نهاية زعيم .. استثنائي

نهاية زعيم .. استثنائي

- ‎فيرأي
1519
0

 

د. محمد طروسtarous

 

ينفتح باب قاعة الاجتماعات بمقر المركزية النقابية العتيدة. تتوسطها مائدة بيضوية. تتزين جدرانها بصور للزعيم الخالد، لزعماء الحركة العمالية العالمية. تمتلئ جنباتها بصفوة المنتظرين من الأطر والقادة المقربين. يتلفت الجميع نحو المدخل. يقفون إجلالا لطلعة الزعيم الأبدي. يُطل الزعيم في بذلته العمالية العصرية، حريريةِ الثوب. ينظر إلى الحاضرين بعينين ذابلتين. يتلمس شَنَبَه الستاليني. تنحبس الأنفاس, يتقدم الزعيم محاطا بزبانيته، المقربة جدا. يجر خطواته جرًّا. يستعين بعكاز وهمي، بدعوات المريدين. تنشرح الأسارير. تتعالى التصفيقات. تتسابق عبارات الترحيب والتعظيم. ينتفخ جسد الزعيم النحيف المترهِّل انتشاءً. يُشير كبير الزبانية إلى القاعة بالجلوس. يستجيبون في انضباط. يتحلقون حول المائدة حسب الرتب ودرجات القرب. يأخذ الزعيم مكانه في صدارة المائدة. تتجول نظرات عينيه الذابلتين. تتفحص الوجوه. تستقرئ الأفكار. تنشر الرعب. يرسم على وجهه المتجعد ابتسامة ماكرة قديمة. تبتسم الوجوه من حوله، حامدةً شاكرة. تنفتح الآذان المليئة بالوقْر. تستعد لاستقبال تعاليم ورضا الزعيم المبجل. ينطق الزعيم بما تبقى من صوت، تآكلت حِبالُه مع توالي السنين والخطابات: ” مناضليَّ الأعزاء. لا شك أنكم تعرفون أسباب هذا الاجتماع الهام” يهمهم الحاضرون بالإيجاب.” يسترسل الزعيم: ” غدا اليوم المشهود. غدا يوم عيدنا. عيد العمال”. يصرخ الجميع في نغمة شعارية: ” أنت العيد. العيد أنت. أنت المجد. المجد أنت. أنت العمال. العمال أنت”. يبتسم الزعيم. ينشرح كبير الزبانية لأداء الجوقة المنتقاة بعناية. يستغل الفرصة للكلام: ” أيها الزعيم المبجل. ليس لنا سوى هذا العيد الكبير لننْشر رسالتكم، ونُعرف بأفضالكم على العمال، وصراعكم مع الحكومة المتعجرفة، المتكبرة، آكلةِ لحوم العمال. أمامكم ياسيدي تقرير مفصل عن كل الاستعدادات والترتيبات المتخذة، حتى يكون ظهوركم يوم العيد ملائما لطلعتكم الجليلة. وأرجو أن تأذنوا لمساعدي الأقرب، خادمكم الوفي، بتقديم النقط العريضة لهذا التقرير” يفتح الزعيم عينيه الغافيتين المتعبتين إيذاناً بالقراءة. يقف الرجل الثالث، يتمدد جسمه البدين، تبرز بطنُه الضخمة من قميصه الضيق. تخرج كلماته ممزوجة بلعابه المتطاير: ” أيها الزعيم المبجل. بعد احترام الكبير، وإخلاصي الدائم، اسمحوا لي أن أخبركم أن اللجنة، التي حظيت بشرف تعيينكم، قد طبقت تعليماتكم بحرفية متناهية. وبكل حماس وإيمان. لقد فتحنا عيوننا، وشرعنا آذاننا، وأغلقنا أفواهنا”. ينتفض الزعيم في نبرة حازمة، متظاهرا بقدرته على التتبع والتنظيم: ” ادخل مباشرة إلى النتائج. ماذا حققتم؟”. ينكمش المناضل البدين. يتدخل شاب خمسيني طموح، يؤمن بتحقيق المستحيل، بتشبيب الزعامة، والتميز داخل الصفوة: ” زعيمي المبجل. لقد أنجزنا كل ما أمرتمونا. قمنا بتسخين الأجواء، بتصعيد الخطاب. وتصيدنا عيوب الحكومة، ومثالب المسؤولين العموميين، وهفوات أرباب الأعمال. ونحتنا الشعارات المُعبِّئة، والأجوبة المُفحِمة، والعبارات الرنانة” يتحرك رأس الزعيم في مغالبة يائسة للعياء والنوم. يعتقد الجميع أنه أعجب بحماس الشاب الخمسيني. يشعر كبير الزبانية، الزعيم المتنظر، بنوع من التحدي والغيرة. يتدارك الموقف: ” سيدي. لقد أعددنا لكم خطبة عصماء، مستلهمة من بلاغتكم الفذة، وفصاحتكم الأصيلة، وقدرتكم على الإفحام والإقناع. لقد أعددنا لكم منصة ظليلة، واكترينا كرسيا مريحا يليق بهيبتكم الموقرة، وسخَّرنا التكنولوجيات الحديثة جدا لتصل خطبتكم إلى كل المتلقين المباشرين وغير المباشرين، بل إلى العالم أجمع. نحن تلامذتكم أيها الزعيم المبجل”.
يفتح الزعيم عينيه الراقدتين. يمسح الشعيرات المتبقية فوق رأسه. يضع اصبعه على شنبه الستاليني. يبدو وكأنه يُقيِّم في صمتٍ عمل المجموعة. تنحبس الأنفاس. تترقب العيون. يسود الصمت. ينفتح فم الزعيم أخيرا: ” جميل. حميل. عمل يستحق التنويه. الخطاب. الوسائل اللوجستية. هذه أشياء أعرفها جيدا. أنسيتم أني أستاذكم في المجال. ما يشغلني حقا هو الجماهير. أقصد المناضلين المنخرطين في نقابتي العتيدة. أترضون أن ألقيَ خطابي أمام الأشباح”؟ يصرخ بعنف: “أين العمال؟” . تشعر اللجنة الموسّعة بالحرج. يتدخل المسؤول على التنظيم لينقذ الموقف: ” العمال موجودون ياسيدي. ستكون الساحة مكتظة، غاصة بمن يرددون خطابكم وعباراتكم وأفكاركم. أنتم أعلم، سيدي، أن ما تبقي من أشباه معامل قد تم إغلاقها، أن المستثمرين الأجانب قد وجدوا ضالتهم في عمق القارة، أو في آفاق واعدة. سيدي. نظرا للأزمة الاقتصادية العالمية والعولمة المتوحشة، وبحث الحكومة عن التوازنات، وتخليها عن تشجيع الاستثمار، أصبح تأثيث التظاهرات بعمال حقيقيين أمرا عسيرا”. انتفض الزعيم، بالرغم من جسده المترهل: ” كلام تافه. يؤلمني أن أكون محاطا بالعجزة. لا أريد هذه التبريرات البليدة. أريد أن تكون جنبات ورقعة الملعب ممتلئة عن آخرها”. يتدخل الرجل الثاني في القيادة ليطمئن الزعيم: ” وهل يعقل هذا؟ هل يمكن أن يحتفل الزعيم بعيد العمال بدون عمال؟. لا تنزعجوا ياسيدي. لقد خصصنا حافلات عديدة، ورصدنا مبالغ مالية مهمة، وأرسلنا عملاءنا لاستقدام العاطلين من كل الربوع. اطمئنوا ياسيدي. سيكون الحفل بهيجا، وستصولون وتجولون “. يرتخي الزعيم. ينغرس في كرسيه الوثير. يغرق في ذاكرته المتلاشية. يستحضر احتفالاتِه القديمة، خُطبَه النارية، إزعاجَه الموسمي للحكومات المتلاحقة. يتسرب الأسى إلى قلبه. يتحسر على الذي مضى. واأسفاه !. يشمئز من الحاضر. تنغلق أذناه المتدليتان عن سماع عناصر الخطاب. عن كلام ظل يكرره لسنوات عديدة خلت: الشغيلة، القدرة الشرائية، قرارت الحكومة الجائرة، الغلاء، التفقير… عبارات يحفظها عن ظهر قلب، دون أن تدخل إلى قلبه أبدا. يتخيل صباحَ العيد بصورة مأساوية. سيخطب أمام الأشباح. لن تتحرك الجماهير مع تحركات جسده. لن تتماوج مع تموجات صوته الذي شاخت حباله. ينهار الماضي فوق رأسه. يغرق أكثر في مأساته. يغرق. يغرق. يدخل في غيبوبة. يستمر أعضاء اللجنة في عروضهم ولغوهم. ينتبهون إلى طول صمته. يتوقفون لحظة لمعرفة رأيه. يذهلون. الزعيم نائم. عيناه مغلقتان. يداه متدليتان. يناديه الرجل الثاني. لا يجيب. يحركه برفق. لا يستجيب. يتلمس أعضاءه. يجس نبضه. يرفع رأسا يائسا. تُفغر الأفواه. تُتبادل النظرات. يفهمون. لقد مات الزعيم.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت