بقلم: أنس الملحوني
إدراج أدب وفن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية تداعيات وتحديات.
تحت عنوان ” نظرة على الفنون ” حضر فن وأدب الملحون بوصفه تراثا لا ماديا للإنسانية خلال فعاليات الدورة التاسعة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب، دورة أشرفت عليها وزارة الشباب والثقافة والتواصل خلال الفترة الممتدة من 10 إلى 19 ماي 2024 بساحة OLM السويسي بالرباط، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.
فقد عرفت قاعة ” أفق ” عشية يوم السبت 18 ماي 2024 تنظيم ندوة علمية للاحتفاء بهذا الاعتراف الدولي بأدب وفن الملحون، وقد شارك في هذا السياق ثلة من الأساتذة الذين تناولوا بعض الجوانب التي ميزت هذا المظهر الحضاري للمغاربة، وهم: د. أحمد ازنيبر، ذ. أنس الملحوني، ذ. نور الدين شماس، وقد عمل على تدبير النقاش وتسييره د. عز الدين المعتصم.
ونتيجة للظهور المتواصل لفن الملحون ولحضوره المتجدد في الساحة الثقافية والإبداعية، حظي باعتراف رسمي من قبل منظمة اليونسكو، وسُجل ضمن قائمتها تراثا ثقافيا لا ماديا. ولهذا سلطت الندوة المزيد من الضوء على هذا اللون التعبيري الدارج، أو “لكلام” بلغة أهل الملحون؛ نتوقف في هذا السياق عند ورقة الأستاذ أنس الملحوني التي جاءت موسومة ب: “إدراج أدب وفن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية … تداعيات وتحديات”.
على سبيل الاستهلال:
لم يكن حدث إدراج فن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية لليونسكو أن يمر دون الوقوف عند تداعياته حاضرا، والتفكيرِ في استثمار هاته الحظوة الدولية في مستقبل قريب؛ فبعد موافقة اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو يوم 6 دجنبر 2023 بدولة بوتسوانا، على طلب المملكة المغربية بإدراج فن الملحون في لائحة التراث الثقافي غير المادي للبشرية، وكما جاء في منطوق الإعلان عن الخبر – حينذاك -، بأن فن الملحون هو فن شعري، موسيقي، شعبي مغربي، لاحت في الأفق العديدُ من التساؤلات، بعضها غلبت عليه العاطفة والذاتية من جراء تجليات هاته البشرى التي أسعدت كل المنتسبين إلى فن الملحون خاصة والمغاربة بوجه عام، وبعضها الآخر بدا موضوعيا من خلال استدعاء قراءة تروم تحليل وتركيب ما يمكن أن يرشح عن هاته الحظوة الدولية الغير مسبوقة لفائدة فن الملحون.
ومن هاته التساؤلات التي تروم هاته الورقة الإجابة على بعضها نذكر ما يلي:
- كيف يمكن لفن الملحون أن يعزز مداركنا العلمية لفهم الثقافة المغربية الأصيلة، عبر نقله لهويتنا المشتركة، ولتقاليدنا، وقيمنا الاجتماعية؟
- كيف يمكن لفن الملحون أن يُلهم الشباب المغربي، ويشجع على المشاركة في الممارسات الثقافية؟
- ما هي الأدوار الفضلى التي يمكن أن تلعبها المدارس والمؤسسات التعليمية والجامعات المغربية في نقل وتعلم فن الملحون؟
- كيف يمكن أن يؤدي إدراج فن الملحون في لائحة التراث اللامادي للبشرية لليونسكو إلى تعزيز السياحة الثقافية في المغرب؟ وما هي الفرص الاقتصادية الناشئة عن تشجيع هذا الفن؛
- كيف يمكن أن يؤثر إدراج فن الملحون في القائمة التمثيلية لليونسكو على التفاعل الدولي والتبادل الثقافي؟
- ما هي التحديات المحتملة التي قد تعوق المحافظة على هذا التراث المغربي الأصيل؟
- كيف يمكن استثمار مختلف المسؤوليات على تنوع مستويات تدخلها، في توطيد المحافظة على فن الملحون، وتحصينه من موجات التفاهة التي أضحت تهدد الكثير من مظاهرنا الثقافية المغربية؟
ح – كيف يمكن لمحن التحديات المحتملة للحفاظ على هاته الثروة الثقافية المغربية اللامادية، أن تصبح منحا أمام تطلعاتنا المستقبلية بعين إيجابية، وأمام استثمار أمثل لهذا الاعتراف الدولي على المستوى الثقافي، الاجتماعي، الاقتصادي، والسياحي؟ …
- فن الملحون واعتراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة … سياقات تاريخية:
بداية، هنيئا لكل المغاربة بهذا الاعتراف الدولي الكبير، الذي فتح الأبواب مشرعة، بعدما سلط الضوء على أحد مظاهر الحضارة المغربية، المتمثلة في منظومة ثقافية رفيعة، عميقة ومتشعبة مضامينها، جمعت ما بين الشعر والأدب والموسيقى والأداء؛ وهنيئا – أيضا – لكل المنتسبين لفن الملحون على وجه الخصوصِ: شعراءَ، منشدين، عازفين، باحثين، شدادة، جمعيات فنية، مسؤولين، منتخبين … فإليهم يرجع الفضل أمام هاته النتيجة الإيجابية التي سيكون لها ما بعدها على اعتبار أن فن الملحون الذي عمر لأكثر من سبعة قرون متحديا من جهة، كل التحولات الثقافية التي عرفتها البنيات الاجتماعية المغربية، ومن جهة ثانية، قاوم كل أشكال المثاقفة الخارجية التي سعت إلى اجتثاث المواطن المغربي من تربته الأصيلة في أبعادها الثقافية والدينة؛ فلنا إذن أن نستبشر خيرا بما يمكن أن يكون من تداعيات إيجابيةٍ على هذا الحدث الدولي.
تعود الإرهاصات الإجرائية الأولى لتكوين ملف تبنته أكاديمية المملكة المغربية، يدعو منظمة اليونسكو إلى إدراج فن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية خلال سنة 2017، حيث نظمت الأكاديمية بمقرها تحت إشراف الدكتور عباس الجراري، يوما دراسيا في موضوع “لغة الملحون” وذلك يوم الخميس 18 ماي 2017، شاركت فيه ثلة خيرة من الباحثين الملمين بفن الملحون شعرا وأدبا وتاريخا وموسيقى من المغرب وفرنسا. وفي ذات السياق، نظم بتاريخ يوم الأربعاء 24 ماي 2017 بمقر أكاديمية المملكة حفل فني باذخ أشرف على إعداده وتنسيقه وإخراجه الأستاذ عبد المجيد فنيش، أما التنسيق الموسيقي فكان للفنان محمد الوالي. جمع الحفل ما بين الإنشاد، والتمثيل، والتشخيص، والسرد، شاركت فيه نخبة وطنية من أمهر العازفين والمنشدين والشعراء، وذلك بمناسبة صدور الديوان العاشر من مشروع “موسوعة الملحون” التي أشرفت عليها جمعا وإعدادا لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية تحت رئاسة الأستاذ عباس الجراري عضو الأكاديمية. خلال هذين الحدثين، تمت دعوة وزارةِ الثقافة، الجهة الرسمية المخول لها إداريا وتقنيا، لكي تتبنى طلب المملكة المغربية، وتقود مشروع الملحون لدى الأجهزة التابعة لمنظمة اليونسكو.
وإذا كان الملف المغربي قد حظي بالتثمين الذي أفضى إلى هذا الاعتراف الدولي، فلأن فن الملحون فن إبداعي مغربي أصيل، ميز المغاربة منذ عدة قرون بوصفه أدبا رفيعا، وشعرا بليغا، متجذرا في البنيات الاجتماعية المغربية، عرف تطورا على مستوى الشكل والمضمون، حتى أضحى عنوان عبقرية مغربية فريدة من خلال لغته الخلاقة، ومعجمه الثري، وأغراضه المختلفة، وعَروضه المتنوع.
فن الملحون هو عنوان حضارة مغربية ضاربة في القدم، فمن خلاله عالج شاعره الملهم العديد من القضايا التي شغلت بال المجتمع المغربي، وقد ظهر ذلك في تنوع وتعدد الأغراض التي تغنى بها منذ الإرهاصات الأولى لهذا الفن الأصيل حيث الغلبة كانت للمضامين الدينية مثل: “التَّصْليَّات“، التَّوسُّلات“، “الشَّوقِيَّات“، “الزُّهْدِيَّات“، “المدائح النبوية“… وتناسل بعد ذلك عدد غير يسير من الأغراض الأخرى مثل: “العْشَّاقي أي الغزل“، ” الرّْبيعيَّات في وصف الطبيعة“، “الخَمْريَّات في أبعادها المختلفة“، “الوَطَنِيات وَالقَومِيَّات“، “الهَزل والتَّفَكُّه“، “النَّصَائِح أو لُوصَايَا“، وما شابه…
لقد استطاع شاعر الملحون أن يرسم بدقة عالية صوره الشعرية وأخيلته الإبداعية البليغة، معتمدا على لغة عامية بليغة فاقت في استعمالاتها البلاغية والإيقاعية العروضية ما قد يقف عليه المتلقي العادي في الشعر المدرسي، حتى شاع بين المنتسبين لهذا الفن بأن: “المَلْحُونْ افّْرَاجْتُو فَاكّْلاَمُو” أي في لغته الشاعرة البليغة الواصلة العذبة المُقنعة.
وعليه، لم يكن بد لفن الملحون إلا أن يجد له مَراتع خصبة في كبريات الحواضر المغربية، وفي أوساط كل فئات المجتمع المغربي، من المواطن العادي حتى الأمراء والملوك، مرورا بالشعراء، والأدباء، والعلماء، والمتصوفة، ورجال السياسة، والعازفين، والمنشدين، وما شابه.
إضافة إلى ذلك، لقد أصدرت أكاديمية المملكة المغربية خلال سنة 2014 ديوان السلطان مولاي عبد الحفيظ حيث قال في مقدمته التحليلية الدكتور عباس الجراري متحدثا عن السلطان مولاي عبد الحفيظ ما نصه: “… فإنه قد أوجد لنفسه موقعا متميزا في سُوح العلم والأدب والتأليف وقرض الشعر“؛ وقال أيضا: “…، وأنظر في الديوان من حيث هو إبداع، وفق المقاييس التي تعارف عليها أشياخ الملحون، أجد للشاعر المولى عبد الحفيظ عدة خصائص تبرزها قدراته التعبيرية …”؛ وفي ختام المقدمة، جاء في حديث الدكتور الجراري ما يلي: ” فبالإضافة إلى قيمته الإبداعية الدالة على علو كعب المولى عبد الحفيظ في فن الملحون، إلى جانب مكانته العلمية والأدبية وما له في مجال التأليف وقرض الشعر المعرب، فهو وثيقة تكشف جانبا يُغني ما تسعف به الوثائق التاريخية في معرفة بعض خبايا حياته الخاصة، …”
علاوة على ما سبق، فإننا نقف – أيضا – على ملمح آخر من عناية ملوك الدولة العلوية بفن الملحون وقضاياه، ومما يُستدل على ذلك ما جاء في قول الراحل الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في الرسالة التي وجهها إلى الراحل محمد الفاسي، عضو أكاديمية المملكة المغربية بتاريخ يوم الخميس 28 رمضان عام 1404 هـ الموافق 28 يونيو سنة 1984 م، وذلك بمناسبة إصدار مشروع “مَعلمة الملحون“، حيث قال جلالته ما نصه: “… مُحبنا وأستاذنا السيد محمد الفاسي، أمنك الله ورعاك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد رُفع إلى علمنا الشريف، العمل الموسوعيّ الهام الذي أنجزتموه بجمع الشعر الملحون وترتيبه وتصنيفه، فحظي منا بالرضى والاستحسان. وإنه لعمل لا شك تطلب منكم الجهد الكبير، والوقت الكثير، في البحث، والتحقيق، والتمحيص والتدقيق. ولنا اليقين من أن الوقت والجهد وحدهما لا يكفيان لوضع مصنف في مثل دقة وشمولية هذا المصنف، بل إن مثل هذا الإنجاز يحتاج إلى الولع بهذا الفن البديع، والأدب الرفيع، وهي صفة عهدناها فيك منذ عرفناك …”.
وفي هذا المنحى، نشير إلى رسالة ملكية سامية أخرى، للملك محمد السادس – حفظه الله – التي وجهها لأمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، الأستاذ عبد اللطيف بَرْبيشْ بتاريخ يوم الخميس فاتح ربيع الثاني 1431 هـ، الموافق 18 مارس 2010 بمناسبة صدور ديوان الشيخ سيدي قدور العلمي، حيث قال جلالته ما نصه: “وقد سرنا أن تتولى الأكاديمية إحياء تراث المغرب بكل أنواعه وموضوعاته، وأن يقوم بذلك صفوة من الأساتذة المغاربة المختصين في الموضوع، وذلك في التزام بالمنهج العلمي المأخوذ به في نشر وإصدار كل صنف من أصناف التراث الوطني على الوجه الأمثل. كما ابتهجنا باهتمام الأكاديمية بنشر شعر الملحون الذي كان للشعراء والزجالين المغاربة باع طويل فيه، على مدى العصور الأخيرة، تعبيرا عن الشخصية المغربية، والتغني بما يختلج في نفوس المغاربة من مشاعر دينية ووطنية وعاطفية، فكان لهذا الملحون في تعبيره المباشر ولغته الشعبية دورُه الأدبي والحضاري في تشخيص الوحدة والتعلق بثوابت الأمة ومقدساتها، مُستحضرين الدواوين الثلاثة السابقة التي أصدرتها الأكاديمية، ضمن معلمة الملحون المغربي للشيوخ الكبار المغراوي والجيلالي امتيرد وابن علي ولد أرزين.”…
إنها نماذج من عناية ملوك وسلاطين الدولة العلوية، تُبين عن الأهمية الكبيرة التي يحظى بها فن الملحون في المغرب، وتجعلنا نفهم بعض الحيثيات التي جعلت المغاربة يتعلقون ويتولعون وينصهرون ويستمتعون بفن الملحون.
أما على مستوى الجمع والتوثيق والبحث العلمي الأكاديمي، فإننا نشير إلى جيل مؤسس ماهد، خط العديد من المسارات التي لا زلنا ننعم اليوم بتجلياتها وتداعياتها وطنيا ودوليا، ويتعلق الأمر ب:
- الأستاذ محمد الفاسي من خلال مشروع “معلمة الملحون“، وكذا إشرافه على أول مؤتمر لرجالات الملحون سنة 1970 بمدينة مراكش، تمكن في إثر ذلك من الوقوف على العديد من النصوص والمخطوطات التي أضافها إلى ما تجمع لديه من قبل، وكان من المنافحين على الثقافة الشعبية المغربية بصفة عامة، وعلى فن الملحون على وجه التحديد؛
- الدكتور عباس الجراري الذي أنجز أول رسالة دكتوراه في فن الملحون، وكان له الفضل في إدخال أدب وفن الملحون إلى الجامعة المغربية بمعية ثلة من الأقلام التي آمنت بأهمية الثقافة الشعبية المغربية في بعض تجلياتها الإبداعية، هذا بالإضافة إلى مشروع: “موسوعة الملحون” الذي أشرف عليه من داخل لجنة التراث التابعة لأكاديمية المملكة المغربية؛
- الشيخ أحمد سهوم عبر برامجه الإذاعية خلال مدة زمنية فاقت النصف قرن، إضافة إلى ذلك، يعتبر مُؤلفُه “الملحون المغربي” الصادر عن منشورات شؤون جماعية من أمهات المراجع التي لا محيد للباحث الجامعي والمهتم عنها؛
وبعد هاته المرحلة المؤسِّسة، جاءت أسماء أخرى مثل: عبد الله شقرون، عبد الرحمن الملحوني، عبد الله الشليح، منير البصكري، عبد العزيز بن عبد الجليل، عبد الصمد بالكبير، … إلى أن وصلنا في وقتنا الحالي إلى وفرة على مستوى الباحثين والمشتغلين بمناهج علمية حديثة دخل إلى معملها فن وأدب الملحون. يضاف إلى هاته الصحوة، انخراط المجتمع المدني المغربي عبر الجمعيات الفنية والثقافية في مواصلة العناية بطرائق أداء قصيدة فن الملحون، وقد ساهمت هاته الجمعيات من خلال عملها الدؤوب في سياق اللقاءات الأسبوعية، وعبر مهرجاناتها المحلية والوطنية على إعطاء شحنة إيجابية لتراث الملحون وللقائمين عليه على مستوى الشعر والعزف والإنشاد.
علاوة على ما سبق، يبدو جليا بأن إدراج فن الملحون المغربي في اللائحة التمثيلية للتراث اللامادي للبشرية لهو حق طبيعي للمغاربة، تمت تزكيته دوليا من طرف الهيئات التقريرية لمنظمة اليونسكو.
- أهمية إبراز قدرة أدب وفن الملحون على التعريف بالحضارة المغربية:
بعد هاته الحظوة الدولية الغير مسبوقة، بدا ضروريا بالنسبة للمشتغلين والمنتسبين لفن الملحون أن يعملوا على إبراز المظاهر الحضارية للمغرب عبر بوابة فن الملحون، فهو أحد أقطاب الرَّحى، وأحد المراجع التي وثقت لهاته الحضارة الضاربة جذورُها في التاريخ. إنه أحد الأجزاء الحيوية من الثقافة المغربية، حافظ على حركيته ورونقه في إطار بنية شعرية متكاملة، كانت في كل محطة من تاريخها تُطور نفسها، تحت مظلةِ مُختلف التعبيرات الشعبية العفوية، والموسيقى المتأثرة بالعديد من الأنماط الفنية التي كانت أذن الشاعر تستجمعها، حتى وقفنا على محطات عَروضية غاية في الإبداع الشعري الرصين.
اتسم فن الملحون برونق فريد تجلى في تنوع أغراضه، وعمقه الثقافي الذي حمله، ليشكل هذا الاعتراف الدولي أفقا جديدا للتعرف علينا من الخارج عبر تراثٍ وثَّق لجوانبَ عدة من الحضارة المغربية التي تمثلت في العمران والعادات والتقاليد والهندام والمائدة المغربية بكل أصنافها… وما شابه، كما حمل رسائل معاصرة تستحق الاحتفاء والحماية، وتفتح الأفق للحفاظ على هاته الثروة اللامادية، واستمرار تأثيرها الإيجابي في المستقبل.
لقد أضحى – اليوم – الاهتمام متزايدا لمقاربة قصيدة فن الملحون من مداخل أدبية وموسيقية وعَروضية ومنهجية، تُجلي ما استغلق على المبحر في هاته العوالم الفسيحة، ظهر من مخرجاتها بأن فن الملحون بشاعريته البليغة، وإيقاعاته العروضية المتنوعة، ومعانيه العميقة، ومضامينه البليغة، يجسد نموذجا للتنوع الثقافي في المغرب، ويعبر عن جوانب متعددة من حياة المغاربة، ويرسم لوحة فنية تعكس القيم والتقاليد الجَمْعية، تُعبر عن هوية مغربية غنية متنوعة.
وفي ذات السياق، تتجلى أهمية فن الملحون بوضوح في توطيد الهوية الثقافية للمغرب، على اعتبار أنه حمَّال للكثير من الرموز الكثيفة الدِّلالات التي تعكس تاريخ وتراث المجتمع المغربي، كما يساهم في نقل التقاليد والقيم الاجتماعية من جيل إلى جيل، مما يثري الفهم العميق للعديد من الهويات المحلية في ظل التكامل والوحدة الوطنية. فلا غرابة أننا سنقف في مستقبل قريب في سياق هذا الاعتراف الدولي، عند الكثير من المشاريع الثقافية والفنية والتوثيقية والغنائية التي تدعو إلى المحافظة على فن الملحون، وتعميق البحث في مكوناته وقضاياه، قد يراها البعض منا على أنها ترف فني أو فرجة مجانية أو تزجية للوقت؛ إنها أكبر من ذلك: فالملحون أداة للتواصل والتفاعل الثقافي بين أفراد المجتمع، ويمثل منبرا متحضرا للتعبير الفني عن القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية … وما شابه، عبر بنائه لجسور متينة من التواصل الثقافي بين الماضي والحاضر، في سياق يحتفي بالحوار والتواصل في مجتمع مغربي عزز الكثير من آليات التفاعل بين الأجيال.
- تداعيات إدراج فن الملحون في لائحة التراث اللامادي لليونسكو:
الأكيد أن إدراج فن الملحون في قائمة التراث اللامادي للبشرية لليونسكو، سترافقه تداعيات إيجابية سيكون لها الأثر المحمود على مكوناته الأدبية والفنية، وعلى المنتسبين إليه من مختلف مشاربهم، ومن هاته التجليات المحتملة نذكر ما يلي:
- تحصين الوعي الثقافي بأهمية فن الملحون وترسيخه وطنيا ودوليا:
+ نأمل بأن يتم تقوية الوعي بجدوى المحافظة على فن الملحون، وتطوير البحث في بعض مكوناته التي لا زالت عصية على الباحث، ومنها المبحث العَروضِي الذي يتطلب مزيدا من الاجتهاد والبحث، كما أن المدخل الموسيقي هو الآخر لم يصل بعد إلى الحركية العلمية التي وصلها المدخل الشعري والأدبي؛
+ إن هذا الاعتراف الدولي عبر منظمة اليونسكو، سيجعل من هاته الأخيرة ومن وزارة الثقافة المغربية وبعض الجمعيات الجادة، منصات موثوق بمخرجاتها لنقل تفاصيل أعمق حول الملحون، وتأثيره على الحياة اليومية في المغرب؛
ب – تعزيز السياحة الثقافية وطنيا ودوليا في ارتباطها بفن الملحون:
+ يفتح الاعتراف الدولي بفن الملحون أبواب السياحة الثقافية على آفاق رحبة، فالمتوقع أن يتنامى فضول زوار العالم لاكتشاف هذا التراث الفني الفريد، خصوصا وأن الطفرة التكنولوجية العالمية قادرة على لعب أدوار طلائعية في هذا المضمار؛
+ نأمل أن تسهم هذه الحظوة الدولية في تطوير قطاع السياحة الثقافية المغربية عبر جذب المزيد من الزوار للمهرجانات التي تعنى بفن الملحون على غرار ما شهدته مدينة الصويرة عقب تسجيل الفن الكناوي في لائحة اليونسكو للتراث اللامادي للبشرية؛
ج- تعزيز التفاعل الثقافي مع دول العالم:
+ يمكن أن يؤدي إدراج الملحون في لائحة اليونسكو للتراث اللامادي إلى دعم التفاعل الثقافي بين المغرب والمجتمع الدولي؛
+ على المستوى الوطني، يمكِّن هذا الإنجاز من فهم أعمق لبعض المظاهر الثقافية المغربية والتفاعل معها، مما يوطد التبادل الثقافي بين مختلف المشارب الاجتماعية المغربية، وفهم المجتمع المغربي؛
د- دعم المحافظة على فن الملحون في سياق المحافظة على التراث العالمي:
+ يُرتقب تيسير المزيد من الدعم المادي والمعنوي واللوجستي لجهود الحفاظ على الملحون في ارتباطه بالكثير من الأنماط الفنية المغربية الأخرى؛
+ كما يرتقب تقوية الوعي الدولي بأهمية المحافظة على فن الملحون كجزء لا يتجزأ من التراث الثقافي العالمي؛
هـ تأثير اقتصادي:
+ يُتوقع أن يحمل الاعتراف الدولي فرصا اقتصادية من خلال دعم الجمعيات المشتغلة على فن الملحون، ودعم المهرجانات الملحونية، ودعم الأفكار القادرة على إبراز أهمية هذا التراث؛
+ يمكن لهاته الحركية الدولية أن تُسهم في تحفيز الاقتصاد المحلي والوطني على السواء، عبر تثمين الصناعات الثقافية والفنية؛
إن النقاش العميق والجاد لكل هاته التداعيات في ارتباطاتها المختلفة، لمن شأنه أن يسلط الضوء على أهمية حدث إدراج فن الملحون في لائحة منظمة اليونسكو للتراث اللامادي للبشرية، وكيف يمكن لهذا الاعتراف الدولي أن يؤثر إيجابا على مختلف جوانب الحياة الثقافية والاقتصادية في المغرب؛
- التحديات والتطلعات المستقبلية:
1-4- التحديات:
إن التحليل الذي رافق هاته الورقة منذ بدايتها، حاول أن يرسم صورة وردية، في سياق أمل مشرق يرنو إليه كل المنتسبين لفن الملحون، إلا أن هذا الحماس قد يصطدم بالكثير من المطبات والمعيقات الذاتية والموضوعية، وهي عبارة عن تحديات نشير إلى بعضها كما يلي:
- تهديدات الضياع والتشويه:
يواجه فن الملحون تحديات متزايدة للحفاظ على أصالته في ظل عولمة متوحشة تتجه إلى محاربة الخصوصيات الثقافية المحلية، وتنميط التفكير المبدع المتعدد إلى تفكير أحادي الاتجاه، وهي تشوهات معاصرة تتحكم فيها الشركات المتعددة الجنسيات، وأنماط الإنتاج الحديثة التي تتجه إلى مثاقفة قوية لا تعترف بالتنوع إحدى السمات الأساسية للثقافات الأصيلة، والمظاهر الحضارية المغربية نموذج حي لها، مما يشكل تهديدا للخصوصية الثقافية المغربية؛
ب – ضغوط التكنولوجيا:
يعاني التراث اللامادي والملحون أحد ملامحه من تأثيرات الطفرة التكنولوجية الحديثة، التي تقودنا دون إعمال للعقل، ورغما عنا إلى سلوكيات ثقافية غريبة نُطبِّع معها بسرعة كبيرة، من شأنها أن تبعدنا عن أنماطنا التراثية الأصيلة حيث تتسارع وتيرة التغيير التكنولوجي، وتتسع الهوة بين الأصيل فينا والدخيل الذي توفرت له إمكانيات مادية كبيرة، قد يؤدي ذلك إلى فقدان الاهتمام بفن الملحون؛
ج – نقص التمويل والدعم المعنوي:
يمكن أن يشكل هذا الاعتراف الدولي بفن الملحون حلم ليلة صيف يدعم إيجابا انتظارات كل المشتغلين بهذا الفن، ويعضد من آمالهم الوردية في غد أفضل مما كان، لكن سرعان ما يستفيق الجميع على لا مبالاة أصحاب اتخاذ القرار، وعلى نقص في التمويل والدعم المعنوي، وهما أمران يمكن أن يؤثرا سلبا على جهود المحافظة وتنمية هذا التراث؛
4-2- التطلعات المستقبلية:
إننا لا نجانب الصواب إذا سمحنا لأنفسنا بارتفاع منسوب تفاؤلنا ونحن نردد قول الشاعر: كن جميلا تر الوجود جميلا، ونؤمن بالأمل الذي لولاه لضاق العيش، فملحوننا قاوم كل أشكال التعرية الثقافية، ووجد لنفسه مكانا رفيعا في المجتمع المغربي بشتى أطيافه منذ قرون، ولهذا يحق لنا أن نتماهى – متفائلين – مع مخرجات منظمة دولية ساهمت في الحفاظ على الكثير من المظاهر الحضارية اللامادية للبشرية في شتى بقاع العالم، وفي هذا السياق، نتطلع في مستقبل قريب إلى ما يلي:
- تكامل التكنولوجيا في الحفاظ على فن الملحون:
يمكن توظيف التكنولوجيا في جوانبها الإيجابية لتوثيق وحفظ فن الملحون، مما يعضِّد التفاعل والوعي به، ويحد من التأثيرات الضارة؛
ب – برامج تعليمية تحسيسية:
يجب تعزيز البرامج التحسيسية والتعليمية لتشجيع الشباب على تقدير وفهم أهمية فن الملحون، وتمكينهم من المساهمة في المحافظة عليه؛
ج – تعزيز التمويل والشراكات:
يتطلب الحفاظ على فن الملحون دعما مستداما، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إقامة شراكات مع القطاع الخاص والأعيان والمؤسسات الثقافية وكذا المجالس المنتخبة؛
- استخدام الفن للتنمية المجتمعية:
يمكن تدعيم دور فن الملحون في ترسيخ آليات التواصل الاجتماعي التي درج عليها المغاربة وتحسين التنمية المجتمعية، مما يمنحه أهمية إضافية في الساحة الثقافية الوطنية؛
هـ – تكامل فنون الملحون في العروض الدولية:
يمكن تسويق فن الملحون على المستوى العالمي دون مركب نقص من خلال مشاركته في فعاليات دولية، مما يرسخ التبادل الثقافي ويُسهم في توسيع الفهم العالمي للثقافة المغربية؛
على سبيل الختم:
تُظهر التحديات والتطلعات المرافقة لحدث إدراج فن الملحون في اللائحة التمثيلية للتراث اللامادي للبشرية أن مجال المحافظة على هذا التراث يتطلب استراتيجيات شاملة، تكون فيها الجهود موجهة نحو مزيج من التكنولوجيا والتعليم والتحسيس والبحث العلمي ودعم المؤسسات الراعية للثقافة والفنون لضمان استمراريته فنا ثقافيا مغربيا فريدا؛ فله الكثير من المؤهلات لكي يظل جزءا حيويا من التراث المغربي، ويستمر في إلهام الأجيال القادمة.
إن هذا الاعتراف الدولي من شأنه أن يتيح لنا فرصا عديدة لاستكشاف عمق تأثيرات فن الملحون على الهوية والتنمية في المغرب. ورغم التحديات، يظهر التطلع إلى المستقبل بعين متفائلة تؤكد على أن فن الملحون ليس مجرد تراث فحسب، بل هو أحد رموز التلاحم والتنوع الاجتماعي المغربي؛ فمن خلال استمرار جهود المحافظة عليه، نعمل على تنمية أدواره الفعالة في تعزيز التفاهم العابر للثقافات المتجاورة أو البعيدة، فبداخله قوة نستطيع أن نبني عليها جسورا ثقافية وطنيا ودوليا، نستمد منها إلهاما لبناء مستقبل يحمل تراثا حيا ومزدهرا.