الرباط: محمد بلال
“يوميات سكير” هو عنوان الكتاب المثير للجدل، لصاحبه الكاتب والصحافي عبد العزيز بنعبو، والذي صدر قبل مدة عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، والواقع في 80 صفحة من القطع المتوسط.
وتوزع الكتاب على 23 عنوانا تجولت في مسارات يومية يحكي فيها عبد العزيز بنعبو، عن كواليس “البلية” والعلاقة مع الكحول، ويسرد تفاصيل بعض الجلسات، كما يخوض في تلك المشاعر المتضاربة ويتوغل في أدغال “الثمن” كما يسمى باللهجة المغربية، وهو الوصول إلى أعلى درجات الثمالة.
وقد خص الكاتب والصحافي بوشعب الضبار، الكتاب بتقديم هو عبارة عن قراءة في متنه، والذي اختار له عنوان من (“سنوات السكر العلني والسري” إلى “مرحلة الصحو”..)، وقال في مستهله “لأول مرة في المغرب، وفي سبق غير معهود، يجرؤ كاتب صحفي وإعلامي وشاعر معروف على الخوض في تجربة شخصية ذات طابع اجتماعي حول رحلته في دهاليز وأقبية الحانات المعتمة، ومعاقرته الكأس حتى الثمالة، والسهر مع الندماء حتى آخر أنفاس الليل.”
وقد قدم له الأستاذ بوشعيب الضبار، الذي اعتبر أنه ولأول مرة في المغرب، وفي سبق غير معهود، يجرؤ كاتب صحفي وإعلامي وشاعر معروف على الخوض في تجربة شخصية ذات طابع اجتماعي حول رحلته في دهاليز وأقبية الحانات المعتمة، ومعاقرته الكأس حتى الثمالة، والسهر مع الندماء حتى آخر أنفاس الليل.
مرات عديدة تساءل بقلق، بعد أن “راحت السكرة وجاءت الفكرة”، كيف استطاعت قدماه أن تحملاه، وهو لا يستطيع التحكم في خطواته، بل كيف قاد سيارته، وعاد سليما إلى أسرته الصغيرة، دون أن يتسبب في أي أذى للآخرين، الذين قد يقودهم سوء الحظ العاثر إلى طريقه..
هي يوميات، وبالأحرى “سرديات خمرية”، إن جاز التعبير، لها خصوصيتها، تسبر أغوار هذه العوالم السفلى الحبلى بالأسرار الغامضة، والحكايات المثيرة عن مرتادي تلك الفضاءات، يرويها الكاتب والإعلامي الأستاذ عبد العزيز بنعبو، بأسلوبه الرشيق، ويضفي عليها هالة من التشويق.
وهو يعيش تلك الليالي، كان يتماهى مع أم كلثوم، وهي تغني ” هذه ليلتي”، تحلق به نبرات صوتها عاليا، فينتشي وهي تدعوه: “إملأ الكأس بالغرام وهات..”
هذه المطربة التي حملت لقب “كوكب الشرق”، طالما رصعت بحنجرتها الذهبية سهرات مرتادي الحانات، وهم يترنحون برؤوسهم، وسط سحب الدخان، مرددين معها بشكل جماعي: “هل رأى الحب سكارى مثلنا؟”، ولعلهم يعتقدون أنها تغني لهم، بل وتشاركهم جلسات السمر، وتمسح بمنديلها الشهير عرق ملامحهم وتعب السنين على وجوههم.
“البلية صعيبة”، ولم يكن من السهل التخلص منها، وبنعبو يحكي هنا بسلاسة، كيف استطاع الفكاك من خيوطها، بنوع من المكابدة، طبعا، ولولا الإرادة القوية والرغبة الشديدة في مقاطعة الرفيقة “عائشة الطويلة” وصويحباتها من القنينات الأخريات، ذوات الأنواع والألوان المختلفة، التي تغري الناظر بسحر عيونها، وجاذبية قوامها، لما أفلح في وضع نهاية لمسلسل الإدمان، رافضا رفع الراية البيضاء.
وباعترافه شخصيا: “لا مجال للكذب هنا، فالمراودة واردة”، وتلك الحشرجة التي تنتاب صوته، والنظرات الهاربة من “الكونطوار” ومن “البارمان”، ومن صف القنينات الذي يزين الخلفية وراء الساقي، كلها كانت تشير إلى أنه “في حالة حرب طاحنة وحقيقية وجبهتها الأساسية هي نفسية بالدرجة الأولى، طبعا لا مكان لفرويد في هذه الواقعة، لأنه بكل بساطة لم يجرب أن يعيش في قنينة وبعدها يخرج إلى العالم الرحب، ويهجر معشوقته على حين غرة ودون مقدمات أو حتى بدون خصام و”مناكرة”، وفق تعبيره.
إنها تجربة شخصية مثيرة، جديرة بأن تأخذ حقها من الاعتبار، وتستحق الاهتمام والمتابعة، على أساس أن تقرأ جيدا، وتخضع للتحليل، لأنها تمتح من واقع معاش، ندرك جميعا تبعاته وانعكاساته، وما يفرزه من ظواهر وتجليات في الحياة الاجتماعية.
هي أيضا تجربة ملهمة لكل من يريد أن يخرج من هذه الزاوية الضيقة إلى الأفق الشاسع، والى “الحياة الرحبة”، مثلما فعل بنعبو الذي سكب في هذه اليوميات خلاصة القصة وما فيها، منذ البداية حتى النهاية..
من بين الرسائل التي حملتها صفحات هذه السرديات أن صاحبها الأستاذ عبد العزيز بنعبو، حتى وهو مستغرق تماما في مقارعة الكأس، فإن ذلك لم يصرفه أبدا عن دوره وواجبه كصاحب أسرة صغيرة، من حقها عليه أن يرعاها، ويوفر حاجياتها اليومية، بحرص شديد، رغم محدودية الإمكانيات، كصحافي “يتقاتل مع الوقت” لتوفير لقمة العيش في الزمن الصعب…
ما كان يوجعه حقا هو توزيع لحظات حياته العائلية بين “الحضور والغياب” في يوميات أبنائه، وهو الأمر الذي تداركه في “مرحلة الصحو”، بعد قرار الابتعاد عن “معركة السكر”، والدليل قطف فلذات أكباده لثمار النجاح في حياتهم الدراسية.
وفي هذه الرسالة وغيرها من التلميحات، ذات الدلالة الخاصة، درس بليغ لبعض المدمنين، أولئك اللذين قد يهملون عائلاتهم، فلا يحمل الواحد منهم حتى حصة الحليب لصغيره، أو علبة الدواء لزوجته أو والدته، ينما قد يكون قد أفرغ كل ما في جيبه في سهرة خمرية مجنونة، يغيب فيها العقل، ويحضر الهذيان.
اللافت للانتباه في هذه اليوميات، أن كاتبها الأستاذ بنعبو لا يعتلي منصة الخطابة، ولا يصدر الفتاوى، حول حدود الحرام والحلال، ولا يقدم النصح والإرشاد، ولا يدعي البطولة، بل انه انتبذ مقعدا، وجلس كسكير سابق، يستحضر مغامراته بمنتهى الأمانة والصدق مع النفس، كما عاشها، في لحظة مكاشفة، تاركا للآخرين، أصحاب العقول المتصفة بخاصية التفاعل الايجابي، فرصة استيعاب الدرس من تلقاء أنفسهم.
لقد كان معروفا بشراهته في الشرب، وكان يحلم دائما بتناول “كأس نقي” على حد تعبير صديقنا المشترك الكاتب المغربي المرحوم إدريس الخوري، الذي استضافه بنعبو ذات مساء في سمر فكري، في أحد فضاءات العاصمة، بحضور الصحافة، وكان حديث الوسط الثقافي والإعلامي، لعدة أيام، لما ساده من بوح على لسان “بادريس”.
هو لا يريد أن يغرق السطور في هذا المتن بفيضان من الوعظ، وإنما هدفه، كما أتصور، هو أن يبسط أمام الجميع عصير حكايته مع الكأس، كما عاشها، وسط مختلف الفئات الاجتماعية، في الحانات الشعبية والمصنفة، ووصفها بكل دقة وإتقان، ويبقى لناس “قبيلة شاربان”، واسع النظر في التفاعل معها، بالشكل الذي يناسبهم.
وإذا كان قد قاطع “حس القرعة وما يجي منها”، بالتعبير الدارجي المغربي، فإنه لم يفقد أبدا عشقه للحياة في نبضها اليومي البسيط، ولم ينسف جسور التلاقي مع من كانوا يقاسمونه تلك الجلسات الخمرية، في وفاء منه لقيم الصداقة أولا، وفي تحد مع نفسه، ثانيا، وامتحان لها على مدى قدرته على الصمود إزاء نداء عشيقاته السابقات ذوات الأجساد الرشيقة، التي تتدثر بالثلج فتكتسب بهاء وشغفا في عيون الندامى.
ومن حسن الحظ أنني عرفت بنعبو عن قرب، وجمعتنا ظروف المهنة في منبر واحد، على مدى سنة كاملة، والحق أقول إنه كان نعم الصديق والزميل، مارس كل فنون الكتابة، شعرا (ديوانه “نصيبنا من الظلمة”)، وسردا مشروع كتابه (“المكان أو جغرافية السعادة”)، والآن هذا المتن الجميل ” يوميات سكير… العبرة حصاد تجربة”.
ويبقى عليه الآن، كاقتراح، مجرد اقتراح، بعد أن اقلع عن الشراب، أن يسجل مذكراته في الصحافة الفنية، التي كرس لها عمره، وهو الذي طالما تبنى المواهب الصاعدة، دعما ومساندة، وسخر قلمه وعلاقاته لتعبيد الطريق أمامها، قبل أن تنطلق في سماء الشهرة.
ثمة نصوص تأسرك من أول صفحة، تحاصرك، وتحكم قبضتها عليك فلا تستطيع منها فكاكا إلا ببلوغ النهاية، استسلاما لمتعة قراءتها، وجاذبيتها وإغرائها، وبريق حروفها المشع إبداعا، وسرديات بنعبو من هذا النسق الذي يبحر بك شراعه بعيدا، ولا يتوقف بك إلا في الصفحة الأخيرة.
في هذه “السرديات الخمرية”، ثمة مكونات تثير الإعجاب لدى المتلقي: طرافة الفكرة، ورمزيتها الاجتماعية، خطاب الحكي، أسلوب السرد الانسيابي، روح المرح، ونكهة السخرية المبطنة بين السطور، والعبرة التي تشكل خلاصة التجربة التي امتدت على مدى سنين بين “السكر العلني والسري”.
الآن حين يسأل بنعبو، من طرف أصدقائه، عبر صفحته في “الفايسبوك”، بعد هذا المسار الطويل مع “القرعة والكأس”، يجيب باختصار شديد:
أنهيت الطواف، وأعيش لحظتي مع خالقي بهدوء، اكتفيت.”