خاص . تانظامت.. المناظرة في الشعر الأمازيغي!

خاص . تانظامت.. المناظرة في الشعر الأمازيغي!

- ‎فيآخر ساعة
1934
0

 

كلامكم/ اعتماد سلام

 

ثبت منذ قديم الزمان أن الإنسان يشدو، يترنم، ينشد، يدندن، يردد أو يتغنى بمقاطع موسيقية أو ألحان وأبيات شعرية. قد يكون سمعها أو ابتدعها، نقلها أو أبدعها، أكان ذلك في البيت أو في الحقل، في المراعي أو في الشوارع، وسواء كان بمفرده أو وسط مجموعة.ومن هنا ظهرت عديد الأهازيج والأغاني والأناشيد والقصائد والأنماط الإبداعية التي لا عد لها ولا حصر.
ومثلما كانت وديان العقيق ونعمان، منطلقا للشعراء والمنشدين في شبه الجزيرة العربية، فإن جبال “اشتوكن” ووهاد “آيت وادريم”ومروج “إغرم”وأزقة “سوس” كانت مبعثا لشعراء وشاعرات “تانظامت” الذين فطروا على قرض الشعر ونظم القصيد والمبارزة بالأبيات الشعرية المرتجلة كأنها سيوف مشحوذة يستلها الشاعر، فلا تخرج من فيه إلا وقد وزنت وعقلت لتصيب المراد وتفيد المعنى.
و لأن “تمديازت” أو الشعر الأمازيغي تتعدد روافده وأبعاده، وتتنوع أصوله ومنابته،فقد يتخذ أشكالا متعددة من بينها “إيزلي, تازرارت, أزوار, تاسوست, تيمناضين, تيقسيسين, تماوايت, تاسوغانت وتانظامت”. هذا النوع الأخير معناه الشعر الحواري،ويصح أن نطلق عليه أيضا “المناظرة”أوالمبارزةأو “المحاورة” أو”المناقرة” بين “إنظامن” أي الشعراء المتناظرين.وهذا النوع من الشعر لا تمتد إليه سوى أيادي الشعراء الذين يتمتعون بموهبة فطرية لا تنضب،وأغلبهم شعراء بالسليقة إذ منهم من لا يتقن الكتابة حتى، وبالتالي يتم تناقل شعرهم غالبا بشكل شفوي.وهي سمة طبعت الشعر الأمازيغي الذي ظل شفويا في مجمله إلى أن ظهر أول ديوان شعري مكتوب في ستينيات القرن الماضي، والذي سبقته مجموعة من الكتب ألفها كتاب أجانب منذ نهاية القرن التاسع عشر، من بينهم الألماني هانس شتوم الذي عمل على تدوين الأدب الأمازيغي، وأصدر كتابه “الشعر والشعراء الأمازيغ” سنة 1895وجوستينار وهنري باسي وغيرهم.
ويتداول مصطلح “تنظامت” الأمازيغي، بشكل أكبر في منطقة سوس ومناطق الأطلس الصغير والمتوسط وبشكل أقل في الريف.وهو مشتق من الكلمة العربية “النظم” أي تأليف الكلام موزونا ومقفى،وهناك من يطلق عليه اسم “أنعيبار” وهي كلمة أمازيغية اشتقت من كلمة “عبر” أي وزن الكلام.إذ من الشائع بين المغاربة أن يقول أحدهم للآخر “اعبر كلامك” بمعنى زنه.
وفي هذا النوع من الشعر يكون هنالك أخذ ورد بين طرفين اثنين، بحيث يبدأ أحدهما النظم فيجيبه الثاني، وهكذا دواليك مجسدين شكلا تعبيريا علنيا ترافقه رقصات وحركات وإيقاعات موسيقية مختلفة، تجعل الشعرمرافقا بالموسيقى والرقص،إذ يتم غناؤه وليس مجرد إلقائه كما تلقى القصيدة عادة عند قراءتها. ويمكن في أيسر الحالات أن تكون تانظامت مرفقة “بالريح” كما يقال بالدارجة ومعناه الميزان الموسيقي، بحيث يقول الشاعر قصيدته وتتلقاها المجموعة المرافقة له أو الحضور فيرددون إلى جانبه لازمة القصيدة. أما أبهى الحلل التي تقدم في إطارها تانظامت فتتجلى في “أجماك” أو “أحواش” أو “الروايس” بالإضافة إلى “المجموعات الغنائية” وكلها أنماط موسيقية استوعبت تنظامت وشكلت إطارا لإبداع الشعراء، وجعلت الباب مفتوحا أمام انتشار هذا النوع من الشعر،ولكل منها بطبيعة الحال مميزات وخصائص وضوابط.
ولأن الشعر الأمازيغي شعر غنائي، فإنه لا بد للشاعر الذي يكون مغنيا في ذات الوقت, من جمهور حتى تكتمل صورة المرسل والمتلقي،ويعتبر “أسايس” أو “أبراز” أي الساحة العمومية التي يلتقي فيها الناس غالبا، هي المكان الأفضل لإقامة عروض أحواش وأجماك الاحتفالية،والتي تتخللها المناظرات الشعرية والمناقرات بين شعراء القبائل المختلفة أو القبيلة ذاتها، والتي قد تتطور في أحيان كثيرة إلى سجالات سياسية واجتماعية وفلسفية قوية عمودها الشعر. وبحسب خالد ألعيوض، الباحث في التراث فإن “الشعر الحقيقي هو الذي يقال في مجال طبيعي، والفضاءات الطبيعية هي الفضاءات الحقيقية لتنظامت والتي تتكلل فيها دائما بنجاح باهر على عكس الفضاءات المصطنعة”ولذلك لا يمكن برأيه نقل هذه المحاورة الشعرية التي تكون غالبا دون إعداد مسبق إلى المسرح مثلا. خصوصا وأن أحواش كطقس احتفالي لا تقام إلا ارتباطا بفصول أو مناسبات معينة من قبيل إمعشار(الاحتفال بعاشوراء) أو الحرث والحصاد والدراس، أو مناسبات الزواج والخطوبة والسبوع (العقيقة).

المناظرة: شعر وشعراء
على غرار المناظرات العربية التي احتضنتها المجالس الأدبية وديوانيات الحكام والأمراء، فإن المناظرات الأمازيغية هي الأخرى تستلزم وجود “إنظامن” أي الشعراء المتناظرين أمام الجمهور الحاضر. ويفترض أن يكون كل شاعر قادرا على نظم الشعر وجاهزا لارتجاله في أي لحظة، وهذه “القدرة على الارتجال الفوري لا تتأتى إلا لشاعر حقيقي” يقول خالد ألعيوض.
“احماد أودريس العباسي” أحد أشهر شعراء تانظامت في منطقة آيت وادريم بسوس تعلم النظم دون معلم.يقول عن الشعر: “يجري في دمي”و”لم أكن أترك فرصة دون أن أحضر أجماك أينما أقيمت منذ صغري” وهو نهج بقي وفيا له إذ لا يترك أي مناسبة تمر دون أن يتقدم أجماك، ويبرز علو كعبه في النظم بإعداد مسبق أو دونه. ويؤكد أودريس “لم يحدث معي مرة أن تلكأت أو وجدت صعوبة ما في تنظامت، الله حل عقدة من لساني ليفقهوا قولي”.وبينما يقول عنه أهل المنطقة ومجايلوه إنه عجيب الموهبة يقول هو إن “أنظام أو الشاعر مثل المْعْلَم، ينظم الشعر سواء كان في أجماك أو أحواش”.
وقد لا يكتفي الشعراء بمناقشة موضوع واحد في المناظرة التي تبقى مفتوحة أمام مواضيع عدة، يكشف المتناظرون عن آرائهم بشأنها دون الخروج عن الشكل الشعري الموزون. وحسب مجموعة من المناظرات التي جمعت كبار الشعراء أو الإنظامن الأمازيغ، فإن المواضيع تتمحور غالبا حول الأوضاع السياسية والمشاكل الاجتماعية المتعلقة بالصحة والتعليم والبطالة، وعلاقة المرأة والرجل وحقوق النساء. وقد تنفتح المناظرة على غيرها من المواضيع التي يهتم بها الجمهور المتناظر أمامه وإن كانت مواضيع إقليمية أو دولية، مثل القضية الفلسطينية أو الانتخابات الأمريكية مثلا أو الحروب التي تعيشها بعض الدول.
ويروي الشاعر أودريس العباسي، أنه في إحدى المرات أقيمت”أجماك” خلال فترة الحملة التي تسبق الانتخابات البرلمانية “حينها تحاورنا حول فساد بعض المنتخبين الذين كانوا يقدمون المال لشراء أصوات الناخبين، وعبرنا عن رفضنا لمثل هذه السلوكات”. هنا يؤكد الشاعر والباحث الأمازيغي أحمد عصيد، أن الغرض من المحاورة الشعرية هو عكس الصراع الذي يوجد داخل المجتمع، وتبيان الآراء المختلفة والوقائع بهدف إعطاء صورة عن قضاياه “إنها صورة لمسرح شعبي تنافسي، كل شيء فيه مباح” يضيف عصيد.
تانظامت.. لغة وقواعد وبناء:
اللغة المستعملة في المناظرات الشعرية الأمازيغية، هي لغة حبلى بالرموز والألغاز، غنية بالحكم ومشبعة بالدلالات والإيحاءات. وغالبا ما تبدأ المناظرات الشعرية الأمازيغية بالبسملة متبوعة بالتحية والصلاة والسلام على محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، كأن يقول الشاعر:
باسم الله- نزور ربي د النبي نس ( بدأنا باسم الله ونبيه)
هاياغ- نوشكاد دارون (هانحن جئنا عندكم)
ويطلق على هذه الانطلاقة اسم الاستهلال. يقول الشاعر أودريس العباسي “نبدأ بذكر الله ثم الصلاة والسلام على رسوله الكريم، ثم ننتقل إلى المتن وفيه نتحدث عن الموضوع الذي نتناقش بخصوصه من خلال مناقرة شعرية خالصة”. ومن الواضح أن المناظرة الأمازيغية تأثرت في ذلك بالمناظرات العربية الإسلامية، ولا يتوقف هذا التأثر عند استعمال المعجم الديني فقط بل يتعداه إلى تسلل بعض الكلمات العربية إلى قاموس الشعراء اللغوي المستعمل في تانظامت.
وعلى مستوى البناء الشعري، ولئن كانت التفعيلة وحدة إيقاعية من وحدات عروض الشعر العربي، فإنها تستعمل أيضا في الشعر الأمازيغي، وأول من استعملها هو الشاعر إبراهيم أوبلا، الذي يلقبه الباحث ألعيوظ بالخليل ابن أحمد الفراهيدي عند الأمازيغ.. هذا وتوجد بحور معروفة يتم النظم وفقها، وهناك أوزان معقدة وأخرى سهلة، من بينها إمغير وتالالايت وأسيف وأسقول وغيرها، والشاعر الموهوب هو الذي باستطاعته مسايرة أي وزن أو بحر والنظم وفقها جميعها.فيأتي بأبيات لا هنة فيها، صحيح عروضها ومتسلسل معناها وبناؤها دون شائبة أو لائمة، ليكون قوله آية وغاية وليس فقط مجرد رد على الخصم في “أبراز”. وقد وجدت منذ القديم صفوة الشعراء الأمازيغ في مناطق الأطلس الصغير، خصوصا “إبركاك” التي ذاع صيتها بشعرائها وشاعراتها عبر مختلف ربوعها مثل “آيت وادريم” و”سيدي عبد الله البوشواري” ومنطقة “إداوغوزيا”. ويرى خالد ألعيوظ أن “موهبة الشاعر وانتشاره يسهم في إشعاع قبيلته”. ومن بين أشهر هؤلاء الشعراء المميزين في تنظامت سواء تعلق الأمر ب “أحواش” أو بـ”أجماك” الحاج أحمد الريح، ولحسن أجماع الذي كون رفقة الشاعر إحيا بوقدير أزدو، ثنائيا فريدا سمي بـ”أجماع د إحيا” استمر لعشر سنوات قبل أن يشكل ثنائيات عديدة مع عدد آخر من كبار الشعراء من بينهم عثمان أزوليظ.
ولمعت أيضا أسماء أخرى من بينها محمد أغلال، احماد أودريس العباسي، عابد أوطاطا وأحمد براواكال،وأسماء مخضرمة كالحاج مبارك كوكو والحاج محمد أودو توريرت وعابد كإيشت والحسن إيكاسي, وعمر أوتلوا الذي كان محاورا شرسا لعبد الله بوزيت, وإبراهيم لشكر الذي جمعته محاورات رائعة مع أحمد عصيد، إضافة إلى مولاي علي شوهاد ومحمد الحنفي، وجميعهم أسماء وازنة في الشعر الأمازيغي، تناول شعرها مواضيع سياسية واجتماعية وثقافية وأحداثا ووقائع مختلفة، مما يجعل تانظامت الخاصة بهم بمثابة كتاب تاريخي يؤرخ للذاكرة الجماعية كما يقول خالد ألعيوظ.
تنظامت في حضن أحواش وأجماك:
استخدم الإنسان منذ قديم الزمان الفن كلغة لترجمة المشاعر والتعابير التي تخالج ذاته، وسخر من أجل ذلك مهارات تختلف من شخص لآخر.تعكس إنسانيته وتكشف انطباعاته وتترجم تأملاته وتصوراته لما حوله،فكان الفن وسيلة للتعبير عن الأمل والألم والسعادة والحزن، سواء أكان ذلك يعبر عن تجارب فردية أو جماعية.وأحواش من الفنون التي ابتكرها الإنسان الأمازيغي من أجل التعبير عن نفسه فولد هذا الفن الأمازيغي القح في منطقة سوس. وهو عبارة عن احتفال بالثقافة والشعر من خلال رقصة جماعية فريدة يؤديها العشرات من الذكور فقط أو من الذكور والإناث معا. يطلق عليهم بالأمازيغية “امهضارن”, يصطفون في صفوف مستقيمة ويتميزون بأصوات جميلة، وتتم هذه الرقصة وفق حركات مدروسة وبديعة في “أسايس” أو ساحة الرقص، ويلبس فيها الراقصون أزياء تقليدية عبارة عن جلابيب بيضاء تتدلى منها”الكومية” (اسم الخنجر التقليدي) المنقوشة بنقوش أمازيغية أصيلة، بالإضافة إلى العمامة والبلغة.
وأحواش فن احتوى تنظامت وجعلها عمودا فقريا للرقصة، بحيث صار لصيقا بالمناقرة الشعرية بين الشعراء الذين يتساجلون ويتناظرون ويتحاورون أمام الجمهور الحاضر، مانحين إياه حلاوة وطراوة الشعر الوليد في نفس اللحظة التي يصل فيها إلى آذانهم.وللإشارة فإنه ينظم حاليا وبشكل سنوي مهرجان وطني لفنون أحواش بمدينة ورزازات. وهو مهرجان تقام فيه أحواش بمختلف أنواعها بما فيها “أهنقار” و”الدرست” و”أجماك” وغيرها.
وينتشر “أجماك” أكثر في مناطق اشتوكن آيت باها وتيزنيت،وهو الآخر يعتمد على المحاورة الشعرية والإيقاعات الموسيقية، بالإضافة إلى رقص الفرقة التي تكون رجالية فقط. ففي منطقة آيت وادريم مثلا يجتمع في رقصة أجماك حوالي 30 أو 40 رجلا لا تكون بينهن أي امرأة. وحسب الشاعر أحمد أودريس العباسي، فإنه ليس من عادتهم أن يسمح للمرأة بالمشاركة في أجماك بالنظر إلى طابع المنطقة المحافظ.وفي حين يمكن أن يستمر احتفال أحواش دون توقف حتى ينتهي العرض، فإن التوقف وارد في أجماك من حين لآخر.
المناظرة في الروايس.. وصلت إلى كل مكان:
في أحواش تتحقق تنظامت بشكل ارتجالي وتلقائي، دون أن يكون للشاعر متسع من الوقت من أجل إعادة التفكير فيما سينطق به، وهذه ميزة تتوفر في فن”الروايس أو تيروايسة” الذي يعتمد أيضا على تنظامت لكن بعد أن يكون الشاعران المتحاوران قد كتبا القصيدة آنفا، وقاما بتلحينها وحفظها لأدائها أمام الجمهور.
و”الرايس”أصلها كلمة الرئيس في اللغة العربية، وتطلق على رئيس الفرقة الموسيقية أو من يتزعمها سواء أكان رجلا أو امرأة (الرايسة). وهو فن الأغنية الأمازيغية التي تلتئم فيها القصائد بالألحان والعزف على الآلات الموسيقية من قبيل الربابة ولوتار والناقوس والبندير،وهناك من اكتفى باستعمال “الكنكا/الطبل” و”ألون/ البندير” فقط. ومنذ سنوات أصبح التناظر في هذا الفن أثيرا لدى الروايس والروايسات كما لدى الجمهور، ويحتوي أرشيف الأغنية الأمازيغية على عدد من المناظرات التي تميزت بتنظامت أو أنعيبار كما تسمى أيضا في الأمازيغية، وقدمت بشكل فريد يجمع بين الفرجة والتشويق والإطراب، دون إغفال ملامسة قضايا مجتمعية تعبر عن الناس وقضاياهم.
وبرزت في هذا الفن تحديدا مجموعة من الثنائيات الشهيرة التي قدمت أعمالا نفيسة، مازال الجمهور وفيا لها حتى الآن ومن بينها، الرايس الحاج محمد الدمسيري رفقة الرايسة فاطمة تحيحيت مقورن، والرايس الحسين ايت باعمران رفقة الرايسة فاطمة تيحيحيت امزيين، والرايس مولاي محمد بلفقيه رفقة الرايسة فاطمة تابعمرانت، والرايس العربي هبو رفقة الرايسة رقية الدمسيرية، والرايس لحسن أخطاب رفقة الرايسة زبيدة تاتيكيت.وأغلب هؤلاء برعوا كمغنيين وشعراء في نفس الوقت، إذ يعتبر الحاج محمد الدمسيري، عميد ورائد الأغنية الأمازيغية, وهو أيضا من أبرز الشعراء وأغزرهم إنتاجا، وقد كانت له مناظرات غنائية ممتعة تناولت معظمها مختلف الجوانب الاجتماعية. كما أبان سعيد آشتوك، عن موهبة كبيرة في نظم الشعر الغزلي الذي تغنى به لاحقا مغنون ومجموعات على رأسها مجموعة “أودادن” الشهيرة.
وتجسيدا لمكانة المرأة في المجتمع والأدب الأمازيغيين، فإن حضورها في المناظرة يعتبر هاما ومحفوظا. وبرزت مجموعة من الشاعرات اللواتي ولجن المناظرة عن جدارة، وتمكن من التعبير عن آرائهن بكل جرأة واقتدار، وكن خصما عنيدا وغريما لا تكسر شوكته إلى جانب الرجل خصوصا في فن “الروايس”. ومنهن الرايسة فاطمة تيحيحيت مقورن، وزبيدة تاتيكيت وفاطمة تالجوهرت، وفاطمة تيحيحيت امزيين،والرايسة فاطمة تاباعمرانت التي تعد من أشهر الرايسات حاليا، وهي شاعرة التزمت في قصيدها بقضية المرأة ودافعت عن تمدرسها ودورها في المجتمع وحضورها في السياسة ومراكز القرار.
ويعتبر لحسن أخطاب،أبرز الروايس الذين تشاركوا تنظامت مع معظم الرايسات المعروفات، سواء من الجيل القديم أو الحديث. وفيما يلي كلمات مترجمة إلى العربية لإحدى تنظامت التي جمعته بالرايسة زبيدة تاتيكيت، والتي روج لها في شريط مصور قبل سنوات طويلة:
يبدأ أخطاب أولا:
– لا أعرف هل أحملك أيتها الربابة أم أتركك؟
– أبكي منذ الصباح وإلى المساء دون أن أجد أحدا أبث إليه شكواي
ترد تاتيكيت:
– ربي، قل ما الذي أبكاك آ الرايس، حتى أنك قررت ترك الربابة واعتزالها؟
– أجبني وقل لي ماذا حدث معك
أخطاب:
– أنا وثقت في الناس, ولكن لم أعثر على من يكون محل ثقتي
– ما تفعلنه أنتن النساء, و’السم للي فيكم’ يسبب داء ليس له دواء
– ومن يصدقكن فهو مسكين وضائع.
ترد تاتيكيت:
– كأنك متحفز للهجوم، أنا سألتك عن حالك فإذا بك تنبري لمهاجمتنا نحن النساء.
– الإنسان إذا لم يتحلى بالصبر لن يعيش مع أحد وسيبقى دائما لوحده.
أخطاب:
– حروب النساء لم تعد تخيفني,
– في أفواههن العسل والغدر متجاوران
– أنت نفسك إذا وثق فيك أحد الرجال ستضيعينه وتجعلينه تائها
– ومن يريد الزواج بك عليه أن يشترط حبسك في البيت
تاتيكيت:
– مثلي أنا تكون زوجة معززة، أنت فقط لا تعي ذلك
– ويجب أن يكون لدي من يخدمني ويطهو لي ومن يعتني بشعري أيضا.
أخطاب:
– أن تكوني معززة معناه أن تعملي في زريبة, يكون فيها 500 من الأبقار وتقومين بتربيتها.
تاتيكيت:
– أنا حتى الآن أتجاهل عيوبك، لذلك لا تستفزني
– أنت الذي يجب أن تترك آلتك الموسيقية وتنهض للعمل
أخطاب:
– أنا موسيقي وربابتي هي التي أعزف بها
– أما أنت فلا تجيدين العزف على الربابة ولا على أي آلة أخرى.
– من أين أتيت؟ تفلحين فقط في الثرثرة!
تاتيكيت:
– اسمع، كم من واحدة منا نحن النساء تحكمكم أنتم الرجال وتأمركم بعصا فقط.
– وإذا لم تلزم حدودك فسأريك ‘العربون’.
ومن بين الأمثلة الأخرى لتانظامت التي جمعت بين الروايس، تميز الثنائي امبارك أمكرود وزوجته الراحلة فاطمة تالجوهرت، بمقاربة مواضيع مختلفة تهم المرأة والرجل في تانظامت التي جمعت بينهما بشكل ساخر وخفيف، يحقق المتعة ويهدف إلى إيصال رسائل مشفرة. من بين المحاورات الشيقة التي جمعت بينهما، هذه المحاورة التي نورد كلماتها مترجمة إلى العربية أيضا:
الكورال النسائي والرجالي:
– ياناس يا ناس.. أخبرونا ما الذي يحدث؟
أمكرود موجها الكلام لتالجوهرت:
– تكلمي مع هؤلاء وأجيبيهم
تالجوهرت:
– تكلم معهم أنت، فأنت الرجل
أمكرود:
– أخيرا, أصبحتن تعرفن أن هناك رجالا وتحسبن لهم حسابا
– تكلمي معهم أنت وأخبريهم إذا كان لديك فعلا ما تقولين
تالجوهرت:
– نعم عندي ما أقول، الرجل الذي ينتظر أن تكلمه امرأة وتلبسه وتخدمه وتطبخ له وتذهب بدلا منه إلى السوق هذا يسمى عائشة وليس رجلا.
– أليس كذلك؟ (موجهة السؤال لجمهور النساء)
فيرد الكورال النسائي قائلا: تيمغارين ولا بدي (لابد من النساء)
ثم الكورال الرجالي: إركازن ولا بدي (لابد من الرجال)
أمكرود :
– المكان الذي ليس فيه رجال هو قفر مخيف
– والمرأة بدون رجل مثل بئر مهجورة.
تالجوهرت:
– يوم نهجركم ستظهر عيوبكم
أمكرود:
-الرجال هم الذين يواجهون كل شيء صعب.
تالجوهرت:
– والنساء هن اللواتي تنجبن الأطفال وتقمن بتربيتهن
الكورال النسائي:
– تيمغارينولابدي
أمكرود:
– أب الأطفال الذين تتحدثين عنهم هو من يعمل من أجلهم ليل نهار
تالجوهرت:
-وأمهم هي من تطعمهم وتسهر عندما يمرضون
أمكرود:
– إذا خرجت إحداكن بدون إذن زوجها تكون مذنبة
تالجوهرت:
– والرجل السيئ غالبا يلهث وراء أخرى
أمكرود:
– أي شيء نقوم به نحن الرجال يناسبنا ولا يعتبر عيبا، أليس كذلك؟
الكورال الرجالي: إركازن ولابدي
تالجوهرت:
– مثل الرجل مثل المرأة، لقد أنصفنا الزمان !
و هكذا تستمر المحاورة بين الرايس والرايسة، وفي أثناء ذلك تجيش تالجوهرت الحاضرين من النساء من أجل التفاعل معها،ويقوم أمكرود بنفس الشيء بالنسبة لجمهور الرجال، علما أن جمهور النساء يجلس في جهة وجمهور الرجال يجلس في الجهة المقابلة بشكل غير مختلط.
وقد تجمع تانظامت بين شاعر وشاعر كما في أجماك وأحواش، أو بين شاعر وشاعرة كما في الروايس، أو بين شعراء وشواعر. وفي منطقة “إبركاك” تحديدا، غالبا ما تنعقد مناظرات في تانظامت تجمع بين شعراء شباب وشاعرات شابات، بحيث تغطي الشاعرات رؤوسهن بثوب لا يسمح بالتعرف على هوياتهن، وهو ما يسمح أحيانا بانضمام شاعرات كبيرات في السن وفي الخبرة لدعمهن في المناظرة دون أن يكتشف الشباب ذلك، حسب الباحث خالد ألعيوظ، والذي يؤكد أن هذه المحاورة غالبا ما تنصب حول مواضيع تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة.
تانظامت.. من أسايس إلى الأشرطة والكتب:
ساهمت صناعة الأغنية أو “الديسك والكاسيط” كما يقول السوسيون، في انتشار تنظامت الروايس وإقبال الناس عليها بشكل مدهش. فظهرت الكثير من الثنائيات والإبداعات التي كانت حديث الناس لسنوات، وكان معظم هذه “الديسكات” ينتج في باريس. وبرأي خالد ألعيوظ، فإن تسجيل هذه المناظرات الشعرية الغنائية هو الذي ساهم في استمرارها، فأقدم الديسكات سجلت في بداية العشرينيات من القرن الماضي لأبوبكر زعيم، وتلتها تسجيلات الرايس الحاج بلعيد في الثلاثينيات، قبل أن يفتح الباب أمام مختلف المغنين والشعراء للتسجيل، وهو ما اعتبر شكلا من أشكال توثيق الأغنية والشعر الأمازيغي.
هذا التوثيق الذي بدأ يهتم به مؤخرا الباحثون في الشعر الأمازيغي والهيئات سواء الرسمية أو المدنية المهتمة بالمجال، تنضاف إليهم مجهودات شخصية للشعراء كالشاعر المتميز محمد المستاوي، الذي جمع شرائط الحاج بلعيد وألبنسير وأشتوك وجانطي وقام بتفريغ الكاسيط. كما استعان بذاكرة حفاظ الشعر الأمازيغي من أجل إعادة تدوين وتجميع مختلف القصائد. وإذا كان “الأصفهاني” في كتابه الشهير الأغاني” قد دون كل قصيدة وأرفقها بطريقة غنائها، فإن تدوين الشعر الأمازيغي الشفوي لا يتخذ هذا البعد على الرغم من أهميته.
ويرى الشاعر أحمد عصيد أن “هذا التوثيق يقتصر فقط على الجانب الأدبي أو على كلمات الشعر فقط” مضيفا أن “الإنترنت ساهمت بشكل كبير في توثيق الفيديوهات المسجلة لأحواش بمحاوراتها الشعرية والحركات والإيقاع والرقص والألحان وليس فقط الكلمات الشعرية’.
ورغم أن تدوين الشعر الأمازيغي بدأ في فترة يمكن اعتبارها مبكرة نسبيا،إلا أن ديوان “أمانار” أو الكواكب الذي أصدره أحمد أمزال العام 1968 يعتبر أول كتاب يتضمن قصائد مجموعة من الروايس والشعراء، يتقدمهم سيدي حمو ؤالطالب، الذي يعتبر أيقونة في مجاله و إن اختلفت حول تاريخه الروايات. كما أصدرت الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي العام 1974 مجموعة شعرية وسمت بـ”إموزار/ الشلالات” و تضمنت قصائد لشعراء من بينهم إبراهيم أخياط وأحمد بوزيد والحسين جهادي وعلي صدقي أزايكو ومحمد مستاوي وغيرهم.
وظهرت دواوين الشعر الأمازيغي مكتوبة بخطوط مختلفة، فهناك من الشعراء من اختار الخط العربي ومنهم من استعمل خط “تيفيناغ” أي الخط الأمازيغي وهناك من لجأ إلى استعمال الخط اللاتيني. كما أرفقت الدواوين المكتوبة في وقت لاحق بأقراص ممغنطة حوت قراءة صوتية للشاعر.
مع ذلك, تلوح مؤاخذات بشأن اهتمام الجمعيات والهيئات بتنظامت، والبحث فيها وجمعها وتدوينها لحفظها من الضياع باعتبارها موروثا يؤرخ لذاكرة جماعية، هذا في الوقت الذي ظهرت فيه مجموعة من المؤلفات التي اهتمت بهذا الفن وأصحابه. بينها كتاب “الرقص والغناء الجماعي بسوس” للشاعر والباحث أحمد بوزيد الكنساني وكتاب “إماريرن: مشاهير شعراء أحواش في القرن العشرين” لأحمد عصيد،وفيه مسح لأشهر الشعراء الأمازيغ على امتداد جغرافية الشعر الأمازيغي، بالإضافة إلى مختارات من أشعارهم. كما ضم الكتاب سير أكثر من 100 شاعر وشاعرة،وترجم فيه عصيد قصائد لأبرز نجوم ومشاهير تنظامت، كما استعان برواة الشعر والأشرطة المسجلة من أجل التأريخ لشعراء راحلين ومن بينهم الشاعر عبد الله البصير، والشاعر بلان ترعمت والشاعر محماد احبيرو.
يقابل اجتهاد عصيد في البحث اجتهاد كبير في النظم، إذ يعتبر واحدا من كبار تنظامت وأكثرهم براعة فيها، وديوانه “أنعيبار: أمارك ن أوسايس” الذي أصدره العام 1996 يضم مجموعة من المحاورات التي دارت بينه وبين الشاعر إبراهيم لشكر، الذي شكل معه ثنائيا بديعا من ثنائيات تنظامت ضمن أحواش.
وقام عصيد أيضا بجمع وتدوين المحاورات الشعرية التي دارت بين الشاعرين لحسن أجماع و عثمان أزوليظ، وصدر في العام 2006 تحت عنوان “أورتي نومارك”.
في هذه المسيرة الحافلة بالنظم والغناء والإبداع لشعراء وشاعرات تانظامت، قد لا يجد كثيرون منهم الاعتراف والتقدير اللازمين. وقد تناقل الجمهور مؤخرا صور مجموعة من نجوم تانظامت وتيروايسة الذين طواهم النسيان، بعدما لمعوا لسنوات وكانوا شخصيات مرموقة. ومن هؤلاء الفنان امبارك أمكرود، الذي أسس مجموعته الغنائية مطلع العام 1986وأصدر حوالي 80 شريطا موسيقيا وشريط فيديو، تضمنت محاوراته الغنائية مع الرايسة فاطمة تالجوهرت والتي حصدت حينها الإعجاب وغزت جميع البيوت والمقاهي والشوارع.. لكنه وجد نفسه وهو في أرذل العمر، مضطرا للنزول إلى الشارع من أجل الحصول على بعض الدريهمات مقابل تقديم وصلات غنائية، وزادت معاناته بعد تعرضه لوعكة صحية أقعدته الفراش مؤخرا، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام السؤال الكبير والملح: متى ينال الشعراء التكريم الذي يستحقونه؟!.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت