لعبة في المحراب

لعبة في المحراب

- ‎فيفن و ثقافة
379
0

 

ابراهيم الفتاحي
حل عاشوراء الذي ننتظره نحن الأطفال بلهفة كبيرة وشوق عظيم، ففيه نحصل على لعبة يجود بها الآباء بعد عام كامل من الإكتفاء بلعب نصنعها بأيدينا، من القصب ومن الأسلاك وغيرها مما جادت به مهملات الكبار. كانت أول عاشوراء أستقبلها بعد وفاة والدي، فجاد علي ابن عمتي عبد العزيز بلعبة من المدينة، وكم كانت فرحتي لا تضاهى بلعبة جديدة في سوق اللعب، وكانت بداية غزو الألعاب الصينية لعالم الطفولة المغربي على ما يبدو، فقد كانت رشاشا “بلاستيكا” يصدر أصواتا مختلفة ما بين صوت الرصاص وصوت إنذار سيارة الشرطة والإسعاف.
لقد كانت اللعبة بديعة، تحسست جنباتها بقلبي قبل بصري، ودارت حولها طفولتي، ونسجت أحلام القوة والبطولة على زنادها، وجمح خيالي عبر موجات أصواتها ليعانق مطاردات الشرطة للمجرمين وانتصاراتهم كما أشاهد في الأفلام الأمريكية، وسربلتني بعنفوان القوة والجبروت لتزيدني اندفاعا وحماسا؛ فما أعظم الإحساس بالقوة ولو كان حلما طفوليا، وما أبهى الإقدام والشجاعة ولو كانا لهوا ولعبا بين الصبيان، فثمة سر كامن خلف معانقة السلاح رغم كونه رشاشا “بلاستيكيا”، وربما تبدت هناك حقيقة العنف المكبوت في نفوسنا كبشر، عنف يرخي بظلاله على الخوف الدفين في أعماقنا، خوف من كل شيء، إذ لطالما كان الشعور بالأمان مجرد ومضات تظهر لتختفي، وكلما كبرنا تغير موضوع الخوف وتعاظم الآخر المخيف، وتزايد الرعب؛ الرعب من موجودات مادية وأخرى مجردة، لذلك كان السعي الدؤوب خلف مظاهر القوة ديدننا، نجتهد في إخفاء وجلنا وخوفنا ورهابنا، وقد أنبأتني كتب علم النفس حينما كبرت أن أشد الناس عنفا وبطشا وتسلحا هم أكثرهم خوفا.
حملت رشاشي “البلاستيكي” مزهوا أجوب به دوارنا وألج المنازل تباعا، حتى يرى الجميع لعبتي، وكان الوقت عصرا ولما يقدم الليل بعد حيث تنطلق مظاهر الإحتفال وإشعال النار وجمع “الفاكية” واجتماع الأطفال. وفي غمرة فرحتي وانتشائي باللعبة وأصواتها المختلفة تعطلت، ولم يعد زنادها يسعفني، فخفق قلبي بشدة كبيرة وتسارعت نباضاته وأنا أقلبها وكلي أمل في أن تعود إلى سابق عهدها، لكن لا شيء..تعطلت اللعبة ومازال موعد الإحتفال يبعد بساعات، فهرعت إلى الكبار لعلهم ينقذوا لعبتي من عطلها وينجدوا فرحتي من اضمحلالها، لكن لاشيء..تعطلت اللعبة..وآسفاه..تعطلت لعبتي، فانقلب الفرح حسرة، وانثنى إقدامي إحجاما، وارتد زهوي خيبة وأسى.
أخفقت كل المحاولات لإصلاح لعبتي وإنقاذ فرحتي في ليلة عاشوراء البهية، فتنكس رأسي حسرة، وخنقتني العبرة، لأن عاشوراء ستمضي دون لعبة أشارك بها في الإحتفال، وسأبقى المحروم الوحيد بين أقراني من لذة ليلة ينتظرها الأطفال كل عام بشوق كبير، فصرت ألعن تسرعي وقلة اعتنائي بلعبتي، واسودت الدنيا في عيني تلك اللحظة، وودت لو رجع الزمن لساعات فقط فأستقبل لعبتي بالعناية اللازمة والإهتمام الكفيل بحفظها، وأقتصد في الضغط على زنادها فلا يتعطل أبدا، لكن لاشيء..فقد تعطلت لعبتي..أجل تعطلت، فتحولت من مسلح قوي موقن بالإنتصار إلى أعزل ضعيف مستسلم للهزيمة والإذلال، خصوصا أن ما ينتظرني من سخرية الأقران أمر جلل، فأي إحساس سيتملك طفلا دون لعبة ليلة عاشوراء!! وما أبعد عاشوراء القادمة!! بيني وبينها عام كامل. ويتوالى العتاب والتعاطف من الكبار فلا يزيدني ذلك إلا ألما ينفطر له فؤادي.
أخذت لعبتي المعطلة بين يدي وأصواتها ترن في أذني متمنيا لو أنها تعود لسابق عهدها، فتوجهت إلى الله بالدعاء لينقذ لعبتي، إذ لم يبق لي ملجأ إلا إليه، ولكي أقترب منه أكثر توجهت إلى مسجد الدوار وكان خاليا، فدخلت مقصورته، وجلست في المحراب، ووضعت اللعبة أمامي على الحصير، وطفقت في الدعاء والتضرع لله أن يصلح لعبتي وأن ينقذ فرحتي. دعوت طويلا، ثم تحسست لعبتي وتفقدت زنادها..لعل الله أجاب دعائي وأصلح عطلها..لكنها لم تعمل، فالله لم يستجب بعد..عاودت الكرة فتضرعت..لكن لاشيء، فلعبتي مازالت معطلة..فيبدو أن المسجد خال من الملائكة أيضا وليس من البشر فقط. تركت اللعبة في المحراب وخرجت من المسجد، تركتها بين يدي الله هناك في بيته لعله يصلحها، فعدت وتفقدتها لأكتشف أنه لم يصلحها ولم يجب دعائي؛ ورغم أن إيماني كان صادقا، ودعائي كان مخلصا، إلا أن الله لم يصلح لعبتي ولم يتدخل لإنقاذ فرحتي ورفع هواني بين الأقران.
تعبت من الدعاء، ويئست من إصلاح لعبتي فغادرت المسجد أتأبطها معطلة، وبعطلها أمضيت ليلة عاشوراء، وبدل أن تصدر أصواتها فقد كنت أضغط الزناد وأصدر صوت الرصاص من فمي..لكنني فهمت أن الله لا يصلح لعب الأطفال ليفرحوا مثلما لا يعطل اليوم أسلحة الكبار فتتوقف الحروب ليعيش الأطفال بسلام..

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت