بلاتر.. الحاكم بأمر الكرة

بلاتر.. الحاكم بأمر الكرة

- ‎فيرأي, رياضة
414
0

يونس الخراشي

بلاتر ليس رجلا استثنائيا وحسب، إنه ظاهرة تستحق التحليل في أكبر معاهد العلوم الإنسانية. فهذا السويسري الطاعن في السن، الذي اضطر إلى الطلاق ثلاث مرات، في ما يؤكد فشله أسريا، تمكن، طيلة 17 سنة الماضية من تسيَّد أكبر هيئة رياضية في العالم، قائدا متهما بالاستبداد والفساد، مع أنه يقول العكس، مستشهدا في كل مرة بصندوق الاقتراع المعتمد لاختياره رئيسا.
اسمه الكامل جوزيف سيب بلاتر، وهو من مواليد 10 مارس 1936 بإحدى القرى الصغيرة بسويسرا اسمها فييج. بدأ حياته بشكل عادي تماما؛ طالبا بمعهد سيون، ثم سان موريس، لا توحي نتائجه بأنه سيكون صاحب مكانة كبيرة في المستقبل، فأحرى أن يكون أشهر من نار على علم، يعرفه كل الناس تقريبا، لأنه الحاكم بأمر اللعبة الأكثر شعبية في العالم، وهي كرة القدم.
لا أسرار في حياة بلاتر، سوى تلك التي تتصل بمزاعم الفساد. أما البقية فمعروفة لدى الجميع، وأولها أنه رجل يشتغل دون توقف. إنه آلة. بل هو أكثر من ذلك، فالآلة ربما تتوقف لتمنح فرصة التزود بالطاقة، أما بلاتر فلا يتوقف، بل يبدأ دائما من جديد. وحين يتعب معاونوه، يكتشفون أن الرجل سينتقل إلى عمل آخر قد لا يخطر لهم على بال، ويتعلق بتفاصيل صغيرة جدا، قد لا تعني شيئا لغيره.
يقول بلاتر، في حديث سابق، إن الكثير من الشباب لا يعرفون بأنه قضى 1400 يوم في الخدمة العسكرية حينما كان شابا، ويضيف مزهوا بأنه كان، حينها، قائدا لكتيبة كاملة، وأن ذلك بالضبط ما علمه كيف يكون منضبطا، ومحترما للتفاصيل، ولا سيما للنظام، غير أنه لا يقول، في الحديث نفسه أو في سواه، كيف تسنى له أن يكون “ثعلبا ماكرا”، لا يغلبه في مكره أعتى عتاة المراوغات.
والحقيقة أن الرجل، الذي دخل الاتحاد الدولي لكرة القدم من الباب الضيق، إذ اشتغل بداية مديرا فنيا لواحد من القطاعات داخل “فيفا”، دون أن ينتبه إليه كثيرون، قبل أن يتسلق الدرجات، ليصبح، في سنة 1981 أمينا عاما، ثم مديرا تنفيذيا في سنة 1990، فرئيسا إثر انتخابات سنة 1998، التي جرت بباريس، على هامش كأس العالم بفرنسا، حيث خلف “الأب الروحي” جواو هافيلانج، أحد “أباطرة فيفا” السابقين.
ولأنه داهية في استعمال “المال والسلطة”، وهذا مفتاح شخصيته الحقيقي، فإن بلاتر عرف كيف يستثمر كل درجة مر بها وهو يدخل إمبراطورية اللعبة الأكثر شعبية في العالم، إذ استعان بعلاقته الوثيقة بمالك شركة “أديداس”، ليقنع كل الفاعلين في الكرة بأن عليهم أن يستعملوا ألبستها، على أساس أن الشركة ستؤدي خدمات كبيرة للعبتهم، إلى أن حول المال الوفير إلى “وسيط” لرغبته في الوصول إلى أعلى هرم “السلطة الكروية”.
ابنته كورين بلاتر تؤكد، في تصريح سابق، أنه فشل فشلا ذريعا في علاقاته مع زوجاته، وتوضح بأن مفهوم الأسرة ظل غائبا عنه وعنها، مشيرة إلى أن والدها كرس حياته لشيء واحد لا غير، وهو كرة القدم، حتى إنه يصدق القول إن زواجه الأكثر صدقا ونجاحا هو الذي كان بينه وكرة القدم، متمثلا في عمله بالاتحاد الدولي، منذ اللحظة الأولى لالتحاقه به.
ولعل هذا من بين الأشياء التي تفسر العلاقة الخاصة جدا بين ابن الميكانيكي السويسري و”فيفا”، فالأخيرة منحته ما أخذته منه الحياة الاجتماعية، وهو يؤكد ذلك بالقول:”لا يمكنك خدمة كرة القدم وأسرتك.. هذا هو الشيء الذي يحز في نفسي”، ثم يوضح في مكان آخر:”أحب أن أُسَيِّر، وتعلمت ذلك”، مثبتا بالدليل القاطع أن حياته هي “فيفا”، وهو مستعد كي يفعل كل شيء يخطر أو لا يخطر على البال كي تبقى “لعبة بين يديه”.
لقد كان واضحا إذن، ومنذ البداية، أن بلاتر، الذي سبق له أن ترأس الاتحاد السويسري للهوكي على الجليد، وعمل مديرا إعلاميا لجميعة الصحافة الرياضية السويسرية، ومديرا لدائرة أجهزة قياس التوقيت الرياضي في شركة للساعات، وجد ضالته في عالم الكرة، الذي يمنح شيئين يقطران إغراء، وهما “المال والسلطة”، وأنه سيفعل الأفاعيل كي يظل متمسكا بذلك العالم مثلما هو حال محارة مع صخرتها.
وبمرور الوقت سيتأكد ذلك أكثر فأكثر، إذ سيسعى الرجل، صاحب الوجه المحايد، مثل لوح من البلاستيك، أن يعطي الانطباع لكل من يظن أنه سيقربه من أهدافه بأنه الأجدر بصداقته، وبعطاياه، بحيث يكسب وده، وصوته، والأصوات الأخرى التي تتبعه، إلى أن يربح “تكتيكيا” معركة من معاركه، ثم يضرب عنه صفحا، ويمر إلى شيء آخر، يفيده في ضمان الاستقرار لإمبراطوريته، وسلطته على إمبراطوريته.
وإذا كان بلاتر لا يتمتع بالوسامة، فإنه عوض ذلك بالدهاء المفرط، الذي ظل يشحذه كل مرة ليسعفه في الوصول إلى أهدافه، فتجده حتى وهو يفشل يكرر المحاولة، ويقول:”لا بأس، هناك دائما مرة أخرى”، مشيرا بذلك إلى أنه في سبيل البقاء في القمة سيحافظ على رغبته متقدة. يقول أحد معاونيه، وهو غيدو ضونيوني:”كان أول من يحضر إلى مقر فيفا، وآخر من يغادر. وكل أحاسيسه وأفكاره مع الكرة، ولا شيء غير الكرة”.
قوة بلاتر لا تتمثل في قدرته على العمل المتصل بلا تعب، وحسب، بل وأيضا في قدرته على التنويع، وعلى إنتاج الأفكار الجديدة والمثيرة، وأكثر من ذلك على إقناع الآخرين بأنها أفكار مجدية، بل هي الأجدر بأن تطبق، ثم حين يتضح أنها ليست كذلك، وهو ما حدث مثلا مع الهدف الذهبي، أو كأس العالم كل سنتين، فلا ضير في القول إن هناك أفكارا أفضل منها، وستطبق في القريب، بحيث يضع العالم في موجة جديدة تغطي على ما سبق.
بالنسبة إلى أندرو جنينغ، وهو صحافي بريطاني ظل يطارد بلاتر أينما حل وارتحل، محاولا إثبات فساده، وضرورة تنحيته حتى يتسنى للكرة العالمية أن تصبح أكثر عدلا وديمقراطية، فإن السويسري صاحب العينين اللماعتين كضوء مجهول في آخر الظلام، رجل فاسد، ولا يمكنه بالتالي أن يكون جزءا من الحل، مشددا على أن “ألكابوني، زعيم المافيا الإيطالية، لم يسبق له أن أصلح المافيا”، في إشارة إلى فضائح الاتحاد الدولي المتكررة.
أما بالنسبة إلى بلاتر نفسه، وهو دبلوماسي رفيع في هذا الجانب، بحيث يعطي الفرصة للآخرين كي يتهموه، ويرد عليهم بهدوء ساعة سويسرية دقاقة، فإن الأمر يتعلق بهراء لا أساس له من الصحة، ويقول في كل مرة يصوت عليه الكونغريس العالمي:”أنا فيفا، أنا ربانكم، سأستمر معكم، وأعدكم بأن أصلح ما أفسده الآخرون، لنعطي صورة طيبة عن عالمنا”. وهي جملة تكررت في مناسبات عديدة، حتى صارت مثل أسطوانة يحفظها كثيرون، ولا تعني شيئا في الواقع.
العجب العجاب هو أن من ظلوا يشككون في ذمة بلاتر هم أول من ظل يصوت لفائدته، معطين بذلك الدليل على قوته، إذ أنه كان يدفعهم من حيث لا يعلمون إلى التصويت عليه في الجمعية العمومية، حين يكتشفون بطريقتهم الخاصة أن الرجل كسب الكثير من الأصوات، وأن تصويتهم ضده لن ينفعهم في شيء، بل قد يضر بهم في المستقبل، لأنه قلما تعفف عن الانتقام ممن وقفوا له بالمرصاد، وأكبر مثال هنا القطري محمد بن همام، الذي طرد طردا شر طردة من فيفا، فقط لأنه كان مرشحا قويا للفوز بالرئاسة، إضافة إلى الكثير من ممثلي أوروبا، رغم أن اتحادها بزعامة الفرنسي ميشال بلاتيني خاصمه بشدة، سيرا على أثر سلفه لينارت يوهانسون، إذ ظل الممثلون الأوروبيون يقولون في وجه بلاتر ما لا يفعلون عند صندوق الاقتراع.
في آخر جمعية عمومية للاتحاد الدولي لكرة القدم، وهي التي أقيمت تحت وابل من القصف العالمي لبلاتر، بفعل فضيحة “رشاوى” كبيرة فجرها النائب العام الأمريكي، كان كل العالم من حول الرئيس يغلي، إلا هو، ظل هادئا مثل قطة ثلج في جبل سويسري، نشيطا مثل فراشة في الربيع، محسنا للإنصات، مثل أب في معبده، بعينين ترصدان كل صغيرة وكبيرة كأنهما كاميرا حساسة، وبصحة جيدة جدا، بفعل الرياضة اليومية، كما لو أنه لاعب كرة محترف. فلم يتزحزح قيد أنملة عما هو عليه، قائدا لا يغلبه الأمير علي بن الحسين، بل ينسحب الأخير ليبقى بلاتر.
وبما أنه سرعان ما ينزاح ب360 درجة مائوية عما وعد به، فإن بلاتر، الذي وعد بأنه سيصحح صورة “فيفا” قال إنه يشعر بالامتعاض للطريقة التي تعاطى بها الأمريكيون مع قضية الرشاوى، ليشعرهم بأنه أقوى مما يظنون. كما عبر عن امتعاضه مما سماه كره الأوروبيين له، ليؤكد لهم تفوقه عليهم. وقال كذلك إنه لا نقاش في مونديالي روسيا وقطر، ليعزز ثقة من صوت لفائدته. ولم ينس أن يتودد إلى من صفعهم، وهم الأمريكان والأوروبيين، ليحافظ على “شعرة معاوية” إزاءهم، إذ قال إن كأس العالم 2026 ستكون مفتوحة في وجههم، مع أنه سبق أن وعد الأفارقة بأنها ستنظم في القارة السمراء.
وحينما كان أعضاء المكتب التنفيذي يغادرون مواقعهم حتى يفسحوا الفرصة لصعود مكتب جديد، لوحظ أن الرجل الشيخ يقف، بعد أيام من التعب المضني، برشاقة وأناقة كبيرتين، كما لو أنه ينتظر حبيبته في حديقة، يسلم كلا منهم شارة الشكر، قبل أن يعمد إلى منصة الخطابة ليقول جملته الشهيرة:”أريد البقاء بينكم، هذا كل ما في الأمر، ببساطة”.
بلاتر أصبح مرادفا لـ”فيفا”. فهو يمتلك سلطتها القوية في العالم، بحيث تسيطر على 209 اتحادا كرويا، ولا تسمح لأي جهاز حكومي بالتدخل في شؤونها وإلا تعرض للعقاب، وتسيطر على مقدرات مالية كبيرة، بحيث توزع منها أجزاء مهمة على الاتحادات القارية، ومنها على المحلية، بما يسمح للرئيس أن يضمن أصوات الناخبين، عندما يحتاج إليها.
ولأنه كذلك، فقد كان بلاتر، وما يزال، رغم كل تهم الفساد، يستقبل استقبال القادة أينما حل في دول العالم، ويحظى بأجنحة في أفخر الفنادق، وبسيارات فارهة، وحتى بأشياء أخرى يعشقها الباذخون في أسفارهم. والويل الويل لمن لا يحترم تلك الرغبات، إذ يقول معاون لبلاتر:”في صباح اليوم التالي تسمع منه كلاما لا ينتهي عن استقبال الأمس، يخبرك بأنه لم يكن راضيا، وبأنه لن ينسى ذلك”.
هل حقق بلاتر للكرة شيئا ما؟
بطبيعة الحال، وإلا ما كانت على ما هي عليه اليوم، بحيث صارت معبودة الجماهير، ومحبوبة الشركات العملاقة، وصديقة السياسيين، وخزان المال في كل دول العالم، فقد ورد في التقرير الأخير لكونغريس زيوريخ أن “فيفا” أنفق على تطوير كرة القدم ما يفوق 2 مليار دولار أمريكي، مع رصده 900 مليون دولار أمريكي لتطوير كرة القدم في دورة 2015-2018، وهما رقمان كافيان للدليل على أن “فيفا” بلاتر صارت أكثر قوة، وأكثر عطاء، وأنه رجل سعيد بذلك.
في واحد من حواراته التلفزيونية، سئل بلاتر عما إذا كان سعيدا، فقال بفرنسيته الخاصة:”نعم أنا سعيد”، ثم تردد شيئا ما، وقال مرة أخرى:”نعم، أنا سعيد”، وعاد ليتردد، كأنما يرغب في الاستدراك، ويقول إنه سعيد ولكن ليس كثيرا، إذ يفتقد جملة أشياء ضمنها دفء الأسرة، غير أنه انتهى إلى القول:”نعم، سعيد، أنا سعيد”، ليبقي هو نفسه، ذلك الرجل الذي حول كرة القدم إلى شأن شخصي، ثم إلى ملكية خاصة، فإلى إمبراطورية، فإلى معبد كبير، ملأه بالسدنة، والويل لمن استهان به، أو بالحاكم بأمره، جوزيف سيب بلاتر.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت