د محمد فخرالدين
لم تهتم ذات الهمة كثيرا بما وقع ، و قررت أن تنتقم حين يحل الموعد دون تسرع ، و لكل شيء أوان و ليسقط المكر و الخديعة .
كانت تتطلع عبر شرفتها الفسيحة إلى البحر المتلاطم الهادر عبر الأفق لكم حلمت ذات الهمة طويلاً منذ الصغر، ومنذ كانت في الحجاز بركوب هذا البحر والإلمام بأسراره ودفائنه، وتحقق لها غرضها
وكان يحلو لـ ذات الهمة كلما داعبتْ عينيها الخيوطُ الذهبية الأولى للشمس المشرقة، سماع تدريبات جند المسلمين، وتكبيرهم العالي، وهم يدقون الأرض بالأقدام، ويتنادون وهم يتبادلون مهام حراساتهم للموانئ والثغور .
فأعادت نداء الرجال و طلبت منهم الخروج من أجل تطهير بعض الثغور القريبة من مالطينة ، و جهزت السفن فقد اصبحت على دراية واسعة بالمكان، و بمنافذه البحرية، حيث واجهت الجيوش و مؤامرات التحالف الرومي، التي كانت تستهدف النيل من السواحل
تمهيدا لغزو بلاد الخلافة ..
و من جهة اخرى شعرت الاميرة ذات الهمة بكونها حامل و هي تشعر بالجنين يتحرك بين احشائها فكانت تتساءل يا ترى هل انثى ام ذكر و كيف يمكن ان تقدم المولود لقادتها و رجالها .. لم تنكسر ذات الهمة ابدا،و تحملت شهور حملها و لم تتغيب يوما عن مهامها العسيرة في
القيادة و لو بإعطاء الأوامر من وراء حجاب ،و لم تتوقف عن البحث في الكتب القديمة و تأمل الخطط و الخرائط البحرية التي سلمها لها جدها الصحصاح ، انها قريبة من تحقيق الهدف ..
لذلك قررت أنه لا بد ان يبقى الامر في السر حتى لا تؤثر على الحملة العسكرية التي لا تقبل مثل هذه الامور الشخصية ، و انتظرت موعد الإنجاب الذي كان في حضور مرضعتها فقط ،و تم ذلك دون ان يعلم احد ومن العجيب أن لونه كان يميل الى السمرة خلافا لأبيه الحارث ، فلما استكمل من العمر ثلاثة ايام ، جعلته في قماط ، و ضعت إلى جنبه بعض المال و أرسلته مع مرضعتها أم مرزوق و قالت لها :
ـ سيري به الى البعيد و لا تخبري بأمره أحدا، و أعهديه إلى من يهتم به كل الاهتمام ، ورافقيه دون أن تفارقيه حتى أقول لك ..
قالت المرضعة :
ـ سمعا و طاعة يا مولاتي و ما ذا ستسميه ،لا بد أن تطلقي عليه اسما ؟
قالت ذات الهمة :
ـ نسميه عبد الوهاب بن الأميرة ذات الهمة لأنه هبة من الوهاب ..
و كتبت ذلك على ورقة ووضعتها في قصبة من ذهب ،و سلمتها الى أم مرزوق و قالت لها :
ـ احتفظي أيضا بهذه القصبة مع المولود الى حين الحاجة ..
ثم إن المرضعة سارت بالرضيع حتى وصلت الى بادية الحجاز حيث مضارب بني كلاب،و عهدت به الى المرضعات و عاش هناك وسط الأعراب على الفصاحة و الإعراب .
و اما ما كان من امر الاميرة فهي ودعت وليدها و قلبها يتقطع لكن كان لا بد لها ان تقوم بذلك حتى تستمر في قيادة الجند و حماية الثغور و الاستعداد لعظائم الأمور، أما أخبار ابنها عبد الوهاب فقد صارت تصلها باستمرار كما طلبت من مرضعتها الوفية ام مرزوق ..
و عادت الاميرة لقيادة الجيوش و قد استعادت عافيتها و نسيت مكيدة خادمها مرزوق و ابن عمها الحارث ، و أجلت فكرة الانتقام الى ما بعد الوصول الى المطلوب ..
إنها قائدة و تعرف موقع القائدة جيدا و ما يقتضيه من التسامي على الاحقاد الشخصية فالأعداء يتربصون و قد يستغلون كل ضعف منها ، وهذا السمو في التعامل و التعقل هو الذي جعلها تفرض احترامها و تقديرها على الجميع و تنتقل من نصر الى نصر ..
اما ما كان من مرزوق ، فقد طلب من الحارث ان يحكي له بالتفصيل ما سمعه من أخبار، و كيف خدعه و تسلل الى مخدع الاميرة فلم يكن من الحارث إلا الاعتراف له بكل ما حدث وانه لم يخرق الشرع في الاجتماع بها ..
اما مرزوق فقد كان له راي آخر فيما قام به الحارث ، فقد استغل ثقته و لم يخبره بحقيقة ما يخطط له ، حتى جعله يفقد اخلاصه للأميرة ذات الهمة التي تعتبرها اخته من الرضاعة ، و هو الآن لم يعد يستطيع الرجوع الى مالطينة و لا يستطيع رؤية امه منذ ذلك الوقت ، فكان أن دبر حيلة في الحال في القضاء على الحارث و التعجيل بنهايته.
و ظل مرزوق ينتظر ان يهمد غضب ذات الهمة مع الوقت ، و في النهاية عاد إليها من اجل الاعتذار ،و أخبرها بما جرى منه و صار ، و كيف خدعه الحارث بزخارف الأقوال، دافنا في صدره الى الابد سر موت الحارث ..