التحوُّلات الاجتماعية في المغرب وسؤال المآل

التحوُّلات الاجتماعية في المغرب وسؤال المآل

- ‎فيرأي
381
0

محمد بوبكري
يلاحظ المتتبعون أن المجتمع المغربي عرف تحولات خطيرة في العقود الأخيرة، حيث برزت فيه فئات من “الأغنياء الجدد” تعتمد في تمويل معظم أنشطتها الاقتصادية على الاقتراض المفرط من الأبناك، وتسعى بكل قوة إلى الحصول على”توكيلات تجارية” من شركات عالمية كبرى بهدف تسويق منتجاتها، إذ تعمل أساسا على “الاحتكار” في السوق المحلية لتحقيق أرباح كبيرة بدون أدنى منافسة…
إضافة إلى ذلك، لا تهتم هذه الفئات عموما بالإبداع والابتكار، ولا بجودة القليل من السِّلع التي تنتجها لتكون قابلة للتصدير وقادرة على المنافسة في الأسواق العالمية، باستثناء منتجات محدودة جدا. زيادة على ذلك، تتسم معظم أنشطة هذه الفئات بضعف “المسؤولية الاجتماعية”، ما جعلها تندفع بشكل جنوني نحو الاستثمار في المجال العقاري. وهذا ما يُشكِّل مؤشرا على وجود خلل خطير في الاقتصاد المغربي، خصوصا أنه لا يحلُّ فعلا مشكلة السكن اللائق للفئات الوسطى الدنيا والفئات الفقيرة، حيث يتم تجميع أقلية من هاتين الأخيرتين في “غيتوهات” Guettos.
وبما أن المضاربة العقارية ناجمة عن جشع المضاربين ورغبتهم الجامحة في الربح لا غير، فإنها لا تضيف أيَّ شيء للقدرة الإنتاجية للاقتصاد الوطني. وهذا ما يشكِّل أحد الفروق الجوهرية بين سلوك الاستثمار لدى أغلب كبار رجال الأعمال عندنا ونظيره لدى رجال الأعمال في بلدان آسيا الصاعدة الذين يستثمرون الفائض الادِّخاري العائلي والخاص… في قطاعات الإنتاج والتصدير لبلدانهم، فتمكنوا من تحقيق نهضة اقتصادية كبيرة لأوطانهم في فترة زمنية قياسية…
لكن يبدو ضروريا التساؤل عن مشروعية الثروات الكبيرة التي راكمها هؤلاء “الأغنياء الجدد” والأساليب والآليات التي وظفوها لإنجاز ذلك بشكل سريع، حيث تمكَّن أشخاص بسطاء من التحوُّل إلى أصحاب ملايير بسرعة البرق. ويعود ذلك إلى انتشار اقتصاد “الصفقات” و”العمولات”، وتفشِّي ظاهرة الاحتكار وتجارة المخدرات… ما نجم عنه انفصال “العائد” عن “الجهد”، فأصبحنا أمام مشكلة جوهرية أصابت المجتمع بإحباط معنوي كبير، حيث تذهب الملايير مع الريح، وصار الممنوع جائزا!!
وما يثير الانتباه في وضعية مجتمعنا هو خطر اتِّساخ الأموال الذي غدا يمتد إلى الأموال النظيفة، فصارت أقل بياضا وأكثر رمادية. وهذا ما جعلنا أمام ثروات جديدة هي عبارة عن خليط من “المشروع” و”الممنوع”، حيث تسود عقلية الربح السريع، وتطغى الرغبة الجامحة في الحصول على “الغنائم الخاصة” على حساب “المصلحة العامة”.
وإذا كانت هذه هي خصائص “الأغنياء الجدد” الذين يشكلون تيارا مؤثرا في الاقتصاد الوطني حاليا، فمن الطبيعي أن يكون لها تأثير على مستوى البنية الفوقية للمجتمع. وهذا ما جعل مجتمعنا يتحرك بخطى بطيئة، إذ إنه في أمسِّ الحاجة إلى ضخ دماء جديدة صـحِّية في شرايينه… لذلك، ينحصر التجديد الذي عرفه مجتمعنا في بروز “نخبة” جديدة من “الأغنياء الجدد” ليس لديهم مسار معروف، باستثناء قلَّة قليلة منهم.
وقد أسقطنا هذا الوضعُ في “مأزق مزدوج” على الصعيد السياسي، وعلى مستوى حركة المجتمع:
فعلى الصعيد السياسي نجد أن الحاكمين يُصرُّون على الاستئثار بالسلطة والتحكٌّم في كل شيء، في حين نرى أن القوى السياسية الأخرى مصابة بالعقم لأنها عاجزة عن تجديد رؤاها وبرامجها وتنظيماتها… بل أكاد أجزم أنها في طريقها إلى الانقراض.
أما على مستوى حركة المجتمع، فقد تعرضت مُختَلِف فئات المجتمع لتحوُّلاتٍ وتشوُّهاتٍ خلال عقدي الثمانينيّات والتسعينيات من القرن المنصرم وبداية القرن الواحد والعشرين.
فعندما نتأمل الفئات العليا للمجتمع نجد أنها تتكوَّن في غالبيتها من “الأغنياء الجُدد” الذين لم تكن ولادتهم “طبيعية”، حيث ليس لهذه الفئات أي رصيد تاريخي يُذكر، لأن هؤلاء “الأغنياء الجدد” قد كوَّنوا ثرواتهم في وقت قياسي عبر الوساطة والمقاولات والاحتكار والريع، أو من خلال العلاقة برأس المال الأجنبي أو تجارة المخدرات، وليس عبر تراكم إنتاجي طبيعي كالذي نهجته رأسماليات في بلدان نامية في آسيا وأمريكا اللاتينية…
وإذا كانت نواة الفئات الوسطى عندنا قد شكَّلت دواما إمكانية لنهضة المجتمع منذ عهد الحماية، فإنها اليوم مصابة بالشيخوخة، حيث تعاني الإقصاء وتدهور أسلوب الحياة من حيث نمط المعيشة وضعف الخدمة التعليمية والصحية… فتفتَّت، وفقدت جزءا كبيرا من مُقوِّماتها، فأصبحت منهَكَة ماديا ومعنويا، ما جعلها تنسحب من النشاط السياسي، مع أنها تعتبر الدعامة الأساسية لعملية التحوُّل الديمقراطي وتشكِّل الضمانة الأساسية للاستقرار السياسي والتوازن الاجتماعي. فتم توسيع الفروق الاجتماعية بين الفئات العليا وبين الفئات الوسطى وشبه الوسطى. وتجلى ذلك بوضوح في ظهور نمط إسكان جديد، حيث تعيش الفئات العليا والأكثر ثراء في فضاءات باذخة جدا، ما جعل هذا الفصل المكاني والطبقي بين مخلف فئات المجتمع ينعكس بشدَّة على نوعية المدارس الخاصة بأبناء كل فئة وأماكن ترفيه أفرادها وتسوُّقهم وأنماط سلوكهم… وبذلك، أصبحنا أمام نوع من “الأبَّارتايد” الجديد…
إضافة إلى ذلك، تتعرض الفئات الشعبية في بلادنا منذ السبعينيات، بشكل مستمر، لعمليات التهميش والإقصاء والتشويش الفكري وتعدُّد أساليب العيش إلى حدِّ ممارسة التسوّل، واحتراف كل الأساليب للتحايل على الحياة اليومية. لذلك نجدها ضحية للتشغيل غير المنتظم وفقدان البوصلة. وهذا ما جعل أغلبيتها تتحول إلى مستودع لأدوات ممارسة العنف والإرهاب والبلطجة…
ومن الطبيعي أن تكون لهذه الظواهر انعكاسات سلبية على العملية السياسية ومسارها، وقد برزت آثارها في “الانتخابات”، حيث تأكد بوضوح انسحاب الأغلبية الساحقة من أفراد الفئات الوسطى من المشاركة في العملية السياسية، وسيادة نفوذ المال الفاسد، وتوظيف المنحرفين لممارسة العنف على المنافسين.
لكن ذلك لا يساعد فقط على فهم مشكلات الماضي والحاضر، بل إنه أيضا يَدقُّ ناقوس الأخطار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدِّد مجتمعنا حاضرا ومستقبلا، ما يستدعي إعادة النظر في الرؤى والأساليب والأدوار والأدوات حتى لا نسقط في ما هو أسوأ وأخطر…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت