السفسطائيون الجدد؛

السفسطائيون الجدد؛

- ‎فيرأي
241
0

بقلم ذ سيدي محمد الناصري؛

مظنون الرسالة؛

في حياتنا العامة، كما في خطابنا الطبيعي، و (منذ بدء الخليقة، و الإنسان يسعى الى أن يوصل فكرته بغير طريقة ممكنة، فترى من يحمل الناس حملا على اعتناق أطروحته، و آخر يسلك سبلا غير سوية بغية تحقيق الهدف نفسه، و ثالث يطرق أبواب العقل، و رابع يجيش العواطف و يستثير المشاعر).
أول ما ظهر الخطاب كان حجاجا: هناك الحجاج المبني على أصول جمعت بين ما هو عقلي منطقي، و بين ما هو عاطفي تأثيري. و هناك الحجاج المبني على دوافع تداولية، نفعية، تسعى الى تبيين القصد من الكلام مع حسن توظيفه. و هناك الحجاج المبني على ضوابط تنفي الإكراه، تضمن التواصل بين الأفراد، و تحتفظ لكل منهم بحرية الرأي دون حجر أو تبخيس. و هناك الحجاج المغالطي أو الحجاج بالباطل، و هذا هو بيت القصيد. يسعى مستعملوه الى تزييف الحقائق وتدبير المكائد بنية مبيته، يسقطون الناس في الخطأ عن قصد، و يسمى، حسب أحد الباحثين، ببلاغة سوء النية.
حجاجٌ ماكر، دون ما سبق من أضربه، يضع حسن النية جانبا، و يذهب الى كل ما من شأنه أن يعلي راية الخداع. يفتخر رواده بالنتائج المحصل عليها و يعتبرونها انتصارا لنزواتهم، يتغير فكرهم وفق مصلحتهم. تختلف المكاييل و المقاييس لديهم حسب اختلاف المواقف و المقامات. لا يستقرون على رأي، يتأرجحون بين الحق و الباطل في بحث دائم عن التسلط بالقول، فأينما حلت مصلحتهم حلوا. كمثل (السفسطائيين الجدد) غزوا جميع مناحي الحياة، ليجد المرء نفسه مقهورا معنفا في سلوكياته، تتجاذبه العديد من الخطابات المغالطة، بين ما هو إعلامي إشهاري، و بين ما هو اجتماعي سياسي، و بين ما هو ديني عقائدي. فأصبحت المغالطات، كما قال أحد الباحثين، خبزنا اليومي و لغتنا الثانية و منطقنا الآخر، نستعمله و يستعمل علينا حتى في خطاباتنا العادية، و إليكم بعض مناحيها و تمظهراتها؛
فبدل أن يجيب المغالط على شكوك الآخر، مبرزا الدواعي و الأسباب، يتغاضى، محاولا الهروب من الإجابة. فدائما ما تصادر المطالب في الكلام، و تعوض بما يناسب ظروفا معينة تروم الحفاظ على مناخ ما، كأن يرصد جزء كبير من ميزانية الدولة لدعم برامج للتسلية والترفيـه، في حين أن نسبة كبيرة من الشعب تعاني الهشاشة و الفقر و الأمية.
هذا و يحاول المغالط استدارة شفقة الآخر، مستعملا حججا واهمة، مصنوعة لغرض. مؤطرة و غير موضوعية؛ ضمنها الحيل العديدة و المتنوعة التي يوظفها المتسول حتى يستميل عطف الناس. أو التي يوظفها النصاب المحتال حتى يستميل طمعهم، و في الحالتين معا، يكون الغرض هو سرقة أموالهم و ممتلكاتهم أو الحجر على آمالهم و أحلامهم. تطور هذا النوع من المغالطات بمستويات عالية، ليغزو جميع المجتمعات، مواكبا التطور العلمي و الاقتصادي، مستغلا جميع الفرص والإمكانات.
دون رحمة يصدر المغالط أحكاما ظالمة، محاولا تبييض حائط على شدة سواده، كأن يتعلق المغالط بموضوع أو أمر لا علاقة له به. أو أن يبدي رأيا قاطعا في شأن، لا يمت له بصلة، أو أن يتحدث في علم، لا علم له به. فيكون بذلك سببا في التزوير والتنميق و تغيير ملامح الأشياء.
يلتف المغالط عن القصد من القول، محاولا استدراج الآخر الى موضوع آخر. فيأتي بكلام آخر، يخوض خارج السياق كوسيلة للهروب من المعاني المقصودة الى معاني أخرى مرغوبة. فالالتفاف عن القول مغالطة توظف، هروبا، إما لغباء أو لضعف أو لقوة أو لتواضع: لغباء، إذا كان المخاطب خبط عشواء، لا يستوعب ما يقال. لضعف، حينما ينحسر الكلام وينهزم المخاطب وتغيب أجوبته. لقوة، عندما يكثر الثناء وتفيض الكلمات بالمحاسن و المكارم. تواضعا، حين يحاول المحتفى به تغيير الموضوع الى وجهة أخرى، دفعا للغرور و احتراما لشعور الآخرين.
المغالط عوض أن يوجه اللوم لمن يستحقه، يلوم البريء الأعزل، عوض أن يلوم فحوى الرسالة يلوم الساعي الى تبليغها، عوض أن يلوم الآمر، يلوم المأمور، عوض أن يلوم المشرع، يلوم المنفذ. فدائما الحلقة الأضعف والأقرب في سلسلة منظومة ما، تكون محط انتقاد، و إليها يوجه اللوم في حالة الفشل، أما في حالة النجاح، فيكون التملق و الإجلال من نصيب الحلقة الأقوى و الأبعد.
المغالط يتمادى في ذكر مغالطات أخرى، بناها على ما سبق في كلامه من مغالطات. ليستمر مغالطا منزلقا، في تحميل الآخر مسؤوليات عظيمة، لا علاقة له بها لا من قريب و لا من بعيد. غياب الردود، إما بتوجيه أو تصحيح، يجعل المغالط يكتسب ثقة أكبر. ينقض على غريمه و يسترسل في كلامه، كمثل الهاوي الى منحدر، ظانا أنه على صواب، في حين أنه لا ينتج إلا مزيدا من المغالطات.
بكل جرأة يقوم المغالط بتقويم لذاته بذاته، مفردا لا شأن له برأي العموم، فكل محاجج مغالط يأتي بما يعزز موقفه و يعلي من شأنه، يفرد متى يشاء و يعمم و يستثني متى يشاء، حسب ما يخدم نوازعه الكاذبة، إذا أصاب تفرد، و إذا خاب عمم، و إذا قصد استثنى.

هي فقط بعض أوجه المغالطات، حالات شاذة، يفقد فيها الحجاج نزاهته، يركب صاحبه العبثية في بحث دائما على نتائج غير صحيحة تقوم على مقدمات بقياسات و قواعد مغلوطة. يوجه العقل وفق المقصود، و يلفق الأدلة و الحجج وفق المرصود. يغتنم الفرص و يستغل الفراغات. يبني على الهفوات، و يحسن اختيار أوان القول و موضعه. يصادر المطلوب و يعوضه بما يناسب ظرفية معينة. يشخص، يتقمص الأدوار و يوظف الحيل لاستمالة المشاعر. يتلاعب بالألوان، لا يسمي الأشياء بمسمياتها، يميل الى التشكيك و الضبابية و التمويه. كثيرا ما يعطي ظهره، ملتفا عن الحقائق، محاولا استدراج غريمه الى مرتعه حيت يحسن اللعب و يثقن المراوغات. يخرج عن سياق الكلام، للهروب من مواقف عدوة الى أخرى صديقة تخدم غاياته البئيسة. يفرغ المصطلحات من مفاهيمها المعتادة ليعيد تعبئتها بما يناسب مظانه و معتقداته. لا يقيل عثرة غريمـه، لا ألفة لــه، يوزع التهم على البراء و يعفو عن المذنبين العصاة. يلقي بالملامة اعتباطا. يعلق أخطاء هذا على شماعة هذا. يكتسب ثقته أمام غياب الندية، فيصول و يجول متملكا خيوط الخطاب، يبني على ما سبق من مغالطات و يستمر في إنتاج مزيد منها، بل يزيد تفننا و تنويعا. يدعي التفرد بانتصارات كان للآخر فيها نصيب من الجهد و المثابرة، و ينجو الى التعميم في حالات الإخفاق، متملصا من المسؤولية محملا إياها لغيره.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

إهانة مستشار ملكي في مسيرة الرباط: انزلاق خطير في الخطاب العمومي؟

نورالدين بازين شهدت العاصمة الرباط صباح يوم الأحد