طلال سلمان
مقتول في وطنه، مرفوض من أهله، ملعون تُقفل في وجهه أسوار الجوار، إرهابي خطر لا تقبله الدول البعيدة خوفاً منه على أمنها ومعاش أهلها.
العربي، سورياً بالذات، عراقياً بالاستطراد، يمنياً بالالتحاق، ليبياً يجر خلفه صورة النظام الذي ألغى الدولة وأهلها، صار كالطاعون، كالبرص، كالسرطان وسائر الأمراض التي لا شفاء منها، ترفض «الدول الغربية» دخوله حتى لا يختل فيها «التوازن السكاني» ويضرب التشوّه صفاء العرق وطهارة الهوية..
صار «الوطن» المحترق بأهله أرضاً طاردة. إن شئت النجاة بأهلك، أو ببعضهم فعليك أن تركب الأهوال براً وبراً وبراً ثم بحراً بلا ضفاف يغلّفه الموت في قلب الأمواج المتلاطمة ولا طوق نجاة، وتستنجد بالمقادير وأولها الله وآخرها الله وبينهما دورية طاردة قد تأخذ جنودها الشفقة أو قد تهز مشاعرهم الإنسانية صور الأطفال المعلقين بين موتين تجاوزوا أولهما في الوطن وها هم في شباك الثاني يرتجون خلاصاً تحاصره العنصرية.
صار «الوطن» زورقاً صغيراً تتلاعب به الرياح فترفعه الأمواج عالياً ثم تتركه يهوي إلى بطنها البلا قعر، فإذا ما هدأ البحر أطلّت ألسنة النار عبر خفر السواحل، الذين يتولون حراسة الشاطئ من التلوث برعايا أديان أخرى لا يهم أنهم كانوا بين أوائل المؤمنين بها وهم الذين حملوها إلى «الهمج» عبر رحلات لا تقل قسوة عن هذه التي تتم بين موتين معلنين.
صارت الحياة معبراً مسوّراً بالأسلاك الشائكة والحرس الحديدي بين غربتين: ترفض الدولة الأولى هؤلاء المحاصرين بسمرة بشرتهم وأسمائهم الدالة على أصولهم التي تعود إلى بداية الخلق، وترفضهم الدولة الثانية بسبب عدائها مع الأولى، وبغض النظر عن كونهم لا يحملون على جوازات سفرهم العتيقة سمات دخول إلى جنة المنفى.
مقتول بوطنيته المغدورة، مقتول بغربته الإجبارية، مقتول بخطر الغرق والخوف على الأطفال الذين أحبوا الوطن وأنكرتهم دولته، مقتول بالضياع في ظلمة المصير، مقتول بأفكار إنسانيته وحقه في الحياة. هذه حال «المواطن» الذي من دونه لا وطن ولا دولة.
…والوطن مقتول، مقتول، مقتول على الجبهات جميعاً. متى صار الوطن جبهات مقتتلة سقط مضرجاً بمواطنيه شمالاً وشرقاً، غرباً وجنوباً، أرضاً وفضاءً.. فالوطن بأهله فإن أُخرجوا منه بالقتل أو بالخوف سقط مضرجاً بدمائهم.
لم يكن الفقر في الوطن غربة، أما الافتقار إلى الوطن فغربة قاتلة.
الوطن بأهله، فإن غادروه سقطت قداسته وانتفى وجوده. أوطان الآخرين منفى، وإشفاق الغرباء ذل، والتشرد على حدود الدول الأخرى مقتلة للدولة ـ الأم التي لا تكون إلا بأهلها ولأهلها. أوطان الآخرين للآخرين. ماذا أقسى من أن تشهد غرق أطفالك وأنت عاجز عن إنقاذهم؟ في بحرك الصديق ما كان ليغرق الأطفال. كل من حوله منقذ، بل إن الموج فيه أرحم بالأطفال من البحور البعيدة التي لم تعرفك فتحضن أطفالك وترجعهم إلى الشاطئ سالمين وترشك ببعض رذاذه لتكون أكثر يقظة وتنبهاً لروح المغامرة في صدورهم اعتماداً على طيبة قلب بحر الوطن.
تختلط هويات الذين هجّرتهم نيران القتل من أوطانهم المحروقة: الحلبي أو الرقاوي من سوريا مع الموصلي أو الكوفي من العراق، مع الصنعاني أو العدني من اليمن، مع البرقاوي أو الطرابلسي من ليبيا، مع الفلسطيني من أصول يافاوية أو حيفاوية المهجر للمرة الرابعة أو الخامسة (ماذا يهم ما دام خارج وطنه؟)… كلهم في بحر الظلمات واحد يأخذه الموج إلى المجهول هرباً من معلوم عنوانه الموت بالرصاص أو بالقذيفة أو بالكمد وهو أفظع تدميراً من القنبلة الذرية..
قتلت «الدولة» الوطن فخرج أهله هائمين على وجوههم. الوطن ليس مقتلة مفتوحة. الوطن مصدر الحياة لأهله فإن احتلته الحروب وجعلته مساحة للقتل خرج منه أهله حتى لا يخرجوا عليه.
في لبنان نظام استولد دولته قيصرياً. وهي ترفض أهله كمواطنين ولا تقبلهم إلا كرعايا لطوائفهم بمرجعياتها المؤتلفة في السياسة التي هي مصالح من فوق الخلافات والاختلافات الدينية والطائفية.
…ولقد حدث أن هجَّر النظام أهل البلاد بعد حروب أهلية ـ عربية ـ دولية شرسة في دمويتها، طاردة أهله إلى المنافي، بعيدة وقريبة، معطلة دولته عن أن تكون مرجعية وطنية لكل من يحمل هويتها، بعدما تقاسمتها زعامات الطوائف.
لم يعرف التاريخ حرباً أهلية يقتصر المدفوعون إليها على شعبها وحده، بأطيافه المتنوعة. هناك دائماً «دول» توظف الحرب الأهلية لمصالحها، وتستثمر نتائجها في شطب «الوطن» وإعادة بناء «الدولة» بحجارة الطوائف لاغية الأوطان.
ستكون للعرب «دول» كثيرة، أكثر مما يريدون وأكثر مما تحتمل أوطانهم.. وسيجتهد ملوك الطوائف لشطب الأوطان وهوياتها المميزة سعياً إلى «أممية جديدة» على الطريقة الأميركية! وهكذا ننتصر ـ بغير حروب ـ على الدولة العنصرية إسرائيل.
…اللهم إلا إذا غرقنا ـ بأوطاننا ـ في بحر الظلمات الذي بلا حدود!