سيظل المغاربة ما حييوا يذكرون بفخر واعتزاز، ذلك الخطاب الملكي التاريخي، بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة، الذي أبى الملك محمد السادس إلا أن يتحدى ظروفه الصحية، ويلقيه مباشرة من قلب مدينة العيون الأبية، لدحض أطروحة أعداء الوحدة الترابية وإثبات مغربية الصحراء للعالم أجمع، عبر الشروع في ترسيخ مشروع الحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية المسترجعة، وتجسيد إرادة المغرب في التنمية المشتركة مع عمقه الإفريقي.
كان الخطاب استثنائيا ومليئا بالعبر، خطابا صارما وموضوعيا، ستكون له تداعيات على مختلف المستويات، محلية وجهوية ووطنية ودولية. وبالنظر إلى ما حمله من دلالات عميقة وإشارات دقيقة، تساءلت إن كان رئيس الحكومة السيد بنكيران قد استوعب مضامينه جيدا، لاسيما منه تلك الفقرة التي بدت ذات حمولة أخلاقية قوية: “إن المغرب إذا وعد وفى، قولا وفعلا. ولا يلتزم إلا بما يستطيع الوفاء به، وبذلك نوجه رسالة إلى العالم: نحن لا نرفع شعارات فارغة، ولا نبيع الأوهام، كما يفعل الآخرون، بل نقدم التزامات ونقوم بالوفاء بها، وتنفيذها على أرض الواقع”.
فالمغاربة الأحرار، لا يعرفون لغير الصدق طريقا في معاملاتهم، ولا ينكثون ما قطعوا على أنفسهم من وعود ولو بضرب أعناقهم، كيفما كانت الإكراهات، ولا يلتزمون إلا بما هم قادرون على إنجازه. وإذا ما تعذر عليهم الأمر لأسباب خارجة عن إرادتهم، فإنهم لا يجدون حرجا في الإقرار بذلك وتقديم الاعتذار، كما هي دوما شيم الكبار. بيد أننا للأسف، لم نجد ذات المواصفات في شخصية الرجل الثاني بهرم السلطة، والأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” ذي المرجعية الإسلامية، المفروض فيه أن يكون أكثر حرصا على التحلي بالقيم الأخلاقية الرفيعة، كالصدق والوفاء والعدل والحلم والصبر والتواضع… بدل إطلاق الكلام على عواهنه والنزوع إلى الاستعلاء والاستبداد بالرأي.
واختيارنا لذلك المقتطف من الخطاب السامي لم يأت اعتباطا، كما قد يتبادر إلى أذهان بعض الأتباع المغلوبين على أمرهم، من الذين تعطلت أبصارهم وبصائرهم، وصاروا لا يرون عن حزب “المصباح” بديلا مهما كانت العواقب وخيمة، وإنما ألفينا في كلماته ما عساه يخلخل ضمير السيد بنكيران، ويدعوه إلى الاعتبار والتكفير عما ارتكبه من جرم عظيم في حق الشعب، عندما أجاز لنفسه التلاعب بعواطفه ودغدغة أحاسيسه، من خلال استغلال الخطاب الديني والوعود الزائفة والشعارات الجوفاء.
ذلك أن الرجل، سعيا إلى نيل مبتغاه، لم يجد من وسيلة أمامه ذات “ربيع” زعموا أنه “ديمقراطي”، عدا استثمار حماس الجماهير خلف شباب “حركة 20 فبراير” لصالح حزبه، ويمتطي صهوة “محاربة الفساد والاستبداد”، موزعا من الوعود المعسولة ما أسال لعاب الكثيرين من المقهورين الحالمين ب”الجنة” و”حور العين”… فما الذي تحقق بعد مرور أربعة أعوام على مرور “الربيع العربي” وإبحار “سفينة” الإصلاح المزعوم؟ لم يزهر “الربيع” عدا أشواكا دامية بلا ورود، و”السفينة” مازالت تائهة في عرض “البحر” بدون بوصلة، إذ بدا “الربان” فاقدا للخبرة والدراية بالقيادة، وثبت بالملموس أنه لم يكن طيلة الفترة الماضية سوى “هرا يحكي انتفاخا صولة أسد”، ويتجلى ذلك من خلال التخبط والارتباك في تدبير الشأن العام، الارتجال في تحديد الأولويات، التناقض في الأفكار والانفراد بالقرارات المصيرية… وهو ما حال دون ترجمة وعوده إلى حقائق ملموسة، وليس التماسيح والعفاريت كما يدعي.
ألم يكن حريا به، ألا يعد المواطنين عدا بما يتوافق وقدرته على الوفاء به، حفاظا على مشاعر الناس ومصداقيته وسمعة حزبه؟ فأين نحن من “المعقول” الذي طالما صدع به رؤوسنا؟ وماذا لو اعترف بفشل تجربته بجرأة وصراحة، بدل التملص من المسؤولية تحت مسوغات واهية، من قبيل منطق المؤامرة والظهور بصورة الضحية؟ فبنكيران، مباشرة بعد توليه رئاسة الحكومة، حاد عن “الصراط المستقيم” الذي كان ينبغي له السير عبره، في اتجاه ما تعاقد عليه مع من منحوه أصواتهم متوسمين فيه الخير، مقابل الوفاء بوعوده: القضاء على مظاهر الفساد واقتصاد الريع والمحسوبية، تخليق الحياة العامة، تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن لهم العدالة الاجتماعية والحرية والعيش الكريم، تقليص عدد الوزارات إلى 25 وزارة، تشبيب أعضاء الحكومة والقطع مع وزراء السيادة والتكنوقراطيين، تخفيض معدل المديونية، ووضع استراتيجية تنموية متكاملة ومندمجة، تعود بالنفع على البلاد والعباد. ووجد نفسه فجأة مسلوب الإرادة يسلك طريقا آخر، دون أن يقوى على التزحزح عنه.
ولم يكن هذا الطريق سوى تراجعه عن التزاماته واعتماده خيارات لاشعبية رهيبة، ساهمت في تأزيم الأوضاع وتأجيج الغليان الشعبي في جميع القطاعات الحيوية بالبلاد، والمتجلية أساسا في العفو عن المفسدين وناهبي المال العام، تحرير أثمان المحروقات والسعي إلى إلغاء صندوق المقاصة، مما انعكس على القدرة الشرائية للمواطنين، عبر الزيادات الصاروخية في أسعار المواد الغذائية وفواتير الماء والكهرباء، اتساع دائرة الفوارق الاجتماعية، ارتفاع معدلات البطالة والفقر والأمية والهدر المدرسي، الإجهاز على المكتسبات، إثقال كاهل البلاد بالمديونية، رغم جودة المواسم الزراعية وانخفاض سعر البترول في الأسواق العالمية ومساعدات الدول الخليجية، رهن مستقبل الأجيال الصاعدة للمجهول، إهمال ساكنة العالم القروي، قمع الاحتجاجات ومصادرة الحريات النقابية والعامة، تجميد الترقيات والتعويضات العائلية، تجاهل الديمقراطية التشاركية وتغييب الحوار الاجتماعي… فضلا عما حمله مشروع قانون المالية لسنة 2016 ومشروعه الانفرادي حول إصلاح منظومة التقاعد، من إحباط وخيبة أمل كبيرين.
ناهيكم عن تعطيل تفعيل مقتضيات الدستور، والتنازل عما يخوله له من صلاحيات واسعة، لم يحظ بها سابقوه، دون الاكتراث بما قدمته القوى السياسية والديمقراطية، من تضحيات في سبيل انتزاعها. وحصر نفسه في زاوية ضيقة خشية التصادم مع صلاحيات الملك، مصرحا في مناسبات عدة بأنه مجرد عضو في مجلس وزراء تحت رئاسته. فلا شأن له بترسيخ مبادئ المساواة والمناصفة وتنزيل الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة…
والأخطر من ذلك كله، أنه بمجرد ما اطمأن إلى حصيلة حزبه في الانتخابات الجهوية والجماعية، حتى تفتحت شهيته على المزيد من التدابير القاسية، معتبرا النتائج “المبهرة” تزكية شعبية لسياسته التفقيرية، ولم يعد يحفل بالاحتجاجات المتصاعدة وتهديد المركزيات النقابية بإضراب عام ثان في دجنبر 2015، حيث أصبح هاجسه الأكبر هو تغيير قانون حزبه للظفر بولاية ثالثة على رأس الأمانة العامة، بعدما تبين له احتمال الفوز ثانية في تشريعيات 2016 القادمة…
يجوز أن تعيده “صناديق” الاقتراع لإتمام عملية “الهدم”، استجابة لرغبة المؤسسات المالية الدولية، مادام استكمال البناء الديمقراطي آخر ما يشغل باله، وأن يستمر بسطاء القوم يراهنون على “بركة” حكومته، رغم ما أثبته من عجز عن ابتكار أساليب كفيلة برفع التحديات الكبرى، وخلق مشاريع تنموية للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية… وليواصل ما شاء خبطاته العشوائية، فبيننا حكم التاريخ.
اسماعيل الحلوتي