د محمد فخرالدين
و كان السبب في مجيء هؤلاء الأكراد الايوبية الذين ينتسبون إلى حبيب النجار، و هو رجل صالح ذو كرامات معروفة لا تخفى على سائر المخلوقات ،أنه في هذا العام من أجل لما يريد الله تعالى من انفاذ حكمه و جري مشيئته انها جاء بلادهم سيل أعاق زرعها و نزل الثلج فقتل مزارعها ، و أخربت الأرض وحل بهم الجذب و البوار،فجاءوا عند كبيرهم يوسف صلاح الدين و شكوا إليه أمرهم و ما هم عليه من جدب الأرض و سوء العيش و بؤس الحال ، و رجوه أن يبحث لهم عن ارض خصبة ذات نوال ، فلما سمع منهم ذلك الخطاب قال لهم :
ـ هذا هو الصواب و القول الذي لا يعاب ..سيروا بنا الى امير المؤمنين لنشكو له ما لحقنا من العذاب المهين
ثم انه قام من ساعته و جمع رؤوس عشيرته ، وجمع من الأكراد سبعين ألفا ، و ساروا إلى أمير المؤمنين في بغداد ، ليشكو إليه حالهم لعله يعطيهم أرضا خصبة يقيمون فيها..
فقالوا له:
ـ شانك و ما تريد و نحن عن أمرك لا نحيد
تم إنهم تهيئوا للمسير و سرعة الجد و التشمير ، و ساروا يقطعون الطريق دون تأخير ، و بينما هم سائرون لاح لهم رجل وحيد في البرية يعبد رب البرية ، وجهه كالقمر إذا اكتمل ليلة الرابع عشر ، و هو يصلي على خير البشر فخر ربيعة و مضر ، فتقدم إليه يوسف صلاح الدين و قبل يديه في الحين ، و كذلك فعل أصحابه ،فقال لهم الشيخ :
ـ الى أين تريدون يا كرام ،هداكم رب الأنام..
ثم إنهم قالوا للعابد :
ـ نقصد مدينة بغداد نشتكي لأمير المؤمنين من ما أصابنا من الجذب الشديد و البأس الشديد ، و نريد منه ان يعطينا أرضا غير أرضنا ..
فقال لهم :
ـ نعم ما رأيتم و به أشرتم و لكن اتبعوني حتى أريكم ما تعملون ..
فقبلوا يديه قالوا له:
ـ السمع و الطاعة رضينا بم أشرت به …
ثم سار الأستاذ و ساروا جميعا خلفه إلى أن اقبل على مغارة و قال لهم اقلعوا ما عليكم من الملابس ، و البسوا هذه الثياب الخلقة ،وخذوا هذه السيوف الخشب بلا خوف، وتقلدوا بها بالمعروف ، فوعزة الله إنها تقوم مقام السيوف، و تسقون عدوكم بها كأس الحتوف ، فإني سالت لكم الله تعالى أن يلبسكم الولاية ، و يعطيكم الهداية و الرعاية ، و أن يرشدكم إلى كل غاية ..
ـ فالآن صرتم من عباد الله الصالحين ، وواجب عليكم نصرة المؤمنين ..فاذهبوا الآن إلى بغداد دار السلام، و خلصوا الإمام و من معه من الإسلام من الضر و الهوان ، فاذا وصلتم هناك فجردوا سيوفكم و نادوا بالتكبير على البشير الندير و السراج المنير…
ثم إن الأستاذ تودع منهم و انصرف عنهم بعدما ما دعا لهم ..
أما ما كان من أمر الاكراد فإنهم ساروا في الحين و الساعة ،و جدوا في المصير و هم يذكرون الله من غير تقصير..
إلى أن دخلوا إلى مدينة بغداد و رأتهم كل العباد ـ على ما ذكرنا ـ و افنوا جيوش هالوين عن آخرهم ، و حرروا الخليفة المقتدر بالله من السجن ، ففرح بهم فرحا عظيما ، وشكرهم على ما قدموه للمسلمين ،و قبل أيديهم و أكرمهم غاية الإكرام، و طلب منهم أن يبقوا في ضيافته مدة تسعين يوما بالتمام و الكمال ..
أما ما كان من المقتدر بالله ، فإنه لما شكر الأكراد و دارت أرباب دولته و رؤوس عشيرته ، و جلست الاكراد من حوله، و سألوه عن الفتنة و سبب هذه المحنة ، فحكى لهم الأمر من أوله إلى آخره، و اطلعهم على باطنه و ظاهره ، ثم انه بكى من شدة الفرح ، و إزالة الغم و الترح ، وأجلس زعيمهم صلاح الدين وكيلا عنه في بغداد ، و قال له :
ـ يا أخي اعلم أني أريد أن أخذ جماعة و اطلب البر لأجل الصيد و القنص و اغتنام اللذات و الفرص..
فقال له :
الأمر إليك يا مولاي افعل ما تريد فما نحن إلا من جملة العبيد..
ثم ان الخليفة المقتدر أخذ معه مائة من الرجال و الفرسان و نزل طالبا الصيد، و ساروا في الخلوات ،و غابوا مدة ثلاثة ايام و صادوا صيدا كثيرا، و في اليوم الرابع عادوا أدراجهم و لما دخلوا الى بغداد ،و سار أمير المؤمنين في شوارعها و نظر الى قصورها و تجول في الأسواق ، و إذا به قد و جد عقدا من الجوهر معلقا على دكان واحد ـ جواهرجي ـ فلما تأمله و إذا به عقد من عقود السلطنة، و كان الملك قد أعطى ذلك العقد لابنته ..و سنذكر كل شيء في موضعه ..