفساد برموزه وسوء الإدارة من أبرز مصادر همومنا ومعاناتنا، فهو قضية شائكة ومتشابكة، ذات جذور عميقة، لها أبعاد خطيرة على حياة المواطن وعلى الدولة نفسها، لذلك تقتضي مكافحته فتح الملفات الكبرى، إنزال العقاب بالمفسدين، قطع دابر اللصوص والمجرمين في كافة الميادين، ووضع إستراتيجية مندمجة وواضحة المعالم، بإشراك جميع الهيئات السياسية والنقابية وفعاليات المجتمع، إنه أكبر من أن تجتثه معاول مؤسسة إدارية أو منظمة مدنية، وباقترانه بالاستبداد يتشكل فتيل لإضرام النيران وتأجيج الاحتقان، مما يهدد باستمرار السلم الاجتماعي واستقرار البلاد، فهل يعقل والمغرب بكل ما أتينا على ذكره من ثروات، أن يتقهقر في عدة مؤشرات من بينها الرشوة مبعث أوجاعنا الاقتصادية والاجتماعية، ثم مؤشر التنمية البشرية فالحرية الاقتصادية وحرية الصحافة والتعبير ومناخ الأعمال؟ وهل من متابعة للمتورطين في ما حمله التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات من مخالفات؟
إننا سنظل نسير على غير هدى ما لم يتحرر السيد ابن كيران من قيود عناده، ويراجع طرق تدبيره للشأن العام، في ما تبقى له من شهور وأيام، بالسهر على حماية الخيرات المتوفرة وتنميتها، والعمل على إنتاج ثروات أخرى، فتح آفاق لاستثمارات جديدة تسهم بفعالية في خلق فرص شغل لشبابنا الضائع، ترشيد النفقات وحسن إدارة الفائض في مشاريع مدرة للدخل ومربحة، استغلال تحويلات المهاجرين والهبات والمساعدات الدولية في تغذية الاقتصاد الوطني وصناعة التنمية… فلن نستقبله يوما بالحجارة ضد عفوه الشامل على المفسدين، ولن نؤاخذه عن عدم قدرته على اتخاذ قرارات من قبيل تخفيض أجور البرلمانيين والوزراء الحاليين والمتقاعدين، واسترجاع الأموال المنهوبة والمهربة، وفرض ضريبة على الثروة… كما أننا لن نرفع في وجهه البطاقة الحمراء عن هدر الزمن السياسي، ولأننا نحترم شرعية الانتخابات، سننتظر نهاية ولاية حكومته مهما كانت هشاشة التجربة وفشلها، تاركين للتاريخ وحده سلطة الحكم، وسنواصل النضال من قلب المجتمع مع الجماهير التواقة للتغيير، إلى حين قدوم حكومة قوية تنهج سياسات بديلة، تعيد لنا حقوقنا وتلبي حاجاتنا الأساسية، وتضمن التوزيع الأمثل والمنصف للثروات وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتمهد السبل الكفيلة بتحقيق النماء والرخاء، في ظل سيادة الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية…
اسماعيل الحلوتي